19 أغسطس 2025 / 20:20

خواطر: عندما قابلت شيخ الزاوية البودشيشية

عبد الخالق حسين

1- بادئ ذي بدأ؛ رحم الله العارف بالله سيدي جمال بن العارف بالله سيدي حمزة بن العارف بالله سيدي العباس رضي الله عنهم أجمعين.

2- دعوني أصارحكم بأحد أشد الإكراهات سطوة على المثقف اليوم؛ وهو إكراه العقلانية المادية الاحادية الاختزالية؛ المستهزئة بكل ما هو روحي ومعنوي.

فلكي تكون عقلانيا معترفا بك في “ناديهم”؛ عليك أن تتستر وراء الكثير من النفاق والحذلقة اللغوية الافرنجية ضدا على استقلاليتك وابداعيتك وخصوصيتك وهويتك. وفوق هذا كشوفاتك وفتوحاتك؛ كن ضد وجودك وحضورك لتبدو عقلانيا عندهم.

هذا الذوبان في الغير وفقدان الحرية الذاتية يعتبره أهل التصوف المدخل الأكبر للشرك. فحرر نفسك من رؤية الغير والأغيار اولا لتجد نفسك؛ وبها ستجد ربك.

سوف أصارحكم من الآن؛ “لست عقلانيا” تحت هذا السقف. بل إنني “عقلاني”؛ عقلانية فوق العقلانية المجردة. وبتعبير الفيلسوف طه عبد الرحمان عقلاني بعقلانية مؤيدة!

فأنا “حبيت على الأرض على ركابيا// وقريت لي قريت بحال قراني” بتعبير جيل جيلالة في رائعتهم “يادوك اللايمين”.

3- دخلت ثانوية محمد الخامس بمدينة طانطان سنة 1989. وكنت نشيطا في الأندية الثقافية وإلقاء المحاضرات. وسنة 1991 قدت المظاهرة المشهورة تنديدا بالغزو الأمريكي للعراق، وضرب ملجأ العامرية.

لقد اعتقلت بعد المظاهرة مباشرة. كانت دماء الشباب الساخنة تجري في عروقي.

طموح وافكار حالمة وأشواق لا سقف لها. وتوثب لا يحسب للعواقب حسابا.

لكن كان “يلطف” من هذا الحماس جلسات هادئة يعقدها الحاج عمر العلمي رحمه الله (صهري في ما بعد) في بيته بحي المسيرة؛ بمدينة طانطان “كل ليلة سبت”.

إنها ليلة فقراء الزاوية البودشيشية. تتضمن تلاوات قرآنية وامداح نبوية بأصوات شجية؛ ومواعظ حول أخلاق سيدنا رسول الله؛ ورقائق تذكر بسير وقصص الصالحين.

ويعطر الجلسات بخور ينعش الروح. وما لذ من الطيبات خاصة انواع السمك الطري؛ فقد كان ميناء طانطان مصنفا آنذاك الاول عالميا؛ صيدا وتصنيعا؛ خاصة نوع السردين.

كنت ادخل الجلسة الصوفية وأخرج منها كأنني ولدت من جديد. لا أحد يسألك عن سبب حضورك!. كان الباب مفتوحا للجميع: هذا معلم، وهذا مدير، وهذا تاجر، وهذا نجار، وهذا بقال، وهذا عاطل عن العمل.

لم أعرف الا بعد شهور؛ بأن الشيخ الوقور الذي يسير جلسة الذكر، هو”سيدي مولاي اسعيد” مقدم الزاوية البودشيشية بأكادير. كان رجلا ربانيا مستغرقا في الذكر؛ اذا رؤي ذكر الله. كثير التصدق. دائم التبسم.

أخبر بأنني تلميذ نشيط وإمام للتلاميذ بالثانوية؛ وأجيد إلقاء الدروس؛ فقربني وطلب مني يوما ان اجلس بجواره؛ ثم اذن لي بالقاء درس في تلك الليلة.

بعدها مدحني وأثنى على درسي واخرج من جيبه سبحة جميلة وقال لي: (أذكر بها الله؛ أكثر من لاإلاه إلا الله؛ بعد صلاة الفجر؛ وبعد صلاة المغرب. وسوف ترى عجبا!). لم أحمل كلامه على محمل الجد. فقد كانت عقلانية الرأس مهيمنة على عقلانية الروح والقلب!

4 – التحقت بجامعة ابن زهر بمدينة أكادير؛ وكان مقر الزاوية محاديا لسور الجامعة.

كنت مناضلا طلابيا داخل الحرم الجامعي. عند تقديم اللائحة المطلبية لعمادة الكلية اكون في مقدمة المفاوضين. وقد أعقد “حلقة جماهيرية” لمناقشة قضية فكرية “كالعولمة” او” مستقبل التعليم” فأتناول الكلمة بالساعات: اسرد واشرح واحاجج. كنا نتمتع بطاقة جدلية خارقة. وكان تخصصي الثقافي بعد تخصصي في الدراسات الإسلامية هو القضية الفلسطينية؛ كنت مولعا بمتابعة كل ما يكتب عن فلسطين؛ أعرف تاريخها من فترة ما قبل التاريخ؛ وأهضم القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن بحيثياتها وخلفيات صدورها؛ بل كنت احفظ منطوق بعض القرارات بصيغتيها العربية والإنجليزية. كان الجدال مع اليسار: هل هي قضية دينية أن قضية اقتصادية؟

التقيت في حفل الاستقبال الملكي بالمضيق هذه السنة أحد أشرس خصومي في الجامعة عن التيار اليساري الاستاذ محمد شهيد برلماني عن الفريق الاشتراكي اليوم. من النظرة الأولى عرفني وعرفته. استرجعنا ذكريات الخصومة الايديولوجية في صحن كلية الآداب. ضحكنا على بعض من “طفولتنا” وسذاجتنا الطلابية في الجامعة؛ التي منها: أننا كنا نعتقد أننا نحن الطلبة هم مركز الكون؛ وأنبياء التغيير؛ والقادرون على صناعة التنمية والتقدم في مؤتمر واحد لأوطيم!

لكني أشهد أن الاستاذ شهيد كان مثقفا متوازنا؛ متخلقا؛ يغلبه الحياء أثناء المناقشات الطلابية؛ وكان من دعاة الحوار ونبذ العنف في الجامعة. وقد تأكد لي من خلال جلستي الأخيرة معه بأنه ينتمي لأسرة مسقية بأخلاق التصوف وتقدير أهل الله من الفقهاء والأولياء. الحمد لله على نعمة إمارة المؤمنين التي تجعل السقوف الايديولوجية للفرقاء تنتعش تحت السقف الموحد الجامع “سقف التوابث” الوطنية وعلى رأسها السلطان والإسلام وأخلاق التصوف والمصلحة العليا للوطن.

5 – كنت بعد تعب المجادلات الطلابية؛ والمطارحات الايديولوجية التي لا تنتهي؛ اقابل الشيخ سيدي مولاي اسعيد في زاوية حي الداخلة؛ يقابلني بابتسامته المعهودة؛ فانحشر وسط جمهور الذاكرين. فأحس بهاتف باطني يهمس بي:” الطريق الجدالي والصدامي الذي تسلكه لن يوصلك إلى الله!

لم يكن سيدي مولاي اسعيد يصرح لي بذلك. فقد كان كلامه عسل وسمن مصفى؛ لا يعاتب أحدا. ولكن ككل العارفين بالله؛ كان حديثه إشارات مرموزة يلفها الغموض كمن يهديك (حبة الماس) داخل “صدفة” محكمة الإغلاق.

غموض يقول المتصوفة؛ أنه “لا ينجلي” لك؛ إلا بكثرة ذكر الله والصلاة على سيدنا رسول الله.

ملازمتك ذكر الله؛ هو الذي تجاهد به “انت” جهالات نفسك.

لا أحد يقوم مقامك. هو جهادك أنت. هي رياضتك انت. “ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه”.

هذه رموز روحية لا يفك أسرارها إلا مدد من الله؛ ومدد الله يكون بالواردات الرحمانية. و”الوارد” لا يكون إلا بالورد. و”الورد” هو السبحة وهو مكان “الشرب”. فاروق عطش نفسك بنفسك.

كنت أعجب من صنيع فقراء الزاوية بحي الداخلة بأكادير؛ لا يردون سائلا. مطبخ الزاوية يشتغل على مدار اليوم.

هذا فقير، وهذه ارملة، وهذا عابر سبيل، وهذا طالب علم. من طلب الطعام، أطعم. ومن شاء المبيت استقبل. ومن سأل المساعدة أعطي. كنت مذهولا من طاقة التحمل التي يتمتع بها الشيخ سيدي مولاي اسعيد.

في إحدى الليالي نادى علي؛ وطلب مني أن اقصد مقر الزاوية بلباس عصري وليس تقليدي!

ارتديت بذلتي على عجل، والتحقت به؛ وجدت موكبا من السيارات أمام باب الزاوية؛ يضم فرقة السماع والمديح؛ وبعض الاساتذة والاطر؛ ركبت سيارته مسرعا؛ وانطلق الموكب في شوارع أكادير. لنجد أنفسنا داحل باحة فندق فسيح؛ ويبدو أنه فندق من نجوم كثيرة. دخلنا قاعة جميلة مكشوفة السقف. مزينة بالشموع؛ يجلس إلى موائدها عدد من الشخصيات الأجانب ذكورا واناثا. علمت بعد مدة؛ بأنه حفل لجمع التبرعات لمؤسسة خيرية في (أولاد تايمة).

ألقيت كلمة حول “المحبة” كانت بالقرب مني فتاة مترجمة إلى اللغة الإنجليزية.

تمتع الحضور بوصلات صوفية ومديح نبوي رائع. كان مقدم الحفل صحفي من قناة تلفزية وطنية على ما اذكر. بدأت أفهم بعضا من مجالات عمل اهل التصوف؛ إنهم يرفعون ذكر الله والصلاة على رسول الله في كل مجمع ومكان. وهي إحدى مميزات العمل الديني في الزاوية البودشيشية.

6 – اقتربت ذكرى المولد النبوي (12 ربيع الثاني) وهو المناسبة التي يحييها الفقراء في الزاوية (الأم بمنطقة مداغ) قرب مدينة بركان.

اعدت العدة واستقلينا الحافلة. في الحقيقة هي رحلة سياحية أكثر منها سفر عادي. فالرحلة تؤطرها لجان متعددة؛ لجنة التنظيم، ولجنة الطبخ، ولجنة الخدمات، ولجنة الأمداح، ولجنة النظافة. فكلما بدا منظر طبيعي جميل توقفت الحافلة وبسطت الافرشة وهيئت القدور. وتحلق الفقراء حول موائد الشاي وصدحت الحناجر بذكر الله وأمداح سيدنا رسول الله.

فخلال ايام الرحلة يتعلم الفقير – وبيننا عدد كبير من التلاميذ والطلبة- يقضي (يوما نموذجيا من حياة رسول الله): ذكر مستمر؛ وصلوات خمس في الوقت؛ وتخلق بالرحمة والتعاون والصبر. والتدرب على العطاء وخدمة الآخرين.

7 – كانت زيارتي الأولى لمقر الزاوية بمداغ والنعيمة سنة 2006. بعد حصولي مباشرة على دبلوم الدراسات المعمقة في الأديان المقارنة.

دخلت حرم الزاوية وهي بنايات متراصة على أرض فلاحية خضراء واسعة. دخلنا على الشيخ العارف بالله سيدي حمزة رحمه الله. وجدت عشرات العلماء من كل الجنسيات. كل دول الارض هنا. من الولايات المتحدة واوروبا ودول اسيا.

عقدنا لقاءات فكرية مطبوعة بطابع التصوف؛ وجوهره التواضع وعدم الادعاء. لا أحد يدعي إنه يملك حلا اجتماعيا أو اقتصاديا لآلام الناس. ولكن الشيخ يذكر بالله. وينبه على ملازمة الذكر وإصلاح الباطن؛ فبصلاح الباطن تصلح الاخلاق. فالإنسان لا يصلح الا بالتربية الروحية؛ فيبارك الله في العلم والجسم؛ ويلهم الإنسان من الانوار والاسرار والهداية ما لا يخطر له على بال. فيكون المصلح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ربانيا يرى بنور الله ويتكلم بنور الله. فيوفقه الله في مسعاه. “فأنزل الله السكينة عليه وأيده بجنود لم تروها.

8 – قابلت هناك عند الشيخ سيدي حمزة الخبير الفيتنامي طاوشان وهو خبير دولي في رسم الاستراتيجيات العالمية.

وقابلت سيدي أحمد عبادي الأمين العام للرابط المحمدية للعلماء؛ الذي مددت يدي لأصافحه فسارع إلى تقبيلها. وقابلت فيلسوف المنطق المعاصر الدكتور طه عبد الرحمان. أناس تذوب نفسك خجلا أمام سمو أخلاقهم.

في ليلة باردة من ليالي المولد النبوي أذن لنا بزيارة سيدي “حمزة رحمه الله؛ كانت زيارة “خاصة جدا.

أذكر أنها كانت عند منتصف الليل.

كان برفقتي أفراد من أسرة بوعيدة العريقة في الصحراء عمر بوعيدة رحمه الله؛ والدكتورة امباركة بوعيدة؛ والمحامي عبد الحميد بوعيدة؛ ورافقنا مقدم الزاوية بكلميم الصديق الخضير ميتو.

أذكر اننا دخلنا غرفة بسيطة مؤثثة بالمصاحف والسبح؛ سيدي حمزة قليل الكلام؛ ولكنه ينطق بكلمات محسوبة يكررها على مسمعك لتعيها أذن واعية؛ يسألك عن أحوالك وعن أسرتك؛ ثم يلقي لكل واحد نصيحة تخصه؛ تدور حول مجاهدة النفس وإصلاح السرائر. أصدقكم القول: منذ تلك الجلسة؛ أصبحت أعي أن هناك (ما قبل؛ وما بعد) في نظرتي الباطنية للحياة؛ وهذا هو القدر الذي يمكنني الخوض فيه!

أذكر أن سيدي حمزة بعد أن ذكرنا بأهمية الإكثار من قول لاالاه الا الله. وجه كلامه الى سيدي عمر بوعيدة رحمه الله؛ وقال كلمة مؤثرة نقشت في ذاكرتي: (أنتم الذين أنعم الله عليكم بالأموال؛ لكم محاسبة خاصة عند الله؛ فاكثروا الإنفاق في سبيل الله).

9 – سوف اخبركم بسر “وسيبقى سرا رغم البوح به” وقد يستجلب نقاشا فكريا. فعادة النفس حب الجدال؛ ولكن يبقى إشارة أكثر منه عبارة.

إن مقابلتك الولي؛ بشرط أن تدخل عليه بتواضع وبلا ادعاء؛ سوف تسقيك “سقيا روحانية” تحس بها تسري فيك بلطف وتغير نظرتك للحياة.

فيكفي ان تحضر ليلة مولد نبوي هناك؛ لتشهد كيف تجتمع القلوب على الله واسمائه الحسنى: الجمال والجلال والكمال. كل يحمل سبحته؟ ويراقب (قرينه/ شيطانك) داخل نفسه. الذي يصبح بوسوسته مكشوفا وسط الذاكرين؛ تسمعه يوسوس في اذنك: ماذا تصنع هنا؟

التدين الفردي هو الخلاص والاخلاص.

ثم يردف؛ أتظن أن بحضورك هنا سوف تهزمني؟

انسحب من هذا المكان واخرج من بين هذه الجموع. فالسبحة بدعة والذكر الجماعي منكر؟؟

ينتصر القرين على الشخص؛ مادام الشخص يشهد نفسه. وينحجب عنه المذكور سبحانه.

تجربة الكثير من الناس أنهم ضحايا أنفسهم. ضحايا علمهم المحدود بالله.

الم يكن ابليس يعرف الله؟ لكنها معرفة ترى النفس/ الأنا الإيغو. قبل رؤية الله.

يتكلم مع الله ويقول: (أنا خير منه خلقتني من نار)!.

في قمة التناقض والصلف. عندما تتحدث النفس أمام خالقها؛ ناظرة الى ذاتها؛ مؤلهة نفسها؛ ساجدة لصنمها!

إن جماع الدرس الصوفي: اهزم “اناك” لترى الله.

(أرأيت من اتخذ إلاهه هواه، وأضله الله على علم). نعم الضلال مع وجود العلم والشواهد العليا والمكانة الدنيوية!

يخرجك “شيخ التربية” من هذه العبودية الخفية؛ ليدخلك في “جهادك الاكبر” مع نفسك. جهاد يجب أن تخوضه أنت بروحك ضد نفسك. لن تنفعك مكتبتك وعقلانيتك.

بل احذر أن يكون علمك مصدر ضلالك!

فالعارفون يقولون: (العلم حجاب). ويقصدون الانسان الذي يعتقد أنه بامتلاكه منطق اللغة والتحليل والكتابة قد “فهم وعرف وتملك وتحكم” في نفسه وهواه! الشهوة تقتل العقلاء. وتذمر الأذكياء!

ألم تر. أو تسمع عن كثير من علماء النفس والمتخصصين في امراض النفس؛ يبحثون عمن يعالج مشاكلهم مع أنفسهم !؟؟

تسمع من سيدي حمزة: (عدوك بين اضلعك. لا تخاصم ولا تعادي ولا تحارب أحدا. خاصم نفسك انتصر على أهوائك)

10 – كانت “والدتي الأمية” التي لم تدخل مدرسة قط في أواخر السبعينات تصنف القمامة التي سترمي مع الازبال؛ هذا كيس فيه الخبز اليابس وهذا فيه بقايا الخضر؛ وهذا فيه الزجاج المكسور؛ أما نفايات السمك والسردين فتمهل حتى تقطر ثم توضع في كيس خاص يمنع التسرب؛ من علم الوالدة هذه العناية بترتيب وتصنيف القمامة ؟

إنه بعض من توجيهات أهل الله في الزوايا والرباطات. وما كانت النساء يلتقطنه من التوجيهات في مواسم الذكر والصدقات.

كانت إرشادات ونصائح الأولياء تؤخذ بجد وقوة وتتحول إلى سلوك مدني اجتماعي. فاين نحن من أمية والدينا؟ نحن المثقفون جدا جدا؟ العقلانيون حتى النخاع؟

فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور!

والقلب دواؤه ذكر الله والتواضع مع الخلق.

11 – تفرض عليك العقلانية المعاصرة بتقاليدها غير المكتوبة؛ “أن تخجل” وتعتذر قبل أن تبوح بتجربتك الروحية الشخصية. حتى ولو كانت تجربة عقلانية ناجحة نافعة؛ وتعيش في ظلها أجمل وأكمل وأغنى حياة.

غير أن أهل الله يعلموك الدرس الأول من دروس الانسانية؛ كن انت، ولا تكن نسخة من أحد، حتى ولوكان أشهر فيلسوف عقلاني في عصرك.

فأنت هو المخلوق الذي سجدت لك الملائكة؛ لأنك أكبر من كل فلسفة؛ وأعمق من كل عقلانية.

فأنت الكون كله. إذا عرفت نفسك. ففي سبيل معرفة النفس ضحى العقلاء بالنفس من أجل اكتشاف أرواحهم.

وقطعوا الارض رحلة بحتا عن أهل السر من الأولياء.

وسط هذا الطوفان من الافكار والفلسفات والقصف الاعلامي والرقمي وأمواج الواقع بكل تقليعاته الاجتماعية وسوق البشرية بتعبير عبد الوهاب الدكالي. فقد الناس توازنهم وقدرتهم على التمييز والاختيار. وتبقى المدرسة الصوفية دالة على الله. زاوية هناك بعيدا عن الوسط المتموج. زاوية للعزلة الروحية. وللتأمل والتدبر. لإعادة الرشد والتوازن للنفس والروح.

12 – من خلال تجربتي الصوفية بالزيارة والمصاحبة والرحلة والممارسة؛ استجمع الزاد والصيد؛ لأقول: ما قاله صاحب قصيدة: “ما لذة العيش الا صحبة الفقراء”.

لقد وضع بهذه الأبيات خريطة طريق نفسية وليست عقلية؛ لمن شاء السقيا والمدد. لأن العقل سوف يدخلك منذ البيت الأول جدلا لا نهاية له !

 يقول سيدي أبو مدين الغوث:

ما لذَّةُ العيشِ إلّا صحبةُ الفقرا

هم السلاطينُ والساداتُ والأمرا

فاصحبهُم وتأدَّب في مجالسهِم

وخلِّ حظَّك مهما خلّفوكَ ورا

واستغنم الوقتَ واحضر دائما معهم

واعلم بأن الرضى يختص من حضرا

ولازِم الصمتَ إلا إن سُئِلت فقُل

لا علم عندي وكُن بالجهلِ مستتِرا

ولا تر العيب إلّا فيكَ معتقِدا

عيبا بدا بينا لكنَّه استتَرا

وحُطّ رأسك واستغفر بلا سببٍ

وقُم على قدم الإنصافِ معتذِرا

وإن بدا منك عيبٌ فاعترف وأقم

وجه اعتذاركَ عمّا فيك منكَ جرا

وقُل عبيدُكُم أولى بصفحِكمُ

فامحوا وخُذوا بالرفقِ يا فقَرا

هم بالتفضُّلِ أولى وهو شيمتُهُم

فلا تخف دركا منهُم ولا ضَرَرا

وبالتفتي على الإخوانِ جد أبدا

حار ومعنى دركا منهم ولا ضرَرا

وراقب الشيخ في أحواله فعسى

يرى عليك من استحانهِ أثَرا

وقدم الجدَّ وانهض عند خدمتهِ

عساهُ يرضى وحاذِر أن تكُن ضجِرا

ففي رضاه رضى الباري وطاعتهِ

يرضى عليك وكُن من تركها حذِرا

واعلَم بأن طريق القوم دراسة

وحال من يدّعيها اليوم كيف ترى.

13 – لقد جالست سيدي جمال رحمه الله. رباني تحفه السكينة.

وجالست سيدي منير؛ وسيدي معاذ أكثر من مرة.

إنك تشعر بمجالستهم أنك في حضرة روحانية متعالية. تغمرك منظومة الاخلاق الاسلامية السامية وقد تجسدت نماذج حية معاصرة.

لقد صدمني صنيع سيدي حميدة نجل سيدي حمزة رحمهما الله؛ وكان عاملا لصاحب الجلالة على “اقليم بركان” عندما قام ليصب الماء قبل وجبة العشاء بمقر الزاوية على الضيوف وانا منهم؛ ومنهم رؤساء مصالح تحت إمرته وسلطته.

وقد رأيت شبابا أوروبيين حديثي عهد بالإسلام؛ ينظفون مراحيض ومطابخ الزاوية فسألت عن الأمر؛ فقيل لي: “مدخل التربية الصوفية: التواضع وخدمة الخلق”.

لن تدخل فضاء التربية الروحية؛ إن لم تتواضع؛ وتخدم غيرك؛ إن لم تعط من جهدك ووسعك للناس.

تكبرك عن العطاء “مانع” وحجاب لك عن المدد الروحي.

فمدخل التصوف العطاء محبة الخير للعالمين.

الكثير مما اريد قوله يكفيني عن قوله؛ ما باح به أبو حامد الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال خصوصا في المقدمة. فالعبقري وفيلسوف زمانه بلغ حد الضخمة العقلانية تدريسها وتأليفا؛ فتوجه ليرتوي روحيا وينحشر مع أهل الله من الفقراء في الزاوية. فدخل التجربة الروحية ليعلن على الناس (الصوفية هم سادة الخلق). وعقلانيتنا أمامهم كالطفل يلهو ببعض العابه.

ينحجب الناس عن فهم ودخول التجربة الصوفية لسبب بسيط يلخصه الصوفية في “حجاب المماثلة”. الناس محجوبون ببشرية الشيخ كما حجبوا بشرية النبي (وقالوا ما لهذا الرسول ياكل الطعام ويمشي في الأسواق).

والموفق من اخترق البشرية نحو الروحانية.

انتصر على نفسك فقط. تدخل الحضرة. والحضرة ليست كلاما نظريا. انها الحضور مع الله. إنها مقام الاحسان: أن ترى الله أو تكاد تراه. أن تعبد الله كأنك تراه.

14 – خلاصة تجربتي وزبدتها: لقد زرت شيخ الطريقة (بتعبيرنا المدرسة الروحية) وجالسته. وحضرت ليالي الذكر والمديح بعدد من المدن المغربية. وسافرت مع فقراء الطريق بل وعدد من الطرق الصوفية الأخرى. فكل الطرق إخوة في طريق الله؛ كما قال سيدي الشيخ ماء العينين رحمه الله: “إني مؤاخي كل الطرق”. وقد قال العارفون: (الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلق). وقد شاركت في العديد من الملتقيات الثقافية والتربوية للزوايا الصوفية.

والقدر الذي يفيد الكلام فيه حالا: أن من حرم نفسه مجالس الأولياء، وحرم أسرته الدخول ورؤية أهل الذكر في الزاوية. وحضور ليالي روحانية الفقراء. فقد حرم خيرا كثيرا؛ وأضاع على نفسه وأهله تجربة وجودية حية “لكلام كنا نقرأه ونسمع عنه” عن أهل السر والبركة والفتح من السلف.

فقم فتح الله بصيرتك برحلة استكشافية؛ اعتبرها رحلة ثقافية وبحثا أنثروبولوجيا. فقط، أصدق النية مع الله. وسوف تجذبك روحانية لطيفة على قدر صفاء سريرتك. فالإمداد على قدر الاستعداد.

فإن لم تستطع. اولم تسمح لك الظروف: “فامسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيبتك”.

فما تطلبه أمامك.

فرحم الله سيدي جمال.

وأسأل اللطيف سبحانه؛ أن يديم أمداد السر على ذريته. وأن ينفعنا بصحبة العارفين. والتواضع معهم أحياء وأمواتنا. ويحسن مملكتنا بدعائهم. ويحفظ مولانا أمير المؤمنين بسر سلكهم وبركات وأنوار أذكارهم.