سعيد الكحل
تميز الخطاب الملكي لافتتاح الدورة الأولى من الولاية التشريعية الأخيرة في عمر الحكومة الحالية بكونه يضع خارطة طريق واضحة ودقيقة أمام الحكومة لمواجهة الأزمة الناتجة عن جائحة كورونا .فالظروف التي يجتازها المغرب حاليا شبيهة بالتي اجتازها في منتصف تسعينيات القرن العشرين من حيث ارتفاع المديونية ونسب البطالة.
وإذا كان الملك الراحل الحسن الثاني أعلن أمام البرلمان في خطاب افتتاح دورته التشريعية سنة 1995 عن كون المغرب مهددا بالسكتة القلبية ،داعيا البرلمانيين والحكومة إلى إيجاد الحلول السريعة لإنقاذ البلاد ، فإن الملك محمد السادس قرر تقديم خارطة الطريق للبرلمان والحكومة تتضمن رزنامة من الإجراءات ومصادر التمويل ؛ إذ لم يعد أمام الهيأتين سوى الانخراط الجدي في أجرأتها.
وإذا كان الملك الحسن الثاني رحمه الله استعان بأحزاب الكتلة الديمقراطية وكفاءات أطُرِها في مواجهة “السكتة القلبية” ، فإن الملك محمد السادس لم يجد في الأحزاب ، وإن تكتلت جميعها، القوة السياسية المؤهَّلة لمواجهة أزمة عادية فأحرى أزمة كورونا . ومن المفارقات أن أحزاب الكتلة الديمقراطية كانت حينها تطالب بتقليص أعضاء البرلمان عبر حذف الثلث غير المباشر لا يفرزه الاقتراع العام المباشر) ، بينما الأحزاب السياسية اليوم ، أغلبية ومعارضة ، تطالب بإضافة 30 عضوا إلى مجموع الأعضاء الحاليين في ظرفية اقتصادية واجتماعية جد صعبة (الجفاف + جائحة كورونا + ارتفاع المديونية)؛ ما يعني تحميل الميزانية العامة تكاليف إضافية لن يجني منها الاقتصاد المغربي أية فائدة.
بل كان بالأحرى على كل الأحزاب أن تتقدم بمذكرات تطالب فيها بتقليص أعداد البرلمانيين والتنازل عن الامتيازات التي تكلف الدولة مبالغ مهمة وكذا جزء لا يقل عن ثلث 3/1 التعويضات لفائدة خزينة الدولة تحولها إلى دعم المقاولات وتشجيع الاستثمارات والتخفيف من آثار الجائحة. فأمام ضعف المردودية السياسية للأحزاب وعجز الحكومة عن ترجمة التوجيهات الملكية إلى برامج تنموية تنهض بالواقع المعيش للمواطنين، لم يكن أمام جلالة الملك غير أخذ المبادرة (لذا، أطلقنا خطة طموحة لإنعاش الاقتصاد، ومشروعا كبيرا لتعميم التغطية الاجتماعية، وأكدنا على اعتماد مبادئ الحكامة الجيدة، وإصلاح مؤسسات القطاع العام). إذ ليس هيّنا على دولة من مستوى المغرب، وفي ظل الجائحة، توفير الدعم للمقاولات الصغيرة والمتوسطة (عبر آلية القروض المضمونة من طرف الدولة، فقد استفاد منها، إلى حدود الآن ، ما يزيد عن 20 ألف مقاولة مغربية، بما يقارب 26 مليارا و100 مليون درهم).
مجهود جبار بحاجة إلى كفاءات وطنية وطاقات مواطِنة تجعل المصلحة العامة فوق كل اعتبار. لكن للأسف، تم تهميشها بسبب غلبة منطق الريع والزبونية الذي جعلته حكومة البيجيدي نهجها الثابت الذي يحدد معيار التعيين في المناصب العليا والحساسة. ولا تكاد تخلو كل التعيينات التي باشرتها الحكومة من فضائح واحتجاجات حتى من داخل أعضاء الأحزاب المكونة لها ، آخرها التعيينات في مجلس الهيئة الوطنية لضبط الكهرباء والتعويضات الممنوحة للأعضاء رغم وضعية التقشف التي تفرضها جائحة كورونا على الحكومة لمواجهة الأزمة.
أمر لا يمكن أن يخدم أهداف خطط ومجهودات الدولة لإنعاش الاقتصاد . لهذه الغاية، وضع الخطاب الملكي النقط على الحروف مركزا على أهم أسباب فشل الحكومة في الاستجابة لانتظارات الشعب المغربي في التنمية والكرامة والديمقراطية ، والتي على الحكومة القطع معها:
أولاها: مساطر التعيين في المناصب العليا التي لا تراعي الكفاءة ؛ لهذا خاطب جلالة الملك الحكومة بكل وطنية ومسؤولية (ندعو الحكومة للقيام بمراجعة عميقة لمعايير ومساطر التعيين، في المناصب العليا، بما يحفز الكفاءات الوطنية، على الانخراط في الوظيفة العمومية، وجعلها أكثر جاذبية).
ثانيها : العقليات النخرة التي تعميها المكاسب والمناصب عن المصلحة العليا للشعب والوطن .ولا سبيل لتجاوز الأزمة وتفعيل خارطة الطريق إلا بالقطع مع هذه العقليات (ذلك أن نجاح خطة الإنعاش الاقتصادي، والتأسيس لعقد اجتماعي جديد، يقتضي تغييرا حقيقيا في العقليات، وفي مستوى أداء المؤسسات العمومية).
ثالثها : غياب الربط بين المسؤولية والمحاسبة كما ينص عليه الدستور. الأمر الذي ترتب عنه استفحال نهب المال العام والارتشاء رغم الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي أطلقتها الحكومة سنة 2015 (المغرب انتقل من المركز 121 إلى المركز 131 خلال 2019، حسب تصنيف محاربة الفساد ومؤشر ارتفاع مخاطر الرشوة الذي تعده منظمة أمريكية )، والتهرب الضريبي (تقرير سابق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أكد أن ثلث المقاولات الكبرى فقط تؤدي الضريبة ) وتهريب العملة الصعبة (حسب تقرير جديد للأمم المتحدة، فقد بلغ حجم الأموال المهربة خارج المغرب 153 مليار درهم فقط بين 2013 و 2014 ). دون أن تتصدى الحكومة بكل مسؤولية ووطنية لهذا النزيف الذي تعاني منه الميزانية العامة للدولة. لهذا كان جلالة الملك واضحا وحاسما (إن نجاح أي خطة أو مشروع، مهما كانت أهدافه، يبقى رهينا باعتماد مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة).
إذن، أمام حكومة عاجزة عن حماية المال العام ومحاربة الفساد والتبذير وتفعيل الدستور لا يمكنها بكل تأكيد أن ترفع من أدائها وتغير قواعد تعاطيها مع الشأن العام فتنفذ التوجيهات الملكية وتستجيب لتطلعات الشعب إلى التنمية والعيش الكريم .تسع سنوات مرت على رئاسة البيجيدي للحكومة ولم يجن الشعب المغربي خلالها غير الخيبات وفقدان المكاسب الاقتصادية والاجتماعية وتغوّل لوبيات الفساد.
فرغم عشرات التقارير التي أنجزها المجلس الأعلى للحسابات عن حجم النهب وتبذير المال العام، لم تتحمل الحكومة مسؤوليتها الدستورية والوطنية لمحاكمة الفاسدين، بل ظلت وفية لقرار بنكيران “عفا الله عما سلف”، مما شجع على استفحال النهب والتبذير. والأخطر أن الحكومة جمّدت 8 لجان استطلاع برلمانية للتستر على فضائح وزراء ومسؤولين.
لقد فقد المغاربة الأمل في أي إصلاح على يد حكومة البيجيدي، لهذا يستعجلون رحيلها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=11176