ذ. محمد جناي
الليبرالية مصطلح أجنبي معرب عن كلمة (Liberalism ) في الإنجليزية ، وهي تعني التحررية ، ويعود اشتقاقها ومعناها إلى الحرية ،يختلف تطبيق الليبرالية في أمريكا عنه في كثير من دول الغرب، وفي بعض بلدان آسيا والشرق ، وفي كل مكان آخر اختلافا واضحا، وهو في مجمله مذهب فكري يركز على الحرية الفردية ، ويرى وجوب احترام استقلال الأفراد، ويعتقد أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية، بالإضافة إلى نظام اقتصادي للسوق الحرة وغيرها.
لم يتبلور الفكر الليبرالي على يد مفكر واحد أو في زمن واحد، بل اشترك في وضع أصوله عدد من المفكرين في أزمنة وأمكنة مختلفة، فهو خلاصة تجربة إنسانية امتدت أربعة قرون ، شكلت نمطا فكريا عاما ، ومنظومة متشابكة من المعتقدات والقيم والمنطلقات، نتج عن ذلك تنوع بل تغاير في تحديد مفهوم هذا المصطلح تبعا لتطور هذا الفكر أو الزاوية التي ينظر المفكر من خلالها لهذا المصطلح أو البعد الزمني أو المكاني لإطلاق هذا المفهوم أو ذاك، وهو ما جعل بعض المفكرين بسم هذا المصطلح بالغموض والزئبقية والمخادعة.
جاء في موسوعة (ويكبيديا) الإلكترونية وصف الليبرالية بأنها : ” حركة وعي اجتماعي وسياسي داخل المجتمع ، تهدف لتحرير الإنسان فردا وجماعة من القيود الأربعة (السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية)، واعترض الليبرالية على تدخل الدين في الأمور الشخصية بشكل عام ، وهي بهذا مقاربة العلمانية بشكل كبير “، وقالت تلك الموسوعة ” تعتمد الليبرالية فهم الدين بشكل أفضل، فلكل شخص حرية الأفعال والأبواب مالم يتعرض للأشخاص الآخرين أو يجبرهم على أفعال معينة، فالليبرالي يرى أنه يحق له أن يتعبد بالطريقة التي يريد طالما أنها لا تسبب أذى للآخرين ، ولايرى أن هناك أحدا يملك مقاضاته أو محاسبته على ذلك، إذا لم يكن فيما فعله أي تجاوز على الحقوق الشخصية أو الدستور”.
الليبرالية إذن فلسفة سياسية ظهرت في أوروبا ، ثم اتخذت منذ ذلك الحين أشكالا مختلفة في أزمنة وأماكن مختلفة ، ولكنها اتسمت دائما بسمة تقدمية ، ثم انتقلت بعد ذلك إلى العالم العربي ودخلت قاموس الثقافة العربية كغيرها من المذاهب والأفكار والفلسفات الوافدة ، والليبرالية تعارض المؤسسات السياسية والدينية ، التي تحد من الحرية الفردية ، وتنادي بأن الإنسان كائن خير وعقلاني، وتطالب بحقه في حرية التعبير وتكافؤ الفرص والثقافة الواسعة .
والليبرالية كمصطلح يكتنفه الكثير من الغموض واللبس والتداخل بل التنازع ، وقد أشار كثير ممن كتب عن مفهوم الليبرالية إلى هذا الغموض وتقلبه من معنى إلى آخر ، سواء كان في بيئته الغربية أو عند نقلته إلى بيئتنا العربية ، لأسباب واعتبارات يأتي بيانها، حيث أدى هذا الغموض إلى الجدل في كون الليبرالية ليبرالية واحدة أم هي ليبراليات عدة ؟
ولهذا اللبس والغموض أسباب بعضها يعود إلى طبيعة المفهوم ومكوناته ، وبعضها الآخر يرجع إلى تطوره الرغبة في تحقيق مصالح دعاته ، ويمكن إيجاز أبرز أسباب هذا الغموض بمايلي:
أولا: غموض مفهوم الحرية نفسه، الذي هو أس الليبرالية وعليه يقوم بناؤها، جاء في الموسوعة البريطانية ” وحيث أن كلمة الحرية هي كلمة يكتنفها الغموض فكذلك هو الحال مع كلمة ليبرالي ، فالليبرالي قد يؤمن بأن الحرية مسألة خاصة بالفرد دون غيره، وأن دور الدولة يجب أن يكون محددا، أو قد يؤمن بأن الحرية هي شأن خاص بالدولة ، وأن الدولة باستطاعتها أو يمكن استخدامها بمثابة أداة لتعزيز الحرية”.
ثانيا: تطور المفهوم ومسايرته للواقع ، فقد بدأت الليبرالية بنزعة فردية صارمة ، وهذه هي الصورة المفترضة لليبرالية ، ولكنها تحت ضغط الواقع والإخفاقات المتكررة غيرت جلدها واتجهت صوب الجماعية، وقد احتدم الصراع بين الاتجاهين ، ووصف كل اتجاه الآخر بخروجه عن الحرية التي هي جوهر الفكر الليبرالي، ويقول علي حرب ” لايسع المرء أن يتحدث عن الليبرالية بلغة أهل القرن الثامن عشر ولا بلغة الخمسينات من هذا القرن ، لايسعه أن يفهمها بالمفهوم الاقتصادي لسميث أو لكينز ، ولا بالمفهوم السياسي للأحزاب الليبرالية ، ولا حتى بالمفهوم الفلسفي لسارتر ، وإنما يفهمها من خلال اللحظة التاريخية التي ينخرط فيها وفي ضوء العالم الفكري الذي ينتمي إليه “، فمفهوم الليبرالية ليس مجرد دالة لفظية حتى يمكن الاكتفاء فيها بالمقاربة المعجمية ، بل هي أفكار محايثة للواقع وموصولة بالتاريخ وما يعتمل فيه من تدافع وصراع، ومايختزنه من اختلاف وائتلاف.
ثالثا: تعدد واختلاف الانتماءات الفكرية لمنظريها ودعاتها بل المدعين لها ، يقول د. رفعت السعيد ” لأن الليبرالية هي منطلق ووجهة نظر فإن فهم الليبرالية وتحديد معناها ومحتواها يتعلق أساسا بالانتماء الفكري وربما الطبقي لكل فرد”.
رابعا: ارتباط الليبرالية بالرأسمالية النفعية ومن ثم مسايرتها لمصالح الطبقة الرأسمالية وتحقيق أهدافها ، ومع تغير المصالح والأهداف -باختلاف الأوقات والأماكن- تشكل المفهوم وتقلب معناه بحسب ذلك .
ويمكن تلمس الأسس والمكونات التي يقوم عليها الفكر الليبرالي ، ولا يكاد ينفك عنها، أو *متلازمة الفكر الليبرالي* كما يعبر عنها (جون جراي) والتي تمثل القدر المشترك بين سائر اتجاهاتها بخصائص متعددة يأتي على رأسها : (الفردية -الحرية-العقلانية )، فالفردية تمثل الأساس الفلسفي للمفهوم الليبرالي ، بوصفها البنية الأساسية التي أخرجت الليبرالية إلى حيز الوجود، والحرية هي جوهر الليبرالية، وفي الوقت نفسه آلية عملها، والعقلانية تشكل الحارس على اختيارات الإنسان الليبرالي ومعياره الأوحد لإدراك المصالح والمنافع، وإصدار الحكم عليها دون الحاجة إلى قوى خارجية عن ذات الإنسان، وقد يضيف بعض الباحثين خاصيتي العلمانية والنفعية ، والتي يصعب تصور الليبرالية بدونهما غير أن مضمونهما ساكن في الفردية والحرية فيتعذر الانفكاك والانفصال المفهومية بينهما.
الليبرالية هي الأولى من بين الأيديولوجيات السياسية الثلاث الكبرى المتنافسة في العالم الحديث ، ومع زوال الفاشية والشيوعية ، فهي الأيديولوجيا السياسية الوحيدة التي لا تزال تملك ادعاء الجدوى، و الليبرالية ، بوصفها أيديولوجيا ، هي أول معمار سياسي يطرح مشروعا لتحويل جميع جوانب الحياة البشرية للتتوافق مع خطة سياسية مسبقة.
ولكن على النقيض من الأنظمة الاستبدادية على نحو واضح والتي نشأت من أجل النهوض بأيديولوجيات الفاشية والشيوعية ، فإن الليبرالية أقل أيديولوجية بنحو واضح وتعيد تشكيل العالم على صورتها بنحو خفي فقط، على النقيض من الأيديولوجيات المنافسة الأكثر قسوة، فإن الليبرالية أكثر مكرا ودهاء :فهي كأيديولوجيا تتظاهر بالحياد ، ولا تدعي أي تفضيل ، وتنكر أي نية لتشكيل النفوس تحت لواء حكمها، هي تتزلف من خلال الدعوة إلى الحريات السهلة ، والإلهاء ،والإغواء بالحرية، والملذات والثروة .
من الملاحظ في لحظتنا هذه، أن الجدل الخاص بالموقف من المذهب الليبرالي لا يقتصر على واقعنا العربي ، بل يسود أقطارا ووقائع مجتمعية أخرى، فالكل يتحدث عن الليبرالية ، وقد تصاعد النقاش واشتد في مختلف الندوات والملتقيات والمؤتمرات السياسية والفكرية ، وانفصل الأطراف المتجادلون إلى مواقف حادة جد متطرفة في تقويم النموذج الاقتصادي والسياسي الليبرالي، وتحديد الموقف منه.
ونستنج مما سبق أن لليبرالية جوهر أساسي؛ يتفق عليه جميع الليبراليين في كافة العصور مع اختلاف توجهاتهم وكيفية تطبيقها كوسيلة من وسائل الإصلاح والإنتاج، هذا الجوهر هو « أن الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهى، الباعث والهدف ، الأصل والنتيجة في حياة الإنسان، وهي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في حياة الإنسان في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق عليه»،ورغم هذه الدعوى العريضة التي يدعيها الليبراليون في الحرية المطلقة، فإننا نجد أنهم يفعلون ذلك فيما يتعلق بالأخلاق والأديان، انفكاكا من تأثيرها وابتعادا عن مضمونها ومقتضياتها ، ولكنهم في الوقت نفسه يفرضون على الناس قيودا تحد من حريتهم وتقلص من اختيارهم ، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، أن الليبرالية في بلاد الغرب (أوروبا وأمريكا) يمنعون أي انتقاد لليهود وأي مناقشة لمزاعمهم التاريخية في الحرق والإبادة، ويعتبرون من يفعل ذلك معاد للسامية ويستحق العقوبة ، وتستحق كتبه المصادرة والإتلاف.
لم تعد الليبرالية اليوم تقدم بوصفها أنموذجا أو نظاما سياسيا واقتصاديا من بين أنظمة أخرى ، بل يصح القول : إنها تكاد تقدم بوصفها الأنموذج الوحيد لتسيير الشأن السياسي والمجتمعي ، دونما منافس لها أو بديل ولذا يغدو السؤال عن دلالتها ، وتشغيل الوعي النقدي لبحث قيمها ومبادئها وتطبيقاتها المجتمعية ؛ ضرورة ماسة نابعة من طبيعة لحظتنا التاريخية الآخذة في فرض النموذج على مختلف أقطار العالم.
والخطاب الدعائي المصاحب لليبرالية ، الذي يكاد يرادف بينها وبين معنى الحرية والعدل والمساواة والسعادة، فيجعل من ثم ناقدها عدوا للتحرر، وداعيا إلى الاستبداد ومناهضا للعدل وداعيا إلى الظلم، وهو خطاب يذهل عن إدراك المعنى الفلسفي والديني للحرية، والعدالة،والحقيقة، والجمال، والسعادة؛ فهذه المفاهيم هي « مُثُلُُ » عليا تتوزع عليها فعاليات الإنسان المعرفية والخلقية والجمالية، والكائن الإنساني مسكون – بحكم إنسانيته- بنزوع نفسي نحوها ، بيد أن المثل، من حيث طبيعتها وبعدها الوظيفي ، ينبغي أن تبقى مثلا ، إذ بذلك تبقى أفقا يجتذب الرؤيا والفعل البشريين، فنضمن من ثم إمكان ترقي الإنسان.
وبالتالي ، فمنتهى الإفلاس هو أن يزعم مذهب من المذاهب أنه جسد مثالا من المثل ، وأن لا مجال من بعده إلا إعلان (( نهاية التاريخ )) وهو بالفعل المنزلق الذي سارت فيه الليبرالية الجديدة في طبعتها القاصرة مع (فوكوياما) عندما يقول أننا بلغنا نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية الذي يتمثل في عالمية النموذج الديموقراطي الليبرالي الغربي كشكل نهائي للحكم الإنساني.
في مقابل هذا الاحتفاء والتبجيل اللذين حظيت بهما النظرية والفلسفة الليبرالية عند البعض ، ثمة توجه مناهض لها على أساس أنها مجرد قناع لإخفاء تغول الرأسمال وتفتيت أنساق القيم ، وتدمير المقومات الأخلاقية للفعل الإنساني ، وإفراغ الحياة من المعنى، بل إنها حسب هذا التوجه المناهض غير قادرة على تحقيق حتى شعاراتها الاقتصادية الأساسية، فالرفاه الذي يعد به المشروع الليبرالي يتحول واقعيا إلى مجرد وهم جميل ، وذلك بفعل تضاد المقاصد المثالية لليبرالية مع الواقع المحكوم بجشع الرأسمال ، حيث يستحيل المجتمع المنتظم وفق النسق القيمي لليبرالية، القائم على الحرية والفردانية، إلى واقع تصارعي متوحش لا يحتكم لأي قيمة إنسانية، بل يسوده قانون الغاب ، بكل ما يعنيه من تسييد لمنطق القوة المطلقة من كل قيمة.
ختاما:
الليبرالية في جوهرها ليست تحريرا للكائن الإنساني، إنما هي تحرير للرأسمال ، ليتحول من أداة إنتاج تخضع للمراقبة الاجتماعية، إلى كيان مهيمن يتحكم في الاقتصاد والسياسة والإعلام ويوجه مسار الحياة الإنسانية وفق منطقه المادي القاصر.
(يتبع)
ـــــــــــــــــــ
هوامش
(1): ماذا تعرف عن هذه المصطلحات(الدولة الإسلامية -الدولة المدنية – العلمانية -الليبرالية -الثيوقراطية )، تأليف حاتم بن حسن الديب ، دار الكتب المصرية ، الطبعة الأولى 2011.
(2):موقف الليبرالية في البلاد العربية من محكمات الدين (دراسة تحليلية نقدية)، د .صالح محمد الدميجي ، مجلة البيان ، الطبعة الأولى 1433.
(3): نقد الليبرالية ، الطيب بوعزة ،الطبعة الأولى 2012، دار الكتب المصرية.
(4):لماذا فشلت الليبرالية ، تأليف باتريك دينين ، ترجمة يعقوب عبد الرحمن ، سلسلة عالم المعرفة العدد 483 أبريل 2020 ، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت .
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15211
زكرياء القيسوميمنذ 3 سنوات
شكرا لك عن المقال الجميل ذكتر