حب الوطن وولاؤه : ممدحة لا منقصة
د. صلاح الدين المراكشي
من المؤسف في زمن الوعي والمعرفة، أن يُتَّهَم المخلص لوطنه، الصادق في قوله، الأمين في عمله، الوفيّ لقيادته، الحريص على صون بلده من الفتن، والمشارك بإخلاصٍ في بنائه وتنميته؛ بأنه “مُطَبِّل”، أو من “ صحاب العام زين”!
تُطلَق هذه الأوصاف بغرض خلط الأوراق وتشويش العقول، وكأن الدفاع عن الوطن أصبح منقصة ! وكأن أرضنا خلت من المخلصين وأهل الخير الذين يحملون
همّها بإيمانٍ وصدق.
وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من
هذا المنهج السلبي العدمي في الحكم على الناس، فقال: « من قال: هلك الناس فهو أهلكُهم»، وقيل : «أهلَكَهم». رواه مسلم برقم : (2623) ويجمع المعنيان بين تحذيرين عظيمين؛ فالأول: بضم الكاف
( فهو أهلكُهم) يشير إلى أن من يطلق أحكام الهلاك على الناس جميعًا هو أشدهم هلاكًا وأبعدهم عن الهداية، لأنه لا يرى إلا العيوب، ولا يفتح بابًا للأمل أو الإصلاح. وأما الثاني: بفتح الكاف (فهو أهلَكَهم ) فيدل على أن هذا المتشائم هو السبب في إهلاك غيره،
إذ يبث روح اليأس، ويثبّط الهمم، ويشيع النظرة السوداوية في المجتمع.
وهكذا؛ صار بعضهم — بجهلٍ أو سوء قصد — ينظر إلى حب الوطن، والانتماء إليه، وكأنه نقيصة تُعاب ! أو تهمة تستوجب السخرية ! مع أن حب الوطن ممدحة، والانتماء إليه شرف، والوفاء له من أصدق دلائل الإيمان والإحسان.
وهنا؛ استحضر مقولة مشتهرة على ألسنة الناس وإن كانت ليست حديثاً نبوياً ذكرها الصاغاني وغيره ضمن الآحاديث الموضوعة ص: 47 وهي : «حبّ الوطن من الإيمان». حتى وإن لم تثبت حديثًا نبوياً فهي تحمل معنىً صحيحاً دل عليه القرءان الكريم والهدي النبوي قولاً وفعلاً .
فأول دعاءٍ لسيدنا إبراهيم عليه السلام عند تأسيس البلد الحرام كان طلب أمن الوطن واستقراره، في دلالةٍ واضحة على أن حفظ أمن البلاد مقصدٌ شرعيٌّ عظيم لا يقل أهمية عن إقامة الصلاة والعبادات.
قال تعالى “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا” [البقرة: 126].
وفي هذا المقام؛ يسطع نموذج قرآني رفيع يجسّد أسمى معاني حبّ الوطن، والإخلاص له، رغم ما لاقاه صاحبه من ابتلاء، وهو نبي الله يوسف عليه السلام. فقد ابتُلي بظلمٍ شديدٍ حين اتُّهم زورًا من قِبل امرأة العزيز، وسُجن بسبب مكيدتها، رغم براءته ونقائه. ومع ذلك، وبعد أن أكرمه الله وأخرجه من السجن، لم يحمل في قلبه حقدًا على وطنه ولا على من ظلمه ! ولم يسعَ للانتقام ! بل قابل الإساءة بالإحسان، وأبدى إخلاصًا نادرًا في خدمة وطنه ومجتمعه، فقال للعزيز الذي ظلمه بالأمس : ” اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم” [يوسف: 55].
وهكذا؛ قدّم لنا نبي الله يوسف عليه السلام درسًا خالدًا في الوطنية الصادقة، والإخلاص، رغم الشدائد والابتلاءات التي واجهها، إذ أظهر الوفاء الحقيقي وحب الوطن الصادر عن نقاء القلب.
وورد في السنة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى هلال دخول الشهر دعا قائلاً : ” اللهم أهِّلَه علينا بالأمن والإيمان والسلامةِ والإسلام ربي وربك الله هلال رشد وخير “رواه الترمذي (3451) حديث حسن لشواهده.
يُفهم من هذا الدعاء النبوي العظيم أن الأمن والإيمان قرينان لا ينفصلان، وأن العبادة والطاعة والمصالح العامة لا تزدهر إلا في ظل وطنٍ آمنٍ مستقر، فاستقرار الأوطان هو الأساس الذي تُبنى عليه مقاصد الدين وتتحقق به مصالح العباد والبلاد.
وقد تجلّى حب النبي صلى الله عليه وسلم لوطنه في أبهى صوره حين غادر مكة المكرمة قائلاً : ” والله إنك لأخيرُ أرض الله وأحب أرض الله إلى الله – عزوجل – ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجتُ.” رواه النسائي برقم: (4239) وهو حديث صحيح.
إنه تصريح نبوي صادق يقرر أن حبّ الوطن فطرة إنسانية وخلق نبوي كريم، لا يتعارض مع الدين، بل ينسجم معه انسجامًا تامًا. وليس أدلّ على ذلك من أن الأنبياء جميعًا أحبّوا أوطانهم، ودعوا لها بالخير، وبذلوا الجهد في إصلاحها، ليؤكدوا بأقوالهم وأفعالهم أن حبّ الوطن جزء من الإيمان، ومعنى راسخ في نفوس المرسلين والصالحين.
إن مثل هذه المفاهيم المقلوبة، كاتهام من يُشيد بوطنه بأنه : “مطبل” أو كما يقال: بالعامية: “صاحب العام زين”، ليست سوى أفكار دخيلة تسللت إلى عقول بعض المنخدعين، فشوَّهت فهمهم للانتماء وحب الوطن.
وقد غذّت هذه النظرة المنحرفة تيارات أيديولوجية هدامة، تهدف إلى قطع الصلة الفطرية التي أودعها الله في الإنسان تجاه وطنه، تلك الفطرة التي تجعل حب الوطن غريزة طبيعية ومصدر قوة ووحدة لا موضع سخرية أو تهمة.
إن الوفاء للوطن ليس رياءً ولا تزلّفًا، بل هو شكر عملي للنعم. فليس من المنطق أن يعيش الإنسان في وطنٍ آمنٍ، ينعم بخيراته وتعليمه وخدماته، ثم يتنكر له أو يسيء إليه.
قال تعالى: ” وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ” [المائدة: 7].
وليس الخطأ الفردي أو سوء المعاملة من مؤسسة ما سببًا للحقد على الوطن، فهو كيان جامع يحفظ الهوية والثوابت والنظام العام، ومن يخلص له فإنه بذلك يفي ببيعةٍ وولاءٍ لمن ولاه الله الأمر، حفاظًا على الدين والدنيا معًا، وتحقيقًا للأمن والاستقرار الذي يتيح للناس العيش الكريم والمثمر.
فالمحب لوطنه إنسانٌ وفيٌّ يحمل قلبًا رحيمًا، يعرف معنى العطاء والوفاء. أما من
لا يحنّ إلى وطنه ولا يبالي بأمنه أو استقراره، فإنه يعاني خللًا في الفطرة قبل الفكرة.
قال الأصمعي رحمه الله : “سمعت أعرابيًا يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل، فانظر كيف تحنّنه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه” الاداب الشرعية لابن مفلح ص : 292
فيدل هذا القول على أن المشاعر الصادقة تجاه الوطن والإخاء بين أبنائه، وحنين الإنسان إلى زمن مضى من حياته في وطنه، هي مقياس حقيقي للانتماء.
ومن أخطر أمراض الانتماء ما يُعرف بـ : ” العزلة الشعورية ” ، وهي أن يعيش الإنسان بين أبناء وطنه جسدًا، بينما قلبه وولاؤه معلّقان بجهات أو أفكار خارجية، مما يجعله ينظر إلى وطنه بعين الريبة، وينكر كل منجز، ويفرغ كل موقف من معناه، فيضيع الانتماء الحقيقي.
الانتماء للوطن عبادةٌ وسلوكٌ راقٍ، لا مجرد شعارٍ أو عاطفةٍ مؤقتة. والمخلصون لأوطانهم يسيرون على خُطا الأنبياء في الوفاء والإصلاح .أما من يحاول جعل الولاء للوطن منقصة فهو في الحقيقة يعاني عزلة عن مجتمعه ودينه.
ليكن ولاؤنا لأوطاننا واضحًا، يتجلّى في كلماتنا وأفعالنا أينما حللنا وارتحلنا.
فكوننا مع الوطن وفي خدمته فخرٌ عظيم، ولمن سألنا عن ذلك بنية مُبيتة، فلنرد بكل اعتزاز: نفخر بخدمة وطننا، ولنقلب السؤال عليه : وأنت خادم لمن؟ وبيعتك لمن؟
فلنكن كما أرادنا الله ورسوله: أوفياء لديننا، مخلصين لقيادتنا، محبين للخير لأوطاننا، مدركين أن حب الوطن ممدحة لا منقصة.
والله الموفق.