محمد جناي
يتصدر التطرف والغلو والإرهاب قضايا المجتمع المؤثرة، لتعدد أبعاده وتشعب تأثيراته واختلاف توجهاته، بل إنه يشكل محورا أساسا من الاهتمامات السياسية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية، ليس على مستوى الوطن والمنطقة فحسب، وإنما على مستوى العالم أجمع، لما تتضمنه قضايا التطرف من تأصيل لمنهج فكري يشكل البذرة والنواة التي يتولد عنها الغلو والعنف والإرهاب، ويجري نشر التطرف والترويج له بين شرائح المجتمع المختلفة من خلال استقطابهم بوسائل متباينة وطرق مدروسة ومنهج مخطط يتم تحديثه بصفة مستمرة، بما يتلاءم مع تغيرات العصر وتقدم التقنية وظروف المجتمع؛ وذلك للتأثير على الفئات المستهدفة والتي يشكل الشباب جُلّها ومحورها، باعتبارهم الطاقة المشتعلة نشاطاً وحيوية، والوعاء العقلي الجاهز للشحن والتغذية بالأفكار والمستهدفات المقصود زراعتها وتوجيهها، وبما يخدم توجهات عقول منحرفة وتحقيق أهداف هدامة وتجسيد رؤى تتولى وضع تلك الخطط والاستراتيجيات الهدامة، من خلال أفراد وشخصيات مختلفة، والتي تجد في الشباب الثروة الفاعلة الثمينة والأمل المستقبلي والصفحة البيضاء التي يسهل اللعب فيها بما يمكن تشكيلها وصناعتها، لبلورة أهداف مقصودة وتطلعات مرسومة وفق خطط مدسوسة تُحارب القيم والمبادئ المجتمعية المتعارف عليها، وتُهدد الأمن والاستقرار الوطني، وتزعزع التآلف والمودة الموروثة في البنية المجتمعية للنسيج البشري الوطني (1).
أولا: تعريف التطرف والغلو:
التطرف لغة : من تطرف تفعّل ، بتشديد العين، قال ابن فارس:”الطاء والشراء والغاء أصلان ،فالأول يدل على حد الشيء وحرفه، والثاني: يدل على حركة فيه. وقال الراغب الأصفهاني :”طرف الشيء : جانبه، ويستعمل في الأجسام والأوقات وغيرهما.
ومعناه: الوقوف في الطرف بعيدا عن الوسط، ويأتي التطرف بمعنى تجاوز الحد وعدم التوسط، وعلى ذلك يطلق لفظ التطرف على كل من غالى في الأمر وتجاوز حد الوسط فيه، يقال: تطرف، أي تجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط، وابتعد عن الجماعة.
فالتطرف هو مجاوزة الحد والخروج عن القصد في كل شيء، فهو نقيض التقصي، وأصله في المحسوبيات: الوقوف في الطرف بعيدا عن الوسط، كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي، ثم إنتقل إلى المعنويات، كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك.
فيشير مفهوم التطرف: إلى حالة من التعصب للرأي تعصبا لا يعترف معه بوجود الآخرين، وجمود الشخص على فهمه جمودا لايسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، ولامقاصد الشرع، ولاظروف العصر، ولابفتح نافذة للحوار مع الآخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم، والأخذ بما يراه بعد ذلك أنصع برهانا، وأرجح ميزانا.
والتطرف يطلق على: مجموعة من الأفكار الدينية والسياسية والاجتماعية، حاول المتطرفون من خلالها، ومن خلال الانضواء تحت لواء الإسلام تحريف الدين عن مبادئه وأصوله، والنيل من سلطته وهدمهما معا دونما فصل أو تمييز بينهما(2).
وأما الغلو فهو أخص من التطرف إذ إن التطرف هو مجاوزة الحد والبعد عن التوسط والاعتدال إفراطا أو تفريطا، أو بعبارة أخرى: سلبا أو إيجابا، زيادة أو نقصا، سواء كان غلوا أم لا، إذ العبرة ببلوغ طرفي الأم، فالغلو أخص من التطرف باعتبار مجاوزة الحد الطبيعي في الزيادة والنقص، في حال النقص يسمى غلوا إذا بالغ في النقص.
والتطرف: الانحياز إلى طرفي الأمر، فيشمل الغلو، لكن الغلو أخص منه في الزيادة والمجاوزة، ليس فقط بمجرد البعد عن الوسط إلى الأطراف، أو بمعنى آخر: كل غلو فهو تطرف، وليس كل تطرف غلوا.
ثانيا :أنواع التطرف:
1. التطرف الاعتقادي الفكري: وهو الاعتقاد بآراء خاصة ويتعارض مع القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة .
2. التطرف السياسي: هو ممارسة السلطة بتعسف ودكتاتورية ومصادرة الآراء السياسية المخالفة لتوجهاتها.
3. التطرف العلمي: هو استعمال العلم في غير مضامينه الصحيحة كأن يكون إنتاج الأسلحة المحرمة دوليا وكذلك إنتاج العقارات التي تنشر الأمراض وكذلك في صنع المواد الكيماوية التي من أجل الأرباح وزيادة الأموال على حساب الناس، وأيضا مصادرة الجهود العلمية من الشركات الاحتكارية ونسبها لغير مؤلفها مقابل الأموال.
4. التطرف الدولي (الإرهاب): وهو إحداث الذعر والخوف في أراضي الدول بأساليب مختلفة كتفجير القنابل وهدم المباني وتجريف الأراضي الزراعية والمفخخات والقتل على الهوية وغيرها(3).
ثالثا:التطرف و إثارة العاطفة الدينية:
ولما كان التطرف يعني الابتعاد عن الوسطية والاعتدال فهو آفة ووباء فكري عانت منه الأمم في مختلف العصور، ولا تزال تعاني وتعيش في نكباته وإفرازاته، ويتعاضد كل من التطرف والغلو والإرهاب في منظومة متكاملة متوالية، تتمدد وتنكمش تبعاً لطبيعة المناخ المجتمعي السائد والظروف السياسية والاقتصادية المسيطرة على الواقع المجتمعي، ولعل من أوضح سماتها التآكل والتحلل في العلاقات المجتمعية، وما ينجم عنها من وهن وضعف واضطراب ومشاكل تهدد نسيج الأسرة والُلحمة الوطنية وأمن الدولة وتنميتها، بالإضافة إلى امتداد أبعاده للتأثير على مجريات الأحداث والسياسات في المجتمع الدولي وفي طليعة دعائم التطرف إشعال عشوائية العاطفة الدينية، بعيدا عن العلم وفقهه والرشد وحكمته، ومشعلو العاطفة الدينية، بعيدا عن هدي الإسلام وسمته الحكيم هم خط إنتاج ،“المواد الأولية لصناعة التطرف “ولهم تسلل قوي لاختراق ضحالة الوعي.
وتعد إثارة العواطف الدينية “المجردة عن الوعي “السبب الأهم في الجناية على منهج الاعتدال، وقد كانت منصات التواصل والتأثير عبر سنوات مضت سببا في وقوع بعض الشباب في شراك أجندة التطرف الحزبي وما يحمله من وقت لآخر من أساليب التمويه والمناورة.
يعتمد التطرف اعتمادا رئيسيا على العاطفة الدينية المجردة عن الوعي، وعلى قدر ضعف أدوات التحصين يكون حجم الاستهداف والتأثير، ولذا يكثر رهان هذا الفكر على بعض الأقليات، مستغلا أصوات التطرف المقابل الناشئ عن مجازفات ظاهرة الإسلاموفبيا لتأجيج الصراع الديني والثقافي (4).
رابعا : في طليعة أسباب التطرف:
1. الجهل بتأويل النصوص الشرعية، وعدم استيعاب مقاصدها .
2. اجتزاء النصوص “أخذا ببعضها دون البعض.“
3. الجهل “بفقه المآلات“ وهو من أهم ركائز التأسيس العلمي في تكوين: “شخصية الاعتدال“ (الديني والفكري)، ويُقصد به النظر فيما يترتب على الاجتهاد الفقهي من آثار، بحيث يتجاوز به العالِمُ الإطارَ المحدود والضيق إلى سَعَةِ الشريعة وشمول نظرها.
4. الوقوع ضحية تسلل الجماعات المتطرفة دون تحصين علمي وفكري كاف في توقيته الاستباقي المناسب.
5. الخطاب الديني البعيد عن سماحة الإسلام ورحمته بالعالمين حيث صنع هذا الخطاب في بعض المجتمعات المسلمة حول العالم عناصر مصادمة للفطرة الإسلامية المؤلفة للقلوب وهي التي نشأت من الأصل على قيمها المعتدلة وكانت لدى كثير منها الباعث الرئيس على حسن إسلام أسلافها[5.[
خامسا: مظاهر الغلو في هذا العصر:
وهو الخروج عن منهج الاعتدال في الدين، الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه». والتشدد في الدين كثيراً ما ينشأ عن قلة الفقه في الدين، وهما من أبرز سمات الخوارج، أعني التشدد في الدين وقلة الفقه، وأغلب الذين ينزعون إلى خصال الخوارج اليوم تجد فيهم هاتين الخصلتين. ومن مظاهر الغلو التعسير وترك التيسير، مطالبة الناس بما لا يطيقون، وإلزامهم بما لا يلزمهم به الشرع السهل، وعدم مراعاة قدراتهم وتفاوتها، وطاقاتهم واستطاعتهم، وتباينها، وأفهامهم واختلافها، فيخاطبونهم بما لا يفهمون، ويطالبونهم بما لا يستطيعون. ومن أسباب التعسير: الورع الفاسد، والجهل بمراتب الأحكام، والجهل بمراتب الناس، وأما مجالاته وصوره وأشكاله، إيجاب النظر والاستدلال على الجميع، وتحديث الناس بما لا يعرفون، وترك الرخص والإلزام بما لم يلزم به الشرع (6).
سادسا: سبل التمنيع والوقاية من التطرف:
إن المستوى الأول من معالجة موقف دعاة التطرف هو التدبير الوقائي، والوقاية خير من العلاج، لأن كلف العلاج كبيرة، ولكن الوقاية أجدى وانفع؛ ومن أهم هذه التدبير الوقائية:
– وجوب الاهتمام ببناء الفرد المسلم على أسس العقيدة؛ لأنها تعيد صياغة النفوس بإيجابية، وتفتع آفاق العقول، وتبث فيه روح الدين الحقيقي، وتؤصل إلى العزة الإيمانية، وتمحور حياة الفرد حول هدف واحد، هو تحقيق العبودية لله بأبعادها كلها، وإعمار الأرض بشريعة الله، وتحقيق هذا مرتهن بإتباع طريق الله المستقيم، قال تعالى : { وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. (الأنعام الآية 153).
– نشر الوعي الديني والثقافة الشرعية بين عامة المسلمين وخاصتهم عن طريق الوسائل المتاحة كلها، وربط المسلمين بدينهم، وتحقيق التحصين الثقافي ضد الفكر الغازي، قال الله تعالى :{اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِے هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۖۦ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَۖ}. (النحل الآية 125) وبهذه الطريقة المتوازنة يدخل الإنسان مرحلة الوعي الديني، والوعي بالهدف النبيل من الوجود، والوعي بضرورة الارتقاء الروحي والمادي، والوعي المنهجي في النظرة الشمولية للواقع والطموح.
– الإجابة الواعية لما يطرح من تساؤلات، إجابة صريحة تشجيعا للمجتمع أن يسأل قبل أن يشكل الفعل أو الموقف؛ لأنه قد يكون التصور بظنه صحيحا وقد يكون خلاف ذلك ومن ذلك سؤال (زائلة بن الأسقع) للرسول عليه الصلاة والسلام فقال :سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله :أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال صلى اللهعليه وسلم :“ لا ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم“ (رواه الإمام أحمد وابن ماجة).
– توظيف الإعلام المرئي والإلكتروني في نشر الفكر النير والتحذيرات من مزالق التطرف والإرهاب.
– العمل على وضع العقل في حيزه الإيجابي؛ لأنه كلما كان العقل في مداره الصحيح كلما تأثر به الفعل، والفعل كلما وضحت معالم صوابه كلما صلحت آثاره، فإصلاح عقل الإنسان هو أساس إصلاح جميع خصاله، ويجئ بعده الاشتغال بإصلاح أعماله، وعلى هذين الإصلاحيين مدار قوانين المجتمع الإسلامي، وخلاف ذلك إشكالية أثارها القرآن الكريم، بقوله تعالى :{اَمْ تَحْسِبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَۖ إِنْ هُمُۥٓ إِلَّا كَالَانْعَٰمِ بَلْ هُمُۥٓ أَضَلُّ سَبِيلاًۖ }(الفرقان الآية44) (7).
ختاما:
مما يجدر التنويه إليه أن محاربة التطرف تكمن في كونه البيئة الحاضنة للإرهاب، وإن الوقاية منه لا تتحقق بتقليص مساحات الحرية المنطقية وانتهاك حقوق الإنسان أو تفتيت الوحدة الوطنية والتضييق على النشاطات المدنية وتجفيف منابع الإنتاج الفكري المبدع أو النشاط الدعوي الديني المعتدل، وإنما بمنح مساحة أكبر من الحريات الواعية المفكرة الناضجة والمبدعة والمنضبطة بالقوانين والقيم التي يرتضيها الدين والمجتمع؛ ويتم ذلك بتعاون وتعاضد كافة المؤسسات والأفراد من منطلق المسؤولية المجتمعية والوطنية لمواجهة الفكر المتطرف والتصدي له قبل أن يُولد ويصبح مشروعاً فكرياً وثقافة مجتمعية، تفرض نفسها وتحارب من يحد منها، كما أن التمسك الحقيقي بالدين لا يكون بالتطرف والانحراف والتشدد، وإنما بالعودة إلى الكتاب والسنة وما يتضمنانه من الاعتدال والتسامح والرأفة والرحمة بالناس والتعايش مع المخالف ونبذ التشدد والغلو مع الآخر، بل وضمان الأمن والاستقرار والسلام لعموم أفراد المجتمع على اختلاف دياناتهم وأصولهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1. عبلة مرشد لا إرهاب بلا تطرف وغلو جريدة الوطن السعودية -الثلاثاء 13 يونيو 2017.
2. موقع رواق للتعليم المفتوح -المحاضر مصطفى بوزغيبة ،باحث بمركز الإمام الجنيد التابع الرابطة المحمدية للعلماء.
3. حميد ابولول جيحاب صحيفة المثقف “الغلو والتطرف وأثره على المجتمع”العدد 4673 يونيو 2019.
4. موقع مركز الحرب الفكرية -يتبع وزارة الدفاع بالمملكة العربية السعودية – على تويتر.
5. نفس المصدر السابق.
6. د. علي محمد الصلابي خوارج عصرنا … سمات التطرف والغلو موقع ترك برس بتاريخ 21/03/2018.
7. مجموعة من المؤلفين (قسم الفقه وأصوله،كلية الشريعة ؛وكلية القانون ،جامعة آل البيت الأردن)،التدابير الوقائية في ضوء الشريعة الإسلامية للتطرف والإرهاب.
Source : https://dinpresse.net/?p=8698