30 مارس 2025 / 10:54

خُطورة المناهِج التّربوية على العقْل المُسلم

د. سمير عزو
لعلّ المُراقِب للسُّلوك البشري، يقف حائراً أمام الإزْدواجية و الإنْفِصام (1)، الذي يَطْبعُ شَخْصيّةَ بعضِ المُسلمين، و طُغْيان فِكرة النّمَط الواحد على العقل السّائد (2) في مُجتمعاتنا، حتّى أنّه لا يسُوغُ للفرْدِ التّميُّز و الإخْتلاف، أضف إلى ذلك النُّزوع إلى العُنْف، و تَبنّي أُطْروحات راديكالية لإقامة ما يُسمّى “الخِلافة”، ما يسُوقنا مُباشرة للبحث عن أصْل و جُذور هذه المُعْضِلات (3).

الكاتِب الياباني نوبوأكي نوتوهارا، الذي عاش بين ضُهْرانَيْهِم قُرابَة الأربعين عامًا، يرى من خِلال كتابِه (العرَب مِن وُجْهة نَظر يابانية)، أنّ “الدّين أهمُّ مَسألة تهتمُّ بها المُجتمعات العربية؛ و هو ينْهى عن الفساد؛ لكنّهم رغم ذلك أكْثرُ فسادا” ! ما يَدْعونا للتّساؤُل أين مَكْمَن الخَلَل ؟ لماذا تَجِد عندنا مَن يدْفع رَشْوةً، مِنْ أجل إدْراجِه ضِمن لوائح المقْبولين، للذّهاب من أجل تأْدِية فريضة الحجّ ؟، وهناك مَن يقتُل و يغْتصب، ثمّ تَجدُه يُصلّي بعد ذلك في نفس المسجد الذي يُراوِدُه أهْلُ الضّحيّة (4) ؟…

قد يقول قائلٌ؛ هي أعْمال فرْديةٌ يأْتيها الإنسان غير المُتَشبِّع بالإيمان، لكن في نفس السِّياق يقول الدكتور عدنان إبراهيم؛ “هُناك مِن النّاس مَن هم مُتديِّنون و في نفس الوقت يفْعلون الأفاعيل..”، ثمّ يسْترْسِل و يُضيف “تناوُل مسألة الصّحابة في الحديث يُبيّن اليوم وضْع العقل المسلم، الذي يَتراوح بين التَّفْرِيط و الِفْراط، إذ الشِّيعة الإمامية ينْتقصون (كثيرا) مِن حقِّ مُعْظم الصّحابة، في الوقت الذي يُفْرِط أهْل السُّنة و الجماعة، في تبْجِيلهم كلُّهم، لكنّ هذا الأخير (أي ٱحترام كلِّ الصّحابة) أخْطر على الأمّة مَنْهجيا و تَرْبَويًّا، لأنك حينما تقول: الصّحابي غيرُ مَعْصُوم و قد يزْني و يَقْتل و يغْتال..، و مع ذلك رضِي الله عنه و هو في الجنة، فهذا يُنْشِأُ نفْسِيات تُبرّر لِفِعْل الأفاعِيل”.

نفسيّات تقْتدي بمَن سلَف، يقول أصحابُها: ما دام المرْء مُسلما، تكْفيه عُمْرةٌ أو حَجّة “تغْسِلُه كي يعود كما ولَدْته أُمُّه”، دونما أن يفرّق بين حقوق الله و حقوق الخَلْق؛ و دون التّمييز بين السّيئة التي قد يغفرها الله؛ دون الكبائِر المُوجِبة للخُلود في العذاب.

و لطالما ترَبّت الأجْيال على أنّ “الإسلامَ يَجُبُّ ما قبْلَه”، و أنّ “اللّهَ غفورٌ رحيم”؛ و أنّه “لا ينْبغي الخَوْض فيما شَجَر بين الصّحابة”؛ لأنّهم كُلُّهم مَرْضيُّون و هم في الجنّة..

فلا تلُومَنَّ بالتّالي أحداً، إذا ما ٱقْتَرف المُوبِقات، ما دام الدّينُ يُلْبَس كطاقِيَةِ إخْفاءٍ للذّنوب !

بل الأذْهى و الأمَرُّ، أنّك عندما تتَّبِع المنْظومة التُّراثية مِن فِقه و حديث، مُحاولاً فَهْم مُعْظِلة عُقَلائية يُسمّيها الكلاسيكيُّون “شُبْهَة”، ستدور حينها دون جدْوى في حَلَبَة هذا الموْروث، حتى تخْرُجَ في الأخير إحدى إثْنين : إمّا مُلْحِدا رافضاً لكلِّ شيء إسمه دِين، أو مُوالِيّاً للحقِّ الواحد الأحَد “الذي ليس كمِثْله شيء”، و مثال ذلك تجده واضحا في أدبيات الفقهاء، الذين أسّسوا للجَبْر و الإِرْجَاء، فسُفِكَت الدِّماء بغير حقٍّ، و سُلِبَت الأموال و الحرّيات، تحت ذريعة نشْر الإسلام تارةً أو تحت طائلة دَرْءِ الفتْنة تاراتٍ أخرى.

و عليه؛ لا يَنْفَكُّ العقل العربي المسلم مِن “سُجون الماضي” (5)، و لا يتحرّر “العقل الفقهي” (6) مِن رَبَقَتِه، إلاّ بمُماسة الشّك المُؤدّي لليقين؛ الرّافِع لِأدْرانِ “للجهْل المقدّس” (7).
ـــــــــــــــــ
(1) عدم الإستقرار النّفسي للشّخصية المُسلمة، يتجلىّ في الإزْدواج و الإنْفصام، بحيث في الحالة الأولى يحْصل ٱضطراب الشّخصية الفِصامية، ما يُعرف بٱضطراب تعدُّد الشّخصيات، و هو ٱضطراب نفسي ناتج عن عدّة عوامل أبرزها التّعرض لِصدمة نفسية كبيرة، غالبًا ما تكون في مرحلة الطّفولة، تمتلك فيها كل شخصية سلوكيات مختلفة و تعامل مختلف. أمّا الإنْفصام في الشّخصية فهو مرض عقْلي ينْعكس على طريقة تفكير الأشخاص و شعورهم و تصرّفاتهم، هذا يتجلىّ في التوهُّم و التّفكير و السّلوك غير المُنظَّم، فتشمل هذه التّوهُّمات الإيمان بشكْل يقيني بأشياء غير صحيحة، ما يُفقِد هؤلاء الأشخاص الذين يعانون من هذه الحالة الإتّصال بالواقع، و يسْتئْنِسون بالماضي و يرجعون له في كل مرة و حين، من أجل التّنقيب على فتاوى و حلول، ما جعلهم يعيشون صراعَ هُويّة، يتراوحون بين تقْديس الماضي و مُحاولة تكْييف ٱعتباراته مع واقعهم المعاصر.
(2) يُقسّم لالاند العقل إلى : فاعِل سائِد، الأوّل يعني النّشاط الذِّهني، الذي يُمارسه الإنسان، و يتوفّر لكلّ النّاس. أمّا الثّاني، فهو يعني مجموعة القواعد و المبادئ، التي تُقدِّمُها الثّقافة، كأساس لٱكْتساب المعْرفة، أي النّظام المَعرفي.
(3) حسن فرحان المالكي في مقاله (هاكم أصول الدواعش)، يُعدِّد جرائم العهدين الأموي و العباسي، فيقول “و كان عمر بن عبد العزيز قد أبْطل سنّة بني أمية في قطْع الألْسُن؛ إلاّ أنّ الثقافة الدّموية الأموية كانت قد ترسّخت عند الفقهاء، و أنْعشها بنو العبّاس. و القصص كثيرة جدا، و قد جمعتُها في كتاب، و و جدت الدول و المذاهب كلُّها فيها من هذا العبَث، و يُسمُّونه حدوداً شرعية، و لكن أبْشع الدّول في ذلك بنو أميه، و أبشع المذاهب في ذلك النّواصب أتباع بني أميّة و المتأثِّرين بهم، و بنو أميّة أخذوها من معاوية، و معاوية أحْيا سنّة أمِّه هنْد بنت عُتْبة آكِلة الأكْباد، و سنّة أبيه أبي سفيان، الذي كان يزُجُّ برُمْحِه في شِدْقِ حمزة ! فهذه الشّراهة و التّفنُّن في التّعذيب و العقوبات، التي ما أنزل الله بها من سلطان، أخذَها الغُلاة عن النّواصب، و النواصب عن بني أميّة، و هم عن هند!… فقد أكلوا أحد الهاشميّين سنة 610 هـ ! بعد أن أفتى قاضي الحنابلة أنّه مُبْتدِع .. هذه الوحشية من أين ٱسْتمدُّوها؟ أليست وحْشية شيْطانية بشعة ؟ ثم يسمُّونها حدوداً شرْعية ؟”.
(4) جريمة ٱغتصاب و قتل الفتاة سميحة في نواحي مدينة الصّويرة في المغرب سنة 2023، ليعترف بعد ذلك عوْن السّلطة “شيْخ المنطقة” بٱقْترافه للجريمة التي صُدِمت السّاكنة من تفاصيلها خصوصا و أنّ المجرم شارك في البحْث عنها، غير أنَّ الصّدْمة كانت أنْكى و أقوى لكوْنِه كان يصلّي في مسجد المنطقة دون أن تبدو عليه أيّ علامة من علامات الخوف أو تأْنِيب الضّمير.
(5) سجون العقل العربي، طارق حجي.
(6) آلعَقلُ الفِقهيُّ، أبو أمامة نوار بن الشلي، دار السلام، مصر، 2008.
(7) محمد أركون، الفكر الإسلامي؛ قراءة علْمية.