30 مايو 2025 / 16:20

حين يتحول النقد من ماذا قال؟ إلى لماذا قال؟

يوسف حميتو

في أعماق المشهد الثقافي العربي، تتنامى ظاهرة نفسية أعمق من مجرد الخلاف الفكري، وأخطر من الاختلاف المنهجي. إنها ما يمكن تسميته بـ”عقدة الحارس الرمزي” – ذلك الاضطراب النفسي الذي يصيب من أدمن احتكار منصة النقد، حتى صار يرى في أي صوت جديد تهديداً وجودياً، لا لأفكاره، بل لمكانته.

تتجلى هذه العقدة في لحظات الصدمة الرمزية – تلك اللحظات التي يظهر فيها صوت غير متوقع، يتحدث في موضوع كان حكراً على فئة معينة. حينها لا تشاهد نقاشاً فكرياً، بل تشهد ما يشبه نوبة هلع رمزي. فجأة، تتحول الساحة الثقافية إلى محكمة تفتيش: من أنت؟ من أين أتيت؟ بأي حق تتكلم؟ من منحك شرف الحضور؟

ما يثير الدهشة أن هذا الهلع لا يتناسب أبداً مع حجم التهديد المزعوم. قد تكون مجرد مقالة، أو تعليق عابر، أو رأي مختلف، لكنه يُستقبل كما لو كان انقلاباً على النظام الرمزي القائم. وهنا تكمن المفارقة: كلما كان الرأي أكثر رصانة، كان الهجوم عليه أكثر شراسة. ليس لأنه خاطئ، بل لأنه صحيح بشكل مزعج، ولأنه صادر عن “غير مرخص له”.

إنها يا سادة ظاهرة “قلق الفقدان الرمزي” – ذلك الخوف العميق من فقدان الامتياز غير المستحق. فمن اعتاد أن يكون صوته هو الوحيد المسموع في قاعة، يصاب بالذعر حين يسمع صدى صوت آخر. ليس لأن الصوت الآخر يهدد الحقيقة، بل لأنه يكشف هشاشة احتكاره لها.

تتخذ هذه العقدة النفسية آليات دفاعية متعددة، أبرزها “تحويل المسار” – ذلك الفن الذي يتقنه المحتكر حين يُحرج بحجة دامغة. فبدلاً من مناقشة الفكرة، ينتقل فوراً إلى مناقشة صاحبها. يفتش في ماضيه، يستخرج زلاته، يحلل دوافعه المفترضة، يشكك في نواياه. وإذا لم يجد شيئاً، اخترع. المهم أن يتحول النقاش من “ماذا قال؟” إلى “لماذا قال؟”.

ومن الآليات الدفاعية أيضاً “الإسقاط النفسي” – تلك العملية اللاواعية التي يُسقط فيها المحتكر عيوبه على خصمه. فتراه يتهم الآخرين بما هو متلبس به: يتهمهم بالارتزاق وهو أول من باع قلمه وبدون مقابل حت، فقط يؤجر صوته مجانا. إنه كمن يقف أمام مرآة مشوهة، يرى فيها عيوبه منعكسة على وجوه الآخرين.

أما “التعميم المفرط”، فهو سلاح المحتكر حين يعجز عن الرد المباشر. يقول: “كلكم هكذا”، “أنتم دائماً تفعلون كذا”، “هذه طريقتكم المعروفة”. يختزل الأفراد في دول، والأفكار في قوالب، والتنوع في نمط واحد. لا يرى الفروق، لا يعترف بالاستثناءات، لا يقبل التعقيد. إنه يمارس “التفكير الثنائي” – ذلك النمط البدائي الذي لا يرى إلا الأبيض والأسود، الخير والشر، النحن والهم.

والأخطر من كل هذا هو “وهم الاستحقاق الرمزي” – ذلك الاعتقاد الراسخ بأن له وحده حق الكلام في موضوع معين. ليس لأنه الأكثر علماً، أو الأعمق فهماً، أو الأدق تحليلاً، بل لمجرد أنه كان هناك أولاً. إنه يتعامل مع الفضاء الفكري كما لو كان أرضاً استعمرها، ووضع عليها سياجاً، وكتب لافتة: “ممنوع الاقتراب”.

في خلفية هذا كله، يكمن “جرح نرجسي” عميق – ذلك الشرخ في صورة الذات المتضخمة. فالمحتكر، في أعماقه، يعلم أنه ليس بالقدر الذي يدّعيه من العلم أو العمق أو الاستقلالية. يعلم أن هناك من هو أكثر علماً، وأعمق فهماً، وأدق تحليلاً. لكنه يخفي هذه المعرفة المؤلمة تحت طبقات من الغرور والتعالي والادعاء.

وفي سياق ثقافي يعاني من أزمة هوية عميقة، تتفاقم هذه العقدة النفسية لتصبح ظاهرة اجتماعية. فالمحتكر لا يعمل وحده، بل ضمن منظومة من العلاقات والمصالح والتحالفات. إنه جزء من “نظام رمزي” متكامل، يقوم على توزيع الأدوار، وتبادل المنافع، وحماية الامتيازات. وأي خلل في هذا النظام يُستقبل كتهديد وجودي للجميع.

لذلك، حين يظهر صوت جديد، لا يواجهه المحتكر وحده، بل تتحرك المنظومة بأكملها لمحاصرته. تُشن عليه حملة منسقة من التشكيك والتشويه والتهميش. تُستخدم ضده كل الأسلحة المتاحة: من التجاهل المتعمد، إلى التشويه المقصود، إلى الهجوم الشخصي، إلى الإقصاء المنهجي. والهدف واحد: إعادة إنتاج النظام الرمزي القائم، والحفاظ على توزيع الأدوار المعهود.

في هذا السياق، يصبح النقد آلية للهيمنة، ولترسيخ السلطة. لا يهدف إلى كشف الحقيقة، بل إلى إعادة إنتاج علاقات القوة. إنه يتحول من ممارسة فكرية إلى طقس اجتماعي، من بحث عن المعنى إلى صراع على المكانة.

والمأساة أن هذا كله يجري تحت شعارات براقة: الموضوعية، الاستقلالية، النزاهة، الشجاعة. لكن، وهنا المفارقة الكبرى، كلما اشتدت محاولات الإقصاء، كلما تأكدت هشاشة المُقصي. كلما ارتفعت نبرة التشكيك، كلما انكشف ضعف المشكك. كلما تكاثرت الاتهامات، كلما تبينت هزالة المتهِم. فالقوة الحقيقية لا تحتاج إلى صراخ، والثقة الحقيقية لا تخشى المنافسة، والفكر الأصيل لا يرتعب من الاختلاف.

في النهاية، لا يمكن فصل “الاحتكار النفسي للنقد” عن أزمة ثقافية أعمق – أزمة مجتمع لم يتصالح بعد مع التعددية، ولم يستوعب بعد الاختلاف، ولم يتقبل بعد فكرة أن الحقيقة أكبر من أن تُحتكر، وأن المعنى أوسع من أن يُسيَّج، وأن الفكر أعمق من أن يُختزل في صراع على المكانة.

وفي خضم هذه الأزمة، يبقى السؤال: هل يمكن للنقد أن يتحرر من عقدة الاحتكار؟ هل يمكن للفكر أن ينفصل عن صراع المكانة؟ هل يمكن للثقافة أن تتجاوز منطق الهيمنة إلى منطق التعاون؟

الإجابة ليست سهلة، لكنها تبدأ بالاعتراف بوجود المشكلة. بالإقرار بأن ما نشهده ليس مجرد خلاف فكري، بل اضطراب نفسي عميق. ليس صراعاً على الحقيقة، بل قلقاً من فقدان الامتياز. ليس دفاعاً عن المبادئ، بل خوفاً من الحضور غير المرخص.

وحين نعترف بذلك، نكون قد خطونا الخطوة الأولى نحو ثقافة أكثر صحة، وفكر أكثر حرية، ونقد أكثر نزاهة. ثقافة لا تقوم على احتكار الكلام، بل على تعدد الأصوات. لا تسعى إلى فرض الهيمنة، بل إلى بناء التفاهم. لا تخاف من الاختلاف، بل ترى فيه فرصة للإثراء والتجدد. حينها فقط، يتحرر النقد من عقدته النفسية، ويعود إلى وظيفته الأصلية: البحث المشترك عن الحقيقة، لا الصراع الأناني على السلطة.