خطاب تحقير الدنيا وتبخيس الحياة

دينبريس
دراسات وبحوث
دينبريسمنذ 4 ساعاتآخر تحديث : الخميس 23 يناير 2025 - 2:09 مساءً
خطاب تحقير الدنيا وتبخيس الحياة

الزبير مهداد ـ كاتب مغربي، باحث في التربية والثقافة
أتاح الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي لكثير من الناس اكتساح مجال الإعلام الديني، بنشر خطب وفتاوى وأخبار ومعلومات ذات صبغة دينية، وكثير من الخائضين لا يمتون بصلة إلى العلم ومؤسساته الرصينة الجادة، ما أدى إلى تردي الفكر والخطاب الدينيين؛ وأضحينا نجد خائضين يحدثون ويعظون بلهجات العامة أو الفصحى، لا يميزون بين مسائل الوعظ والتربية والدعوة وبين مسائل الفلسفة أو السياسة أو الاقتصاد، ولا يراعون قدرات الناس على الفهم والاستيعاب، ولا اختلاف ظروف حياتهم، ولا طرق تفكيرهم ومستويات تعلمهم، ولا يراعون معطيات وحاجات أوساطهم، ولا ظروف وطبيعة المستهدفين وثقافتهم.

إن الخطاب الديني أصبح يعاني عدة انحرافات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الإغراق في الترهيب والتخويف، والميل إلى التشديد على النفس، وتمجيد الماضي، والخوف من المستقبل، والتغافل عن مقاصد الشريعة، وعن دور العقل وأهمية العلم في بناء التصور الإسلامي.

وفي المقال التالي سنستعرض بعض مثالب هذا الخطاب الكامنة في تحقير الدنيا وتأثيم النفس، ومخاطر ذلك على النشء.
تحقير الدنيا

إن الإسلام كسائر الأديان، جاء بالتعبد؛ والتعبد لا يعني الانقطاع عن العمل والتجرد عن الدنيا، فالإنسان خلق ليعبد الله على هذه الأرض وفيها. فالمقصد العام للشريعة هو عمارة الأرض، وازدهارها، وتحقيق الرخاء، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وفي قيامهم بما كلفوا به ضمان لذلك. والشارع كلف الناس بما كلفهم به من واجبات في العبادات والمعاملات للمحافظة على الضروريات الخمس وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل.

إلا أن المجتمعات الإسلامية، وللأسف، ما زالت ترفل في أغلال التخلف، والبطالة، والفقر والمرض. والخطاب الديني لا يسهم في دفع قاطرة التقدم، فما زال بعيدا عن هموم المسلمين والمجتمعات الإسلامية، يكاد يكون مقطوع الصلة بواقع الأمة، والأخطر أن بعض الوعاظ والمحسوبين على الخطاب الديني، يدعون لترسيخ قيم خطيرة تهدد بنسف كل جهد تنموي، وعرقلة كل خطة للتقدم الاجتماعي والاقتصادي، مثل خطاب الزهد في الدنيا والحياة الدنيوية.

لقد طوق الشرع الإنسان بمسؤولية الاستخلاف على الأرض، وكلفه في إطار هذه المسؤولية بالإصلاح والإحسان والالتزام بالعبادة. هذه الأعمال لن يستفيد الله شيئا منها. إنما الإنسان هو المستفيد. وهذا هو المقصود من التأكيد الإسلامي على العمل الصالح، وبيانه أن العبادات وحدها لا تكفي لإدخال المسلم الجنة ما لم يصاحبها عمل صالح. وهو ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وظل يعمل طيلة حياته على تربية المسلمين عليه، ولم يزهدهم أبدا في العمل الصالح النافع المنتج.

والصحابة رضوان الله عليهم، والأئمة والفقهاء، لم يفسروا أبدا الزهد برفض الدنيا، بل بمنع النفس من اتباع الشهوات الدنيوية، واللهف والرغبة في الاستحواذ على الأرزاق والإثراء المبالغ فيه وغير المشروع، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالتضييق والإضرار بالآخرين.

يقول القرطبي في تفسيره: “فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لابد منه، وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته، وادخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات. وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم بجمعه، فحرصوا عليه وسألوا زيادته” (تفسير القرطبي:3/ 419)

وأكد الفقهاء أن جزءا أساسيا من العبادة هو تعمير الأرض بالمعنى الواسع لمفهوم التعمير، سواء كان ذلك بالبناء أو شق الطرق أو استصلاح الأراضي أو استنباتها. مصداقا لقوله تعالى ﴿هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها﴾ (هود/ 61) لذا حرصوا على حفز الناس على إثراء واقع الحياة الدنيا وإصلاح حالها. فحسن استغلال الحياة الدنيوية، وتلبية حاجات الناس هو سبيل المجتمعات لتحقيق التقدم (1).

ومبدأ الإعمار، وحمايته، وحماية الحياة الإنسانية والبرية، ثابت في الإسلام، في حالتي الحرب والسلم، ومن وصايا أبي بكر الصديق أنه قال: “لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرِما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تُخرِّبنّ عامرا، ولا تَعقِرَن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تَحرقَن نخلا ولا تُغرقنّه، ولا تَغلُل، ولا تجبُن”.

إن الزهد في الدنيا، خطاب خطير، يوجه معاول الهدم إلى كل جهود التنمية والتقدم، ويشجع المسلمين على مقاطعة مصالحهم، والتنازل عن حقوقهم الاجتماعية وحاجاتهم الطبيعية، والامتناع عن الاستمتاع بدنياهم، وخيرات مواردهم، و”يبقي الإنسان مرتبطا بحاجات بسيطة جدا لا تتجاوز حاجات الحيوان” (2) بدعوى أن الزهد في الدنيا هو أسمى أخلاق السلف، في حين أن المسلمين ظلوا عاجزين عن تلبية حاجاتهم الضرورية وتوفيرها. فهذا الخطاب ليس بريئا من المسؤولية في إدامة تخلفنا عن الركب الحضاري العالمي.

خطاب الزهد في الدنيا يقدم الدنيا على أنها دار ابتلاءات، وقنطرة عبور، ولا شيء فيها يستحق الاهتمام، ولا قيمة لأي كسب فيها، ولا لأية ثروة، وخير الناس من غادرها كما دخلها، عاريا فقيرا معدما. وهذه الصورة السيئة عن الدنيا التي يرسخها هذا الخطاب، لا تحفز على العمل، وعلى المشاركة في الحياة المدنية، ويؤدي إلى علاقة خاطئة بالدنيا وفهم خاطئ للحياة. وتبقي الإنسان مرتبطا بحاجات بسيطة جدا، لا تتجاوز حاجات الحيوان، ويمنعه من استثمار مواهبه ومهاراته، ويدعوه للتخلي عن حقه في الاستمتاع بالحياة الكريمة وبالنعم التي سخرها له الله.

إن هذا الخطاب يتضمن دعوة صريحة للمسلم إلى الانغلاق على نفسه، ونبذ الدنيا وراء ظهره، وقمع الذات، ومدح الخراب والفناء والموت، بدعوى الزهد في الدنيا، ويناقض ما ورد في القرآن الكريم، الذي هو الأصل الأول من أصول الدين، ففي القرآن وردت عدة آيات تحث على العمل، ونيل النصيب من الدنيا، وتأمر بالخير والإحسان، ومحبة الحياة، وجلب المنافع ودفع المضار.

إن شباب الأمة هو طاقتها الحيوية، ولابد من إشراكه في بناء الوطن، وإحلاله محل الشيوخ، وأول شرط لذلك أن نزرع فيه الثقة بالنفس، وتمكينه من التكوين والتدريب، وفتح كل الأبواب في وجهه حتى يطل على العالم الفسيح وينفتح عليه، وتحريره من وصاية الشيوخ المحافظين، وتحميله المسؤوليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتطوير طاقاته، وزرع محبة الحياة في نفسه، وقيمة العمل الإنتاجي، وأهمية تحقيق الرخاء الاقتصادي، وإغناء الثروة الوطنية والحفاظ عليها.

تبخيس الحياة الدنيوية
إن الخطاب الذي يحقر الدنيا، يبخس الحياة الدنيوية، ويقمع الطموح الفردي، ويقتل كل رغبة أو تفكير في الارتقاء بالوضع الاجتماعي والمالي. يرسخ سلبية الفرد، ويقيم حواجز بينه وبين المشاركة الاجتماعية، مستغلا العاطفة الدينية للتأثير على الشباب المتحمس، الذي تعول عليه الأمة في تحقيق تقدمها، وإخراجها من دائرة التخلف البغيضة.

فخطاب هؤلاء الوعاظ ينسف كل خطط التنمية الوطنية ويحرض على مقاطعتها، ويزهد في الاشتراك فيها، ويتعارض مع دعوة الأديان إلى العناية بالحياة الإنسانية والارتقاء بها، بتلبية حاجاتها وتطوير الذات، وتحقيق الرفاه والرخاء. يرسخ كراهية الدنيا ويبخس الحياة الدنيوية، ويحرم الاستمتاع بمتع الحياة، هو خطاب تأثيمي يولد الشعور بالإثم والندم لدى الناس كلما تبسموا أو استمتعوا بشيء مهما كان بسيطا، وهذا التأثيم هو الذي يفتح الباب واسعا أمام الانتحار والموت. فالناس من وجهة نظر هذا الخطاب مشبوهون مذنبون ما لم يثبتوا براءتهم بالتضحية بحياتهم، سواء بالموت أو بالانسحاب من بهجها المدنسة والتخلي عنها.

فأول طريق لغرس النزعة الانتحارية في نفوس الشباب، هو دفعهم لكراهية الحياة الدنيوية المدنسة القبيحة وحب الموت المفضي إلى عالم المثال والطهر ممثلا في الجنة. الخطاب الذي كل همه رصد آثام الأفراد وتدنيس العادات والأعراف الاجتماعية، هو خطاب تأثيمي، لا علاقة له بالإصلاح والتوجيه ولا يسعى لتحقيقه.

إن تأثيم السلوك اليومي للناس، وتهديدهم بعذاب جهنم، وتكفير المجتمع، والتشديد على العباد، يضخم الميل إلى التحوط، والناس البسطاء فاقدو الحصانة الفكرية، يتقبلونه بسهولة، ظنا منهم أنه الدين، فيحرمون أنفسهم من التمتع بالخيرات والاستفادة من فرص الارتقاء الاجتماعي، بل ويختلقون شبهات أخرى جديدة تستدعي مزيدا من الاحتياطات للنجاة في الآخرة من العذاب الذي يصفه الوعاظ.

فالخوف من العقاب الإلهي، يكبح الإقبال على الحياة، فيزداد الحذر من كل العادات والأعراف الاجتماعية، ومن مناشط الحياة اليومية، ويخلق شعورا بالقلق تجاه هذا التدين لدى الذين يعانون الهشاشة الروحية بسبب نشأتهم وسط ثقافة لم تشجعهم على استعمال عقولهم والاحتكام لضمائرهم والإنصات لحدوسهم الداخلية ومعرفة قناعاتهم الخاصة (3).

إن الإنسان خطاء بطبعه، وهو ما يترجمه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم” (4)، لأن ذنب العباد هو من قضاء الله الذي خلقهم على هذه الطبيعة، قابلين للخطأ، فسبق بقضائه وعلمه أن عباده يذنبون، فيتوب على من تاب، ويغفر ويعفو ويرحم .

فالتوبة تمحو الذنوب، لأن الله عز وجل يقابلها بالمغفرة، والاستغفار يقي العبد من العذاب، قال تعالى: ﴿وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون﴾. ولو لم يكن العبد خطاء مذنبا، لما كان للعفو والغفور والتواب معنى. فذنوب العبد لا يجب أن تدعو إلى القنط واليأس من رحمة الله.

إن تشدد بعض الوعاظ، وإصرارهم على تضخيم الخطأ، يصنع من الحبة قبة، من نتائجه إيقاع الناس في الوساوس، والمخاوف، والتفكير في التكفير عن أخطائهم، وتطهير سيرتهم، بتشدد أكبر مما يتصوره الوعاظ أنفسهم، قد يفتح الباب واسعا نحو التطرف والإرهاب أو ما يسمى “جهادا” في قاموس المتطرفين، بقتل الأبرياء أو بنسف الذات (5). لأن هؤلاء الوعاظ يربطون مغفرة الله بذلك، ويعدون بالجنة الملأى بحور العين، هدية لكل “شهيد”.

ولعل مؤشر ذلك يكمن في عدد المدمنين والمجرمين والفاسقين الذين تدعوشوا ونسفوا أنفسهم بوحشية (6). فأكثر الملتحقين بتنظيم “الدولة الإسلامية” منهم “المضطربون نفسيا، وهم ينحدرون من خلفيات مضطربة، لم يعرف عنهم ترددهم على المساجد كثيرا، بل كانوا يعيشون على الهامش، ومنهم من كان يتعاطى للمخدرات والخمر وسبق له اقتراف جرائم قبل أن ينتقل مباشرة إلى الفكر الجهادي، معتبرا أن الأمر هو انتقال فجائي نحو الفكر المتطرف. إذ نجد سجلهم حافلا بالجرائم وتعاطي المخدرات وحياة المجون. يقدم التنظيم لهؤلاء حلا سريعا للتكفير عن ماضيهم مع وعد بالجنة والتوبة النصوحة” (7).

آفتا الخطاب الديني المنحرف
آفات الخطاب المتزمت كثيرة، فهو غارق في النزعة الماضوية التي جعلته يعيد إنتاج مقولات عتيقة بدون ربطها بسياقها ولا بمناسباتها أو بظروفها، ويبحث في الماضي عن حلول لمشكلات الحاضر، عدم الاستفادة من التراث الفكري العربي المتنوع من أدب وفلسفة وفقه وغيره.

هذا الخطاب ينأى عن الوسطية والواقعية، ويغيب العقل ويحجر عليه.

الآفة الأولى: الابتعاد عن الوسطية والواقعية

يتعامل الفكر الفقهي الوسطي بواقعية مع الإنسان الفرد ومع المجتمع الإنساني، ولا يتعامل مع تصورات عقلية مجردة أو فلسفة عقلية مثالية مطلقة. ويراعي هذا الفكر واقع الإنسان، من حيث بنيته وازدواجية طبيعته، وتعدد نزعاته ومحدودية قدراته، فهو يخطئ ويصيب، يقوى ويضعف، يؤمن ويكفر. كما يراعي هذا الفكر عضوية الإنسان الاجتماعية، وواقع الحياة الدنيوية، من حيث هي تجربة حافلة بالخير والشر، تؤثر على مدى استجابة وخضوع الإنسان لمشيئة الله في الدنيا.

ومرونة هذا الفكر تجعله يتعامل بليونة مع بعض المستجدات، التي تفرض تبصرا وإدراكا لمتطلبات التغير الاجتماعي قبل رفضها، ثم مراعاة المعنى الأساسي للإسلام، معنى الاجتماع والتضامن والوحدة، بحيث لا يؤدي رفض أو تأييد هذه المستجدات، أو تلك إلى انقسام في صفوف المسلمين، وهذا ما أوصى به الإمام المربي أبو حنيفة النعمان تلميذه أبا يوسف (8).

فضلا عن ذلك، فإن كثيرا من مقتضيات الواقع المستجدة، والتي تدخل في نطاق المعاملات، لم يرفضها هذا الفكر جملة وتفصيلا، حتى لو خالفت في ظاهرها مقتضيات الشرع، ما لم تكن من الأمور العقائدية أو العبادات، فإنها تخضع للفقه المبني على القياس ومراعاة المصالح والأعراف، وهذا الفقه يقبل التطور بحسب الحاجات الزمنية والبيئات ما دام الحكم في نطاق الشريعة وأصولها (9).

إن الفكر الفقهي يتعامل مع القضايا والتساؤلات المستجدة التي يطرحها الواقع باستمرار، ويعتبر الفقهاء المربون هذا الواقع مسألة جوهرية، لأن كل فكر أو فتوى يفتقد رؤية سليمة وصحيحة للواقع يكون عملا ناقصا.

الآفة الثانية: تغييب العقل

ومن دلائل تكريم الله للإنسان أن خصه بالذكاء والتفكير وعلمه دون سائر المخلوقات. كرم الله الإنسان بأن خصه بالعقل وحثه على التفكير وطلب العلم لبلوغ درجة التقوى الموصلة إلى السعادة في الدارين الدنيا والآخرة. فالعقل هو عمدة التكليف وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله (10). يقول الماوردي (أس الفضائل وينبوع الآداب هو العقل، الذي جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمادا، وأوجب التكليف بكماله، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه) (11).

يقول الغزالي (إن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم، فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، فليس ذلك بقوة شخصه ولا بعظمته ولا بشجاعته، بل لم يخلق الإنسان إلا للعلم) (12).

لهذا أولى الفقهاء أهمية للحفاظ على العقول وحمايتها من الفساد، وسائر الأسباب التي تجعلها مريضة. ولكن هذا الخطاب المنحرف يهدر دور العقل ويصادر الفكر على المستوى العلمي والثقافي. ويتعارض مع الإسلام لأنه يتعارض مع أهم أساسياته (العقل) ويتصور انه بذلك يؤسس (النقل)، والواقع انه ينفيه بنفي أساسه المعرفي) (13). لأن نصوص النقل في حاجة إلى عقل يفهمها ويفسرها ويدرسها ويستنبط منها ويقيس عليها.

حصر الفقهاء التقليديون دور العقل في ترسيخ الطاعة والإذعان الديني، ومنعوا كل أشكال التفكير والتساؤل العقلي الفلسفي، أو المناقشة، وبدل ترسيخ العبودية لله وحده، انتقل المسلم إلى الإذعان لتعليمات الفقهاء وآرائهم وأحكامهم، وطاعتها والخضوع لها والتزامها، كأنها دين منزل. قال أبو زيد عن الخطاب الديني التقليدي (يختصر علاقة الإنسان بالله في بعد واحد فقط هو العبودية، التي تحصر – الأخيرة – فاعلية الإنسان في الطاعة والإذعان، وتحرّم عليه السؤال أو المناقشة) (14).

إن إقالة العقل البشري أدى إلى التحجر الفكري، وهو أمر يتعارض مع الدعوة الإسلامية إلى الاجتهاد والنظر والتأمل وإعمال العقل وتجديد الدين على رأس كل مائة سنة.

الخاتمة
إن الدين يلعب دورا هاما في تحقيق السكينة النفسية للمتدينين، أما على المستوى الاجتماعي فقد أسهم في ترسيخ قيم التضامن والتكافل والتسامح، وكان عاملا مهما في بناء حضارة إنسانية أشعت بنورها على العالم.

وما زالت الإنسانية في حاجة إلى الاستعمال الإيجابي للدين، إلا أن ذلك رهين بتحديد دقيق للأهداف وبإعداد الوسائل الملائمة.

فيجب على الخطاب الديني أن يؤدي وظيفته الاجتماعية، بالإسهام في الإصلاح الاجتماعي وتحقيق خير الناس ومصلحتهم، وأن يجعل هذا الهدف في صلب اهتمامه.

والاستقرار الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق عن طريق خلخلة التوازن النفسي للأفراد، فمن المهم جدا، أن يحرص الخطاب الديني على رفع معنويات المؤمنين، وثقتهم في أنفسهم، وفي خالقهم، وأن ينظروا إلى الأمور بواقعية، ويستفيدوا من خلافتهم على الأرض بتعميرها وبنائها وقطف حصتهم مما أنتجوه، وتحقيق رخائهم، حتى لا تتعارض العقيدة مع مصالحهم وتحول دون بلوغ سعادتهم فالشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة.

على الخطاب الديني أن يفكر في مصلحة الإنسان أولا وأخيرا، وأن يوجهها الوجهة الصائبة، ويرتقي بروحه وبصيرته وأخلاقه. وأن يبصر الناس بكل خطاب مغرض، ويحميهم بتنبيههم إلى مخاطر الانسياق وراء عاطفتهم الدينية، أو استغلالها من طرف الوعاظ المغرضين.

فالإنسان يجب أن يكون أسمى غاية، مصداقا لقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (سورة الإسراء:70). فالتكريم ساري على بني آدم دون تخصيص والرزق والتفضيل كذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله بن محمد: المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الرياض، مكتبة الرشد 1409، ج6 ص483.
2 ـ شريعتي، علي: النباهة والاستحمار، بيروت، الدار العالمية للطباعة والنشر، 1984، ص58
3 ـ ناشد، سعيد: أي خطاب ديني يحتاجه السجناء، رابطه: http://againsterhab.com/?p=18677
4 ـ أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبةً، الحديث رقم: (2749).
5 ـ ناشد: مرجع سابق
6 ـ الراجي، محمد: هل تؤشر الأعمال الوحشية لداعش على اهتزاز نفسية مقاتليها، هسبريس 1دجنبر 2015 ، رابطه:
http://www.hespress.com/orbites/286054.html
7 ـ http://www.bbc.com/arabic/interactivity/2015/11/151120_comments_islamic_state_european_muslims
8 ـ السيد. رضوان: أبو حنيفة والمنهج التربوي الإسلامي، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت، عدد 21 السنة 3 (يوليوز1981) ص 18
9 ـ الزحيلي، وهبة: الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق، دار الفكر1984، جزء1، ص 25
10 ـ القرطبي. الجامع لأحكام القرآن، تحقيق عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، 2004، جزء 13 ص 125
11 ـ الماوردي، أبو الحسن. أدب الدين والدنيا، بيروت1985، دار اقرأ، ص 17
12 ـ الغزالي: إحياء علوم الدين. نشرة دار ابن حزم، بيروت 2005، ص 14
13 ـ أبو زيد، نصر حامد: نقد الخطاب الديني، القاهرة، دار سينا 1994، ص 103
14 ـ أبو زيد، ص 116

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.