دين بريس ـ سعيد الراشيدي
أشرفت مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة مؤخرا على تنظيم احتفالات المولد النبوي الشريف في عدد من كبريات المساجد الإفريقية، في خطوة تعكس بوضوح الرؤية المغربية الرامية إلى تعزيز الحضور الديني وترسيخ المرجعية الروحية بالقارة.
أقيمت هذه الفعاليات الدينية بكل من مسجد محمد السادس في دار السلام بجمهورية تنزانيا الاتحادية، ومسجد محمد السادس في أبيدجان بجمهورية كوت ديفوار، ومسجد محمد السادس في كوناكري بجمهورية غينيا، إضافة إلى مسجد الحسن الثاني في ليبرفيل بجمهورية الغابون.
ويجسد هذا الاحتفاء في جوهره رؤية استراتيجية تعتمد الدين كأحد مرتكزات القوة الناعمة ووسيلة لتعزيز جسور التواصل الحضاري بين المغرب وعمقه الإفريقي.
وتكتسب هذه المبادرة بعدا روحيا متجددا يتجلى في إعادة ربط المجتمعات الإفريقية بجوهر الرسالة المحمدية، حيث تُهيأ فضاءات المساجد في أجواء مفعمة بالمحبة والإجلال للنبي الكريم، ليجتمع المصلون على تلاوة القرآن والإنشاد الروحي، والاستماع إلى مواعظ تحث على التمسك بأخلاقه والسير على هديه وسنته.
وبذلك تغدو ذكرى المولد مناسبة لترسيخ القيم الجامعة من رحمة واعتدال وتسامح، ولتعميق الارتباط الوجداني بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته في وجدان المسلمين.
أما على المستوى الاستراتيجي، فإن المؤسسة تقدم من خلال هذه الأنشطة نموذجا لدبلوماسية دينية متفردة، تجعل من المرجعية المغربية أداة لتعزيز الأمن الروحي في إفريقيا.
فالقارة تواجه تحديات متنامية مرتبطة بانتشار الفكر المتشدد والتجاذبات المذهبية، وهو ما يفرض تعزيز البديل القائم على التصوف السني المالكي الذي يحظى بقبول واسع.
وبذلك، يبرز المغرب كفاعل يملك القدرة على توفير نموذج روحي معتدل يساهم في تحصين المجتمعات الإفريقية من مخاطر التطرف.
كما تندرج هذه الفعاليات في إطار أوسع يعكس الدور الذي تضطلع به إمارة المؤمنين في حماية القيم الدينية ورعاية العلماء وتثبيت الهوية الإسلامية السمحة، فالمؤسسة، عبر فروعها المنتشرة في القارة، تترجم الرؤية الملكية التي تعتبر أن الدين ليس مجرد شأن تعبدي خاص، بل هو عنصر استقرار مجتمعي ورافعة لتعزيز السلم الأهلي، بما يعزز مكانة المغرب كمرجعية روحية موثوقة داخل إفريقيا وخارجها.
وتكشف هذه الأنشطة عن بعد دبلوماسي مواز، إذ تساهم في تعزيز حضور المغرب داخل فضاء إفريقي يعرف تنافسا متصاعدا بين قوى إقليمية ودولية.
ومن ثم فإن اختيار مساجد كبرى في دول مثل تنزانيا وكوت ديفوار وغينيا والغابون لإحياء ذكرى المولد يعكس رسائل واضحة حول قدرة المملكة على نسج جسور روحية متينة مع شركائها الأفارقة، تقوم على الاحترام المتبادل ونشر القيم الإنسانية المشتركة.
إن البعد الاستشرافي لهذا الدور يكمن في قدرة المؤسسة على الانتقال من إحياء المناسبات الدينية إلى صياغة مشاريع تكوين وتأطير مستدامة، تسهم في إنتاج أجيال جديدة من العلماء والدعاة المرتبطين بالوسطية والاعتدال، وتفتح المجال أمام توظيف الدين كعامل تنمية اجتماعية وحماية من النزاعات.
ويغدو المولد النبوي، في هذا السياق، لحظة مزدوجة المعنى: فهو احتفاء بالميلاد المبارك من جهة، ومن جهة أخرى محطة للتأمل في واقع الحاضر واستشراف آفاق المستقبل.
ويتجلى من خلال هذه المبادرة أن مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة توفق بين بعدين متكاملين: بعد روحي يعزز قيم الرحمة والاقتداء بسيرة النبي الكريم، وبعد استراتيجي يرسخ الحضور المغربي في القارة كمرجعية دينية موثوقة وشريك فاعل في ترسيخ الأمن الروحي ودعم مسارات التنمية المجتمعية.