سعيد الكحل
أصدرت جماعة العدل والإحسان بيانا حول تعديل مدونة الأسرة يوم 4 أكتوبر 2023، تؤكد فيه على مواقفها المناهضة للنظام ولمؤسسات الدولة ولمشاريع الإصلاح أيا كان مجالها. فالجماعة لا تترك أي مناسبة لتعلن رفضها للنظام ولمرتكزاته الدستورية والسياسية. لهذا لا يمكن أن نتوقع موقفا من الجماعة يساند أي مبادرة للإصلاح تقدمها الدولة. فالجماعة ترفض، منذ تأسيسها، العمل من داخل مؤسسات الدولة أو دعم مبادراتها، وستظل على موقفها هذا طالما لم تعلن مراجعة الأسس الإيديولوجية التي وضعها الشيخ ياسين وألزم الجماعة بالتمسك بها. ومن تلك الأسس: مناهضة النظام ومقاطعة مؤسساته السياسية والدستورية التي تعبر الجماعة أن كل انخراط فيها هو مصالحة مع النظام و”ترميم لصدع” بنيانه الذي تتوقع الجماعة، يائسة، انهياره.
خاب مسعى الجماعة
على ضوء الأسس الإيديولوجية التي تأسست عليها جماعة العدل والإحسان يمكن فهم أهدافها وأساليبها والمواقف الخفية/الحقيقية أو الظاهرة/المصطنعة التي تتخذها سواء من تعديل مدونة الأسرة أو مراجعة القانون الجنائي. وبيان الجماعة يكشف صراحة عن تلك الأسس الإيديولوجية (مناهضة النظام، السعي لتغييره، تأليب الرأي العام ليكون شرارة “القومة”) كالتالي:
1 ـ اعتبار النظام الملكي أكبر الأعطاب: فالجماعة لا تكترث للاختلالات التي يعرفها تطبيق المدونة ولا المآسي التي تترتب عن تلك الاختلالات والعيوب، والتي تذهب ضحيتها النساء، سواء كن زوجات أو مطلقات أو عازبات، بل تشدد في البيان على موقفها المناهض للنظام كالتالي”يتم تغييب النقاش عن الأعطاب الكبرى التي تعيق التطبيق السليم لأي قانون صالح ومناسب. ومن هذه الأعطاب الكبرى غياب نظام ديمقراطي يعتمد الشراكة والشورى الحقيقية مع مختلف القوى المجتمعية”. ومن ثم، تجزم الجماعة أن أي إصلاح للمدونة لن يتحقق في ظل مؤسسات النظام وقوانينه ونظامه التعليمي ومنظومته التشريعية والقضائية. لهذا سيكون من العبث إشراك الجماعة في أي نقاش.
2 ـ الربط بين إصلاح المدونة وتغيير النظام: جاء في بيان الجماعة “إن السعي “لإصلاح” مدونة الأسرة ينبغي أن لا ينفك عن إصلاح تلك الأعطاب وغيرها. وما الأسرة على قداستها إلا حلقة في سلسلة سياسية اجتماعية اقتصادية تربوية ثقافية”. فالجماعة وفية لأسسها الأيديولوجية التي تقوم على مناهضة النظام والإعداد “للقومة” بغرض “الزحف” على السلطة.
3 ـ تأليب الرأي العام ضد النظام ومؤسساته الدستورية بهدف إحداث قطيعة بينه وبين الشعب. ذلك أن الجماعة تدرك جيدا تجذر النظام في وجدان الشعب. لهذا تلجأ إلى اتهامه بالتقصير في حماية الدين والسماح “لأقلية فاسدة ــ مفسدة تستقوي ــ بالسلطة وبالدعم الخارجي، وتريد أن تصبغ بفسادها كل المجتمع”. فهي تنصّب نفسها حامية للدين ومدافعة عن الأسرة “ندعو إلى اليقظة الشعبية الدائمة والمستمرة، وإلى الوعي التام بكل المخاطر التي تهدد الأسرة والاستعداد من أجل الدفاع عن تماسكها وعن مركزيتها المجتمعية بكل السبل السلمية المشروعة”. طبعا الجماعة لا تريد أي خير أو تقدم أو إصلاح في ظل النظام الملكي.
كن كان الخوخ يداوي..
لا شك أن الجماعة موقنة أن إصلاح المدونة ليس متوقفا على رأيها أو مشاركتها. إذ رأسمالها الوحيد هو المعارضة والمناهضة. وموقنة أيضا أن الأحزاب السياسية، باستثناء البيجيدي، رافضة لأي تحالف معها أو تنسيق لتباين الأهداف. وتريد الجماعة، ببيانها هذا، تسجيل موقفها على هامش النقاش حول إصلاح المدونة والاصطفاف إلى جانب البيجيدي، لما بينهما من روابط أيديولوجية وأهداف إستراتيجية مشتركة، الهدف منه هو عرقلة الإصلاح حتى لا يصل إلى الأبعاد المنشودة. فالجماعة تثبت مرة أخرى أن الإسلاميين يشكلون أكبر العراقيل في وجه الإصلاح والتحديث والدمقرطة ورفع كل أشكال العنف والتمييز ضد النساء.
ومن خبث الجماعة وخسة قيادتها أنها تروج للأراجيف وتتهم دعاة الإصلاح في نواياهم وعقائدهم. إذ اعتبرتهم، في بيانها، فئة “تريد أن تعلنها حربا ضروسا داخل الأسر المغربية من خلال محاولات رفع الجرم عن الفساد في علاقة الرجال بالنساء وجعل الأسر، والعياذ بالله، بين خيارين إما أن تكون أوكارا للفساد وشيوع الرذيلة وانتشار الفاحشة، أو ميدانا للاقتتال والحروب، ينتهي بالناس إلى المقابر والمستشفيات والسجون لا قدر الله”. وباعتباري عنصرا ضمن الفئة المنادية بالإصلاح والداعمة له، أقدم ما يفنّد ترهات الجماعة وأراجيفها كالتالي:
أ ـ إن المساواة في الإرث بين الجنسين لا تتعارض مع مقصد الشريعة: العدل. فاقتسام التركة بين الأخوة وفق قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين لم يعد يحقق العدل بعد أن تغيرت بنيات الأسر ولم يعد الذكور يتكفلون بالإناث أو يتحملون وحدهم الإنفاق عليهن؛ بل صارت النساء يتحملن نفقة الأسر (1.7 مليون أسرة تعيلها النساء وحدهن). والذي ينبغي أن يستخلص الدروس من التاريخ هم الإسلاميون الذين لا يزالون مخلصين للتراث الفقهي الذي يحتقر النساء ويهينهن. فعلى الجماعة وباقي الإسلاميين أن ينفتحوا على الواقع ويجعلوه مرجعهم الأساسي في الاجتهاد وليس فتاوى القرون الغابرة حيث كانت التركة تقسّم وفق معايير الحرب وحمل السلاح أو أعراف القبيلة. أما اليوم فالإناث ينفقن على آبائهن وإخوانهن ويساهمن مباشرة في تكوين ومراكمة أموال الأسرة في أغلب الأحوال. وبهذا لم تعد القوامة المادية ذكورية.
ب ـ إن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما: وهذه القاعدة الفقهية عمل بها الخلفاء الراشدون لما عطّلوا العمل بعدد من الآيات المحكمات لأنها لم تعد تحقق مقاصد الشريعة. فلم يعد العمل بالوصية قبل توزيع التركة تطبيقا لقوله تعالى (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (النساء:112). لقد عطّل المسلمون هذه الآيات بحديث مشكوك في صحته (لا وصية لوارث). وسبق للخليفة عمر بن الخطاب أن عطل العمل بآية المؤلفة قلوبهم فحرمهم من الصدقات، كما عطل آية قطع يد السارق عام الرمادة، وسار على نهجه المسلمون بحيث اتخذوا لهم من القوانين المدنية تشريعات بديلة عن أحكام الشريعة.
ج ـ منظومة الإرث في السنغال قائمة على قاعدة المساواة في الإرث، علما أن الشعب السنغالي مسلم في عمومه (94%) ولم يحدث فيه ما يحذر منه بيان الجماعة من “الاقتتال والحروب، ينتهي بالناس إلى المقابر والمستشفيات والسجون”، بحيث لم نشهد أو نسمع وجود الاقتتال والحروب بين مكونات المجتمع السنغالي بسبب المساواة في الإرث. ولدينا نحن المطالبين بالمساواة في الإرث هذا المثال الحي الذي هو بمثابة مختبر لمطالبنا ورد قوي على المناهضين. فما الذي سيضر المجتمع إذا اقتسم الإخوة تركة آبائهم وأمهاتهم بالتساوي بين الذكور والإناث؟ هل ينقص من نصيب باقي أفراد الشعب في تركات آبائهم؟ أي خطر تمثله قاعدة المساواة في الإرث بين الأخوة على الأمن العام؟
إن من يسكت عن المآسي التي يتسبب فيها التعصيب لا يحق له الحديث باسم الشريعة ولا الديمقراطية ولا العدل. وما تجاهلته الجماعة هو أن الواقع المغربي تجاوز منظومة الإرث كما تجاوز مدونة الأسرة الحالية وبات يتطلب اعتماد مدونة عصرية تنسجم مع الدستور ومع المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب؛ والرسالة الملكية إلى السيد رئيس الحكومة واضحة وجلية في تحديد إطار الإصلاح وأهدافه. والمغاربة لهم أمير المؤمنين الذي يحتكمون إليه في أمورهم الدينية التي حياتهم العامة.
د ـ تركيا المسلمة رفعت التجريم عن العلاقات الرضائية: من المغالطات التي بُني عليها بيان الجماعة، اعتباره القانون الجنائي جزءا من مدونة الأسرة، بحيث لم تفصل الجماعة بين مطلب رفع التجريم عن العلاقات الرضائية وبين المساواة في الإرث. ليكن في علم الجماعة وقيادتها أن تركيا رفعت التجريم عن العلاقات الرضائية من زمان وظلت تحافظ على استقرارها وتماسك مجتمعها ولم يحدث فيها ما تهوّل منه الجماعة. فما الذي يميز المجتمع المغربي عن المجتمع التركي؟ ونفس الإجراء اتخذته دولة الإمارات العربية المتحدة التي عدّلت قوانينها وباتت تسمح “بالمساكنة”؛ وها هي الإمارة تنعم بالاستقرار وبالتماسك الاجتماعي.
إن المطلوب من الجماعة هو أن تقوّم سلوك أعضائها أولا وتحصنهم من الانحرافات الأخلاقية التي باتت على كل لسان بين القيادات كما القواعد. ثانيا: أن تراجع موقفها التكفيري من الديمقراطية وقيمها ومبادئها. ثالثا: أن تمارس الشفافية والديمقراطية داخلها فتفصح عن مصادر تمويلها وحجم مواردها الذي يجهله غالبية أعضائها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=20607