سعيد الكحل
يمثل كتاب “الإسلام السياسي صوت الجنوب”، كما يقول مؤلفه فرانسوا بورجا (حصيلة بحث قمنا به في الفترة من عام 1984 إلى عام 1988) عن ظاهرة الإسلام السياسي في العالم العربي . إذ حاول المؤلف أن يستشرف مستقبل الإسلام السياسي من خلال “ديناميته الداخلية” و”القوة الجماهيرية” التي بات يمثلها ، بالإضافة إلى الدعم “الشعبي” لتنظيماته. فهو لم يجعل من الإسلام السياسي ذلك “الشيطان” الذي يتهدد الغرب وحضارته ، كما صوره كثير من الباحثين المستشرقين ، بقدر ما قدّمه كحركة اجتماعية “تحررية” صاعدة تمثل “صوت الجنوب” التواق إلى التحرر من هيمنة الغرب. (وأولئك الذين لا يريدون أن يروا في الإسلام السياسي إلا ظاهرة نابعة من الظروف التاريخية المرتبطة إلى حد ما بالثورة الإيرانية أو بمستقبلها على المدى القصير، مضطرون من الآن فصاعدا إلى إدخال بعض الظلال على استنتاجاتهم ليعترفوا أن المظهر “الهامشي” المتطرف لهذه الظاهرة قد أخفى عليهم تبلور قوى سياسية أكثر أهمية من تلك المجموعات الصغيرة المتطرفة التي كثيرا ما حدث خلط بينها وبين تلك القوى السياسية. )(ص 16) .
بهذا الانحياز والانبهار تعامل فرونسوا بورجا مع تنظيمات الإسلام السياسي وعمل جادا على شرعنة عنفها ضد الدولة والمجتمع حيث كتب بكل وثوقية (وفي مناخ سياسي غير ديمقراطي (يعاني صعوبة في تقبل مظاهر الاحتجاج) فقد لجأ الإسلام السياسي، أحيانا إلى العنف ، وهذا العنف لا يقل في عدم مشروعيته عن العنف الذي تمارسه الدولة)(ص20). وصدق د. نصر حامد أبو زيد ، في تقديمه للكتاب ، لما وصف موقف بورجا بـ”التطهري” (أغلب الظن أنه الموقف التطهري من إثم الغرب في تعامله مع ظاهرة الإسلام السياسي) . وكغيره من جل الباحثين، برر وجود الظاهرة الإسلاموية رد فعل ضد الهيمنة الغربية “هذه الصفحة الإسلاموية للمجتمعات الإسلامية هي فقط تعبير عن رد فعل على الوجود الغربي الذي عانت منه هذه المجتمعات خلال الفترة الاستعمارية والإمبراطورية”.
هذا التبرير يضعنا أمام سؤال مركزي : لماذا لم تتحالف تنظيمات الإسلام السياسي ، عند نشأتها ، مع الاتحاد السوفييتي ويلجأ إليه منظّروها وقادتها طالما كان يدعم حركات التحرر ويناهض الغرب الإمبريالي ، بينما فضلت التحالف من هذا الأخير واتخاذ ملجأ لقادتها وشيوخها ؟ ألم يلجأ الخميني إلى باريس بدل موسكو ، والغنوشي وأبو قتادة إلى لندن، وعمر عبد الرحمن إلى واشنطن ؟ هل يمكن مناهضة الغرب واللجوء إليه والاستعانة به ؟
لقد تغافل بورجا عن جرائم تنظيم الإخوان في مصر وسلسلة الاغتيالات التي نفذها في صفوف أطر الدول : اغتيال محمود فهمى النقراشى رئيس وزراء مصر في عام 194، اغتيال أحمد باشا ماهر، رئيس وزراء مصر الأسبق،محاولة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم عبد الهادى، في ماي 1949، وهى الواقعة التي يكشفها المؤرخ عبد الرحمن الرافعى فى كتابه “في أعقاب الثورة المصرية- ثورة 1919″، اغتيال المستشار أحمد الخازندار بتوجيه من حسن البنا الذي قال (“ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله”).واستمر مسلسل الاغتيالات ليستهدف الرئيس أنوار السادات الذي دعّم الإخوان وامتدح جماعتهم في مقالة نشرها في مجلة التحرير تحت عنوان “نحن …والإخوان المسلمون” كالتالي(كنا أحرص الناس على بقاء جماعة الإخوان المسلمين لاعتقادنا أنها جماعة صالحة تدعو لدين الله، ولما رسمه الإسلام من أخلاق كريمة، وهي نفس المبادئ التي اعتنقناها عن إيمان ويقين .. إن جماعة الإخوان المسلمين جماعة سامية الأهداف نبيلة الأغراض).
إن بورجا، في كتابه هذا، توقع أن يهيمن الإسلام السياسي على العالم الإسلامي الذي “يستلهم” “ثورته التحررية” من ثورة الخميني ، فينتهي الأمر بالغرب إلى الانكماش و”فقدان العالمية” والريادة (وقد أصبح الغرب بالفعل ، منذ أكثر من عشر سنوات ، عن طريق الخوميني وجوقته “الإرهابية” يدرك الصعوبة التي يواجهها في إدراك مكانته في العالم ، لأن زمام السيطرة على العالم قد انفلت منه ، ولأنه فقد قدرته على أن يفرض على “الجنوب” تصورا يرفع من شأن “الشمال” ، وفقد بالتالي قدرته على ادعاء العالمية)(ص17).
مرت ثلاثة عقود على تأليف الكتاب الذي يحمل استشراف مستقبل تنظيمات الإسلام السياسي التي تنبأ لها الكاتب بالهيمنة وقيادة العالم الإسلامي بعد “تحريره” من الهيمنة الغربية. وعاد إلينا الكاتب نفسه بموقف مناقض لذلك الذي سوّقه لدى الغرب ، وحاول إقناع به الطبقة السياسية وعموم المثقفين . ففي ندوة حول السياسة والدين ضمن فعاليات “أسبوع العلوم” التي احتضنتها جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية بمدينة بنجرير( نوفمبر 2021 ) ، قال إن ظاهرة الإسلام السياسي في العالم “ظرفية وستصل إلى نهايتها”.
لم تعد إذن، هذه الظاهرة تمثل ” قوى سياسية أكثر أهمية” ستزيل العالم الغربي من مركز “العالمية”. إلا أنه ، وهو يرى اندحار المشاريع السياسية لتنظيمات الإسلام السياسي في الدول التي فازت فيها بالانتخابات ووصلت إلى مراكز القرار ( تونس، مصر، المغرب )، يأبى أن يقرّ بفشل المشروع الإسلاموي الذي يرجعه إلى “الأنظمة السلطوية” كالتالي “ستكون هناك فترة ما بعد الإسلاموية، وذلك راجع إلى أسباب عدة، من بينها أن المشاكل التي واجهها الإسلامويون في العالم بصفة عامة ليست مرتبطة بإسلامية أجندتهم، بل لتواجدهم في الصفوف الأمامية في مواجهة الأنظمة السلطوية التي جاءت وراء الاستقلال”.
لقد تغاضى بورجا عن طبيعة المشاريع السياسية والمجتمعية للتنظيمات الإسلاموية ومناهضتها لمنظومة حقوق الإنسان وكونيتها، فضلا عن سلسلة القرارات الظالمة والأخطاء القاتلة التي ارتكبتها خلال تدبيرها للشأن العام في كل الدول التي تصدرت فيها نتائج الانتخابات.
وأكبر نموذج على “هشاشة” تصور وتحليل فرونسوا بورجا هو التجربة التونسية التي تولت فيها حركة النهضة مقاليد السلطة وكانت هي الحاكم الفعلي لتونس والمتحكمة في وضع الدستور . فهي لم تصطدم “بنظام سلطوي” بل أقامته وفرضته على الشعب وقواه السياسية والاجتماعية. وكذلك كان في مصر حيث ثار الشعب ضد مرسي ونظامه وجماعته. والأمر لا يختلف في المغرب حيث تولى الناخبون إزاحة حزب العدالة والتنمية بطريقة ديمقراطية سلمية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=16419