هذا التوجيه كتبه الدكتور عبد المغيث بصير رئيس المجلس العلمي المحلي لبرشيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإنه يتصل بي العديد من المواطنين ويطلبون الإذن باستعمال صوتيات المساجد لرفع الصوت بالدعاء أو قراءة القرآن، على غرار هذه الظاهرة الجديدة التي أصبحنا نرى عليها بعض المواطنين والمواطنات في بعض المدن، الذين يرفعون الأصوات بقراءة القرآن والدعاء من فوق سطوح المنازل، أو الخروج للتظاهر من أجل الدعاء، وهي مناسبة تستدعي البيان والتوضيح لوجه الصواب.
لذلك أقول: إن التنافس في الخيرات أمر مرغوب، والتعاون على البر والتقوى أمر مطلوب، ولكن كل ذلك ينبغي أن يكون على الوجه المشروع، لأنه من المؤسف حقا أن نرى بعض المواطنين والمواطنات في أيامنا هذه يبادرون إلى اتخاذ مبادرات شخصية بالصعود إلى السطوح وإطلاق أصوات الدعاء والتضرع والقرآن والاستغفار، أو يتجمهرون ويخرجون إلى الشارع، معرضين أنفسهم وغيرهم للخطر، بدعوى الدعاء والالتجاء إلى الله في هذه الظرفية الاستثنائية التي تعيشها الأمة المغربية، بسبب انتشار وباء كورونا الذي اجتاح بلدان العالم.
وقد نسى هؤلاء أو تناسوا أو جهلوا المقاصد الكبرى لديننا الإسلامي الحنيف، التي تأمر المسلم بأن لا يعرض نفسه إلى التهلكة مهما كانت الأحوال، خاصة وأن مختلف السلطات الوصية، ومنذ بدء إرهاصات هذا المرض ببلدنا وجهت وتوجه إلى ضرورة التحلي بروح المسؤولية، والالتزام بمختلف التدابير والاحتياطات الاحترازية للحدّ من انتشار الوباء، بالالتزام بقواعد السلامة الصحية والنظافة، بما في ذلك التزام حالة الطوارئ الصحية المعلنة في البلاد بعدم الخروج من البيوت إلا للضرورة، وباحترام تام للقانون الجاري به العمل في هذا الموضوع، علاوة على تجنب التجمعات والأماكن المزدحمة، وتفادي كل مسببات انتشار الفيروس، حفاظا على سلامة الجميع من الوباء، ومراجعة الطبيب عند الحاجة، إلى غير ذلك مما ينبغي أن يكون ظاهرا في سلوكيات كل مواطن دون تهوين، وبعيدا عن أي تهويل أو ترويع.
وإذا كانت الظرفية الحالية تحتم علينا الرجوع إلى الله بصدق، والالتجاء إليه بصدق أن يرفع عنا وعن الإنسانية جمعاء هذا الوباء، فإن ذلك لا يعني بحال من الأحوال، رفع الدعاء وقراءة القرآن باستعمال صوتيات المساجد، أو الصعود للسطوح وإطلاق الأبواق،أو الاجتماع للدعاء أو التظاهر من أجل الدعاء.
لقد أطرت تعاليم ديننا ذلك، قال تعالى:”وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ”، وقال أيضا:”ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”، وروى الإمام البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم”، وأنا خلف دابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعني وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال لي:”يا عبد الله بن قيس”، قلت: لبيك يا رسول الله، قال:”ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة”، قلت: بلى يا رسول الله، فداك أبي وأمي، قال:”لا حول ولا قوة إلا بالله”. وكلمة: )اربعوا( في الحديث تعني: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه، وأنتم تدعون الله تعالى، ليس هو بأصم ولا غائب، بل هو سميع قريب.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح من سيرته العطرة يقوم من النوم في الثلث الأخير من الليل، فيتوجه إلى ربه متعبدا ومتبتلا لربه يركع ويسجد ويبكي ويتضرع دون أن يشعر به أحد، وهكذا ينبغي أن يكون حالنا. فأقرب العبادات إلى القبول ما كان خفيا، والذي ننصح به هو أن يكون الدعاء والتضرع والذكر بصفة عامة في البيوت، فلا يخفى بأن أكثر الناس لا يؤمَن عليهم الرياء، نظرا لضعف النفوس وخفاء داء الرياء ومسالكه.
والذي ينبغي أن يعرفه غالبيتنا حول باب الدعاء، بأنه باب عظيم فريد من نوعه في طرق باب الله والالتجاء إليه ومناجاته والتذلل بين أعتابه، وهو سلاح المؤمن في حالتي الرخاء والضجر، والله سبحانه وتعالى يحب العبد الملح في الدعاء، أي يحب الملازم لسؤاله في جميع الحالات، اللائذ بباب كرمه في فاقته ومهماته، لا تقطعه المحن عن الرجوع إلى ربه، ولا النعم عن الإقبال عليه. قال تعالى: “ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم”. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه:”الدعاء مخ العبادة”، وفي رواية النعمان بن بشير رضي الله عنه:”الدعاء هو العبادة”.
والذي ينبغي أن نعيه أيضا بهذا الخصوص أن هناك فرقا بين الدعاء والطلب، فالطلب لا يعدو أن يكون وصفا للفظ ينطق به الطالب، أما الدعاء فهو حالة نفسية تعتري الطالب فيسمى طلبه عند ذلك دعاء، والحالة النفسية هذه لابد أن يتحقق فيها أمران لكي توصف بأنها دعاء، أول هذه الأمور: يقظة القلب والمشاعر واتجاه كل منهما بانكسار وتذلل إلى الرب عز وجل، الشيء الذي لا يتحقق في التظاهر الجماعي أو الصعود إلى السطوح، والثاني: أن يبدأ الداعي فيتوب إلى الله من المعاصي التي ارتكبها ويجعل من توبته الصادقة شفيعا بين يدي دعائه. ثم يدعو ملتزما الآداب المشروعة والشروط المفروضة، وهذا أيضا لا يتحقق في التظاهر الجماعي، فإذا كنت متأكدا من توبتك لله، فكيف لك أن تتأكد من توبة الغير؟، فأين نحن في هذا المقام من مصداق قوله تعالى:”وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان، فليستجيبوا لي وليومنوا بي لعلهم يرشدون”.
ختاما نهيب بالجميع التزام حالة الطوارئ الصحية المعلنة، والاستمرار في التضرع والدعاء في كل الأوقات، وبخاصة في الأوقات مظنة الإجابة، لكن في البيوت، وتخصيص قائد الأمة مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره بالدعاء، الذي تعامل مع كارثة الوباء بكل جدية وحزم وذكاء من أجل أن يجنبنا الأسوء، علاوة على الدعاء للوطن وللإنسانية جمعاء، أن يرفع الله عنا الوباء والبلاء الخارج من الأرض والنازل من السماء.
كما نهيب بالجميع ونحن نمر بهذه الأزمة، التحقق بقيم التضامن والتآزر والتعاضد الاجتماعي على كل ما فيه خير للمواطنين والمواطنات، والإبانة عن الحس الوطني الذي عرفنا به دائما وأبدا، والحمد لله رب العالمين.
عن موقع المجلس العلمي المحلي لبرشيد
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7509