جذور التكفير في التاريخ الإسلامي.. من الخوارج إلى الحركات الإسلامية المعاصرة

10 ديسمبر 2025

الشيخ الصادق العثماني – أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
لم يكن الإسلام في أي مرحلة من مراحله دينًا يُغذّي التكفير أو يبرّر التشدد والغلو في الحكم على الناس، بل جاء بمنظومة واضحة تحارب هذا الانحراف منذ البداية.

وقد وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة تنهي وتُدين التنطع والتشدد في الدين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون»، وهو تحذير صريح من الانزلاق إلى الغلو الذي يقود إلى التكفير.

كما أن القرآن الكريم أكّد في آيات كثيرة خطورة الاعتداء على إيمان الناس أو مصادرة علاقتهم بربهم، وجعل ذلك بابًا للفتنة والصراع، يقول تعالى: “وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا” (سورة النساء، الآية 94).

والآية واضحة جدا في نهيها الصريح عن التسرّع في تكفير الناس والحكم على سرائرهم، والأخذ بظاهر الإسلام من قولٍ أو فعل، كما قرره جمهور المفسرين، منهم الطبري وابن كثير، وفيها أصل عظيم في صيانة الدماء، وردّ مناهج الغلو والتكفير.

وهذه الروح النبوية الرحيمة والآيات القرآنية الكريمة تكشف أن التكفير ليس امتدادًا للإسلام، بل انحرافًا عنه؛ وأن جماعات التكفير عبر التاريخ لم تستطع أن تقيم دولة مستقرة أو مجتمعًا آمنًا، لأن منهجها قائم على الإقصاء والصدام، لا على التعايش والتعاون الذي أمرنا به الله تعالى، علما أن التكفير يصادم الفطرة البشرية التي تنزع بطبيعتها إلى السلم، ويتناقض مع روح الدين الإسلامي الذي يقوم على الود والرحمة والإصلاح، لا على تمزيق المجتمع بالحكم على الناس بالكفر وإخراجهم من دائرة الإيمان.

ويعد التكفير أحد أكثر الإشكالات الفكرية التي رافقت التاريخ الإسلامي منذ مراحله الأولى، وظلّ عبر القرون يتخذ أشكالًا متعددة تتغيّر بتغيّر السياقات السياسية والاجتماعية، لكنه يحتفظ دائمًا بذات الجوهر: المصادرة والتعدي على حقّ الله في الحكم على إيمان الناس، وتحويل الخلاف السياسي أو الفقهي إلى معركة وجودية بين “مؤمن” و“كافر”.

ولعلّ أول ظهور صريح لهذا المنحى كان مع الخوارج في القرن الأول الهجري، حين ربطوا بين الاجتهاد السياسي والإيمان، وحوّلوا الخلاف حول التحكيم في صفّين إلى معيار إيماني يفصلون به بين الناس، ليُنشئوا بذلك أول مدرسة للتكفير في الإسلام.

لقد رأى الخوارج أن من خالف اجتهادهم فقد خرج من الدين، وأن السيف أداة مشروعة لتطهير المجتمع من “المرتدين”، في انقلاب خطير على القيم الكبرى التي جاء بها الدين، وفي مقدمتها الرحمة وحرمة الدماء وحقوق المخالف.

ومع أن التجربة الخوارجية كانت قصيرة من حيث الزمن، فإن أثرها الفكري امتدّ طويلاً، إذ تسرب منطق التكفير إلى بعض النقاشات الكلامية والفقهية عبر العصور، فوجدنا من يطلق التكفير على مسائل اجتهادية أو على معاصٍ لا تُخرج صاحبها من الإسلام، بينما كان جمهور العلماء يقف سدًّا منيعًا أمام هذا الانزلاق، مؤكدين أن التكفير حكم شرعي خطير لا يُطلق إلا بدليل قطعي، وأن “الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة”.

وقد مثّل هذا الموقف السائد درعًا صلبًا حفظ للمجتمع الإسلامي توازنه في زمن كانت فيه الدولة تتسع لتشمل ثقافات وأعراقًا متباينة.

غير أن التكفير -للأسف- عاد بقوة في العصر الحديث مع نشوء بعض الحركات الإسلامية التي أعادت إنتاج خطاب الخوارج ولكن بأدوات معاصرة. ففي سياقات سياسية مضطربة، وصراعات دولية، وجد خطاب التكفير أرضًا خصبة ينمو فيها، مدفوعًا أحيانًا بالإحباط من الواقع، وأحيانًا برغبة في التغيير السريع، وأحيانًا باستغلال الدين لخدمة مشاريع سياسية عنيفة.

وهكذا ظهرت مجموعات تجعل من التكفير مفتاحًا لفهم العالم، فتكفّر الحكومات والمجتمعات والعلماء والمؤسسات، وتعيد تعريف الإسلام وفق رؤيتها الضيقة، شأنها في ذلك شأن الخوارج، غير أنها أشدّ خطرًا لأنها تمتلك أدوات تفجير وتواصل وشبكات يمكنها أن تُدخل العالم كله في دائرة العنف.

وما يزيد خطورة الظاهرة في سياقنا الراهن هو توظيف بعض هذه الجماعات للنصوص الدينية خارج سياقها، واقتطاعها من خطابها المقاصدي والأخلاقي العام، فتنزع عن الإسلام سمة الرحمة التي تكرر ورودها في القرآن والسنة، وتحلّ محلها ثقافة الإقصاء.

وقد واجه بعض العلماء المعاصرين هذا المسار بحزم، مؤكدين أن التكفير مُلك لله، وأن الإسلام يفترض في المسلم الإسلام ولا يرفعه عنه إلا بيّنة قاطعة، وأن مفهوم الإيمان أشمل وأعمق من مجرد مواقف سياسية أو اختيارات اجتهادية.

إن تتبع جذور التكفير من الخوارج إلى الحركات المتطرفة اليوم يكشف أن الفكر حين ينعزل عن المقاصد الكبرى للشريعة يتحول إلى أداة هدم، وأن الخلاف حين يُرفع من مستوى الاجتهاد إلى مستوى العقيدة ينتهي إلى العنف.

كما يكشف أن مقاومة التكفير ليست مجرد معركة فقهية، بل هي معركة وعي؛ معركة تتطلب تجديد الخطاب الديني، وترسيخ ثقافة الرحمة والاحترام، وبناء مناعة فكرية لدى الأجيال الجديدة ضد منطق الاحتكار في فهم الدين.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...