10 يوليو 2025 / 10:46

حين تتحول الأخطاء الفردية إلى ورقة انتخابية: قراءة في تنامي الإسلاموفوبيا

محمد عسيلة*

من المسبح إلى البرلمان: كيف تُستَغل الحوادث لتأجيج اليمين؟

لم يعد الحديث عن حوادث فردية معزولة في أوروبا أمرًا عابرًا، بل باتت كل واقعة تحمل في طياتها أبعادًا مركبة، تُستَخدم لتغذية خطاب سياسي وثقافي يختبر متانة العقد الاجتماعي الذي جمع لعقود بين التنوع والعيش المشترك.

الحادثة الأخيرة في مسبح بمدينة جيلنهاوزن بولاية هيسن الألمانية، حيث يُشتبه في تحرش أربعة شبان سوريين بفتيات قاصرات، ليست استثناءً من هذه القاعدة، بل تكشف عن خيوط مترابطة تمتد من أسئلة الاندماج إلى ملامح التحول السياسي في أوروبا.

يخطئ من يظن أن مثل هذه الحوادث تُناقش فقط بصفتها جنائية. ففي واقع الأمر، تتحول سريعًا إلى مادة دسمة لخطاب اليمين الشعبوي، الذي يتقن تحويل الأخطاء الفردية إلى أزمة هوية جماعية. هنا تُزرع بذور الشك في شرعية وجود الجاليات المسلمة بأكملها، وتُعاد صياغة الأسئلة القديمة: من ينتمي حقًا؟ من يُسمح له بالبقاء؟ ومن يتحمل كلفة ما يُسمى بـ«فشل الاندماج»؟

في هذا السياق، تصبح الحادثة أكثر من مجرد فعل مرفوض أخلاقيًا وقانونيًا؛ إنها اختبار للديمقراطية الألمانية نفسها: هل تظل قادرة على التمييز بين الجريمة الفردية والمسؤولية الجماعية؟ أم ستنزلق، تحت ضغط اليمين والشعبوية، إلى ممارسات التعميم والتسييس الذي لا يخدم سوى التطرف من جميع الجهات؟

على مدار عقود، نجحت الجاليات المسلمة – وفي مقدمتها الجالية المغربية – في تقديم نماذج ناجحة في التعليم، والاقتصاد، والمشاركة السياسية المحلية. أبناء المهاجرين اليوم أطباء، ومهندسون، وأكاديميون، وفاعلون اجتماعيون، يساهمون في بناء المجتمع الذي يعيشون فيه. هذه الإنجازات لا يمكن محوها أو تجاوزها أمام أخطاء فردية، مهما بلغت جسامتها.

غير أن الإشكالية الأعمق تكمن في هشاشة الصورة العامة، إذ تكفي واقعة واحدة – مثل حادثة المسبح – لإحياء الصور النمطية وإطلاق العنان لتغطيات إعلامية تغفل السياق وتنساق خلف الإثارة، فتجد العائلات المسلمة نفسها أمام موجة من الشك والوصم والتساؤلات المزعجة: “أين الخطأ؟” و”من المسؤول؟”.

ليس من العدل اختزال هذا النوع من الحوادث في “أزمة ثقافية” فقط. فغالبًا ما تكشف هذه الوقائع عن خلل أعمق في سياسات الاستقبال، وبرامج التوجيه والإدماج، وغياب الجسور التربوية التي كان ينبغي أن ترافق الشباب منذ لحظة وصولهم، بدلًا من تركهم عرضة للعزلة أو الاستقطاب أو الانغلاق داخل دوائر مغلقة.

إن مناخ التهميش وسوء الفهم المتبادل يغذيان بعض السلوكيات المنحرفة، ويجعلان من السهل استغلالها سياسيًا. وهنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نواجه جذور المشكلة بدلًا من الاكتفاء بالعلاج السطحي أو توجيه اللوم إلى “الثقافة الأصلية” فقط؟

إن خطورة هذه الحوادث لا تكمن فقط في ما جرى، بل في كيفية استثمارها لتبرير الخطاب اليميني المتطرف، الذي يجد في كل خطأ فرصة لتوسيع قاعدته الشعبية. ومع اقتراب استحقاقات انتخابية في أكثر من بلد أوروبي، تصير مثل هذه الوقائع ذخيرة جاهزة للحملات الانتخابية التي توظف الخوف من “الآخر” كورقة ضغط على الناخبين.

إن تنامي الإسلاموفوبيا اليوم لم يعد مرتبطًا فقط بالخطاب السياسي، بل يتغلغل في قطاعات التعليم والإعلام والفضاء الرقمي، حيث تتكاثر الدعوات للتضييق، والتشكيك، والمراقبة المستمرة للجاليات المسلمة، وكأنها “حالة أمنية دائمة” لا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.

أمام هذا المفترق الخطير، تتحمل الأسر المسلمة – ومن بينها الأسر المغربية – مسؤولية مضاعفة: تعزيز التربية الوقائية، والانخراط الفعلي في الحياة المدرسية والمجتمع المدني، وكسر العزلة التي قد تجعل بعض الشباب فريسة للانغلاق أو الانحراف.

كما تتحمل مؤسسات الدولة مسؤولية تجديد أدوات إدماج حقيقية، تبتعد عن الحلول الترقيعية، وتضع برامج تربية مدنية تتعامل مع الوافدين الجدد بواقعية دون استعلاء أو وصاية.

إن معالجة مثل هذه الأزمات لا تتم بالمزايدات ولا بالشعارات الجوفاء، بل بإرساء توازن دقيق: قانون حازم يحمي الجميع دون تمييز، وسياسة اندماج مبتكرة لا تكتفي بالشعارات، ومجتمع واعٍ لا يسمح بتحويل الأخطاء الفردية إلى لعنة جماعية.

هنا فقط يمكن حسم المعركة الحقيقية: معركة الدفاع عن التعددية ضد الانغلاق، وعن العدالة ضد التعميم، وعن قيم المواطنة ضد نزعات الكراهية التي لا تفرق بين مذنب وبريء.

وفي ختام هذا النقاش، تظل أسئلة كثيرة مطروحة وتستحق التوقف عندها: كيف يمكن للجاليات المسلمة، ومنها الجالية المغربية، أن تعيد بناء جسور الثقة مع المجتمع الأوسع رغم وقوع أخطاء فردية؟ وأين تنتهي حدود مسؤولية الأسرة وتبدأ مسؤولية الدولة في توجيه الشباب وضمان نجاح الاندماج الحقيقي؟ وكيف يمكن للإعلام أن يلتزم بالتوازن في نقل الأخبار دون أن يغذي الصور النمطية والأحكام المسبقة؟ ثم ما هي الأدوات العملية التي تحتاجها العائلات والجمعيات لحماية أبنائها من العزلة والانغلاق؟ وكيف يمكن التصدي لتصاعد الخطاب اليميني الشعبوي دون الوقوع في فخ الدفاع الدائم أو التبرير؟ وهل آن الأوان لإعادة التفكير في سياسات الاندماج لتشمل أبعادًا ثقافية وتربوية أعمق تتجاوز التعليم والعمل؟

وأخيرًا، أي دور يمكن أن يلعبه الأفراد الناجحون من أبناء الجاليات في كسر هذه الدائرة وإعادة تعريف الهوية والانتماء في أوروبا اليوم؟

أسئلة مفتوحة تبقى مطروحة أمام الجميع، بحثًا عن إجابات لا تُبنى إلا على الحوار والمسؤولية المشتركة.
ـــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا