الدكتور مصطفى بوهندي
مما لا شك فيه أن بلادنا تعيش هذه الأيام حدثا وطنيا عظيما، فقد كانت حافلة بالمنجزات وبثمار الجهود المغربية للملك والحكومة والشعب، كان آخرها توالي سحب الاعترافات من الكيان الوهمي للبوليساريو، وتأمين الطريق الدولي بين المغرب وموريتانيا، والاعتراف بمغربية الصحراء من جل دول المعمور، وإنشاء القنصليات في العيون والداخلة، وجلب الاستثمارات الدولية الضخمة بملايير الدولارات، وجعل الصحراء المغربية منصة انطلاق لمشاريع التنمية الإفريقية بالنسبة لجل دول العالم.
وفي إطار هذا الجهد جاء الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وفتح قنصليتها بالداخلة وبثها لملايير الدولارات في استثمارات مباشرة في المنطقة، أدخلت المغرب إلى نادي الكبار في كثير من الصناعات وعلى رأسها صناعة الأسلحة. إضافة إلى توثيق كل ذلك في سجلات الأمم المتحدة، وتعديل الخارطة المغربية على الغوغل وغيره من محركات الخرائط وما يرتبط بها.
كانت هذه الأعمال بحق “ضربة معلم”، في وقت وجيز، بعد أن ركدت تسوية هذه المسألة في رفوف “أصدقائنا المستعمرين” عشرات السنين دون أن تجد حلا حقيقيا، واستنزفت قوانا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، وعرقلت مسيرتنا التنموية لأكثر من أربعة عقود. ولقد كان المغرب طيلة هذه العقود ملكا وحكومة وشعبا، يجدّ ويجاهد ويشقى من أجل تحرير وتأمين وتنمية وتأهيل هذه الصحراء؛ انطلاقا من المسيرة الحسنية الخضراء التي بدأت التحرير، وانتهاء بالمسيرة التنموية الشاملة التي يقودها جلالة الملك محمد السادس نصره الله، في إطار الحكم الذاتي.
أعتقد أن حديث العالم هذه الأيام عن إنجازات المغرب نجده في كل وسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات الأخرى. لكن مقابل هذا الفرح العارم بالإنجازات، يكاد أعداء وحدتنا يفقدون عقولهم، وشلت أيديهم وأفواههم، فلم يقدروا على استيعاب ما تحقق، بله مواجهته. لكن شلة من مواطنينا، الذين تثقفوا ثقافة إخوانية بائدة، استقبلوا هذا النصر المبين بعقلية التخوين، وفكر الإخوان المستورد من زمن المشرق العربي عند بداية الاستقلال؛ والذي طبعه الصراع العربي الإسرائيلي، والصراع الإخواني مع السلطات في العديد من بلدان المشرق العربي، بما فيها مصر وسوريا وفلسطين وغيرها. وكانت هذه الثقافة التي ازدهرت في ستينات القرن الماضي في المنطقة، قد نُقلت إلى بلادنا المغاربية، وأنشأت لنا جيلا من المغاربة بعقل وثقافة مشرقية، أجسادها في بلادنا وأرواحها في المشرق العربي المنتمي لستينات القرن الماضي وسبعينياته.
وكبر هؤلاء، ونحن منهم، ووصلوا إلى مسؤوليات مختلفة في بلادهم، منها الوزارات والمؤسسات الوطنية المختلفة والجامعات وكل مراكز القرار. ورغم أن بعضهم قد نضج ورجع إلى فكر بلاده ومنطقته، وعالج أمور وطنه بما يتناسب مع الحاجات والمتغيرات المختلفة، مساهمين في تنمية بلدانهم بحق. إلا أن العديد منهم بقي بنفس عقلية الإخوان وثقافة التخوين. وهؤلاء هم الذين أريد أن أتحدث عنهم في هذه التدوينة، وأقدم بهم نموذجا سيئا لجالدي ذواتهم وكارهي الفرح، وباخسي إنجازات بلدانهم، وفي حالتنا هذه الأيام “منكري نصر المغرب المبين على أعدائه في تحرير وإنماء صحرائه”، ومتهمي المخالفين لنهجهم بالعمالة والخيانة والصهينة.
لا أريد أن أدخل في صراع شخصي بيني وبين من أخذتهم نموذجا لشريحة عريضة من الأساتذة الجامعيين، وغيرهم من المسؤولين في قطاعاتهم في بلادنا. وإنما أردت أن أنبه إلى إعاقة هذا الفكر للتنمية في بلادنا وجامعاتنا، والذي زيادة على عدم قبوله للرأي المخالف ومحاصرته له بالاتهام والتخوين؛ فإنه سمح لنفسه بمنع المخالفين له من الفرح بإنجازات أوطانهم، مقابل احتفائه الكبير بإنجازات وأفراح طائفته في مختلف الأوطان الأخرى بمن فيهم أعداء وطنه.
سأحكي لكم قصتي على سبيل التمثيل: ساءني كثيرا أنني نشرت تدوينة تعبر عن الفرح بنصر المغرب في قضية صحرائه التي سبق أن فصلت فيها القول، فقوبلت برد فاتر، واتهامات مبخسة ومخونة ومشيطنة للحدث، ولم أجد فرقا بين ما يقوله هؤلاء وما يقوله أعداء الوحدة الترابية عن نفس الحدث. ونشرت تدوينة أخرى شرحت فيها معنى التطبيع، وعبرت فيها عن هذه المفارقة، وعمن سميتهم جالدي ذواتهم وكارهي الفرح، وكنت غاضبا جدا من ابناء جلدتنا، الذين إذا أصابتنا حسنة تسؤهم، وإن يصبنا سيئة يفرحوا بها، وهو وصف الأعداء في القرآن الكريم. وشاركت هاتين التدوينتين مع الأساتذة والطلبة، لعلهم يبدون رأيهم في الموضوع ويناقشونه. لكنني فوجئت بمن يتهم مقالي بالصهيونية. وأجبت على نفس الموقع باستنكار الإشارة المبطنة بالصهيونية لمقالي المرتبط بحدث النصر العظيم الذي أنجزته بلادنا عندما اعترفت الولايات المتحدة بصحرائنا؛ وبينت فيه معنى التطبيع الذي يردده الكثيرون لتبخيس المغرب في إنجازه ونصره التاريخي. وقلت: إني أعتبر تدريس وتصحيح هذا المفهوم من صميم مسؤوليتي في الجامعة. ومن لم يعجبه أن يكون مغربيا وأن يفرح بالإنجازات المغربية وأراد أن يكون ضدها، فلا يفرض علينا رأيه ووجهة نظره، ويتهمنا بالعمالة والصهيونية. راجيا أن يرقى التعامل إلى مستوى احترام الزملاء ووجهات نظرهم، وطريقة اشتغالهم في تدريس طلبتهم. ومن كان له اعتراض على رأي ورد في مقالنا فما عليه إلا أن يرد بالأدب المطلوب، إذ ما كانت الجامعة ووسائل التواصل الاجتماعي إلا لذلك.”
ورغم أني طويت الصفحة، ولم أرغب في أي مخاصمة شخصية مع أي كان. لكنني فتحتها هنا، ليس لمحاسبة شخص بعينه؛ ولكن لمحاسبة جيل من أطر بلادنا تربوا في ثقافة أقل ما أقول عنها، إنها متجاوزة، واسمحوا لي أن أقدم مثالا قرآنيا لما يقوم به أصحاب هذه الثقافة البالية مع ملوكهم وحكوماتهم التي تسعى جاهدة إلى قيادتهم نحو النصر والتقدم. وطبعا لا يفهم من كلامي هذا أنني أدافع عن السلطات في كل البلاد العربية أو حتى المغربية وعن تجاوزاتها المختلفة، التي ينبغي إدانتها بالحق والعدل. وإنما أتحدث عن حالة القيادة الملكية وحكومتها الحالية في ملف الصحراء والنصر الذي أحرزته، وموقف كارهي الفرح من هذا النصر المبين.
مثال ذلك في القرآن الكريم، هو “عجلة موسى ليلقى ربه في الميقات. وقد ترك قومه في انتظاره”. وكانت هذه العجلة من أجل أن يرضيه ويتبل إليه، ويأتيهم بالكتاب والرضى والمباركة الإلهية؛ لكن ما أن غادرهم حتى صنعوا لأنفسهم عجلا وعبدوه من دون الله. قال تعالى: “وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ۚ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) سورة طه.
كانت جهود الملك وحكومته وكثير من المخلصين والمجاهدين معها، مع القواعد من المرجفين والمثبطين، تشبه تماما ما فعل قوم موسى مع نبيهم عند الميقات. لقد أثمرت هذه الجهود خلال هذه السنوات نصرا مبينا، قابلها تنكر عجيب واتهام كبير بالخيانة والصهينة وغير ذلك. بناء على مصطلح “التطبيع”، الذي لا علاقة له بتاريخنا ولا وطننا ولا حالتنا الخاصة. إذ أن اليهود في المغرب هم جيران المسلمين الطبيعيين، وعلاقتهم بهم تختلف اختلافا جذريا عن علاقة اليهود بالمسلمين في المشرق ومواطن الصراع. ولذلك فنقل مصطلح التطبيع إلينا لا معنى له، والاتهام بفتح العلاقات، المفتوحة طبيعيا مع اليهود، لا أساس له. وعندما فتح المغرب مكتب اتصال في إسرائيل، كانت مهامه الكبرى هي الشؤون الفلسطينية المحلية المختلفة، والحديث مع السلطات الإسرائيلية باسم الفلسطينيين. والذين يقرأون تاريخ الصراع، يفهمون ذلك جيدا. ولم يكن في كل العلاقات المفتوحة مع الإسرائيليين أي تضييع للحقوق الفلسطينية، بله بيعها والمتاجرة بها، كما يردده جالدو ذواتهم وكارهو الفرح.
إننا في حاجة ماسة إلى ثقافة جديدة في الجامعة المغربية، تصحح فيها المفاهيم حسب الخصوصيات التاريخية والجغرافية والاجتماعية للمغرب، وحسب ثقافتنا ومفاهيمنا المغربية الخاصة الناشئة في وطننا منذ أقدم العصور.
وهنا أتوجه إلى الوزارات المعنية، وإلى شعبة الدراسات الإسلامية وكل المؤسسات المكلفة بالشؤون الدينية، من أجل إعادة النظر في كثير من المفاهيم الدينية المعرقلة لحركتنا التقدمية، والواردة إلينا من جغرافية وأزمنة أخرى، ونقدها وتجديدها لتصبح قادرة على مواكبة التطورات، والشعور بالفرح بالإنجازات، وشكر من قام عليها، وعلى رأسهم جلالة الملك محمد السادس نصره الله، وحكومته الموقرة، وأخص بالذكر وزير خارجيته ناصر بوريطة حفظه الله؛ حتى نتخلص من ثقافة التخوين وجلد الذات وكراهية الفرح.
Source : https://dinpresse.net/?p=12632