26 أبريل 2025 / 11:35

تمايز التجربة الصوفية وخصوصية مصطلحاتها: النفري نموذجا

نجيب مجذوب

كلما اتسعت الرؤيةُ ضاقَـت العبارة.
محمد بن عبد الجبار بن الحسن النِفَّري.
الصورة من تصميم الكاتب 

بسبب تمايز التجربة الصوفية وخصوصية مصطلحاتها وغموض عباراتها فمن الوهم أن يظن القارئ العادي أن باستطاعته أن يقرأ مصنفات أهل التصوف قراءة شخصية، كما لو كان يقرأ رواية أو أي نص أدبي آخر، بدون الاستعانة بشروحات مستفيضة ووسائط مطلعة. وتزداد الحاجة أكثر لهذه الشروحات والوسائط إذا تعلق الأمر بنص مؤسِّسٍ مثل كتاب «المواقف والمخاطبات» لمحمد بن عبد الجبار بن الحسن النِفَّري (بكسر أوله وتشديد ثانيه نسبة إلى نِفَّر Nippur، أقدم بلدة سومرية في التاريخ تقع بين الكوفة والبصرة). فقراءة مواقف ومخاطبات النفري ليست مثل قراءة «قواعد العشق الأربعون» للروائية المرموقة إليف شافاق.
ماذا يقصد النفري بعبارته المشهورة «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»؟
ليس المقصود منها كلما ازدادت معارف الإنسان وتوسع اطلاعه عجزت اللغة عن تبليغ ما يراه، وما أحاط به علما. فمصطلح الرؤية هنا ليس معناه النظر بالعين المجردة (الجارحة)، بل معناه أن يرى العبد الله في كل شيء من خلال بصيرته، وليس بواسطة بصره. فالرؤية هنا ضد الغيبة التي تعني ألا يرى العبد الله في شيء. إن الرؤية مقام المتصوفة الكبار والخواص العارفين، وباب الرؤية لديهم هو الوقفة. إنها باب الحضرة وما يصل بين المتصوف والأشياء، ومن خلالها تكتمل هوية الذات والموضوع.
والعين ليست أداة الرؤية، بل هي الحجاب الذي يمنعها من أن ترى ويمنع الرؤية من أن تتحقق. وإنما أداتها هو القلب ومعدنها هو الفؤاد: «ما كذب الفؤاد ما رأى» سورة النجم، آية 11. والنفري يتحدث عن «عين القلب»، ويسند إليه النظر. فالرؤية إذن تحرير للعين المجردة من قيودها ووقوف على حدود اللغة نفسها.
والرؤية لا تحصل بواسطة اللغة والعبارة والمجاز. يقول النفري: «قال لي: لا تقف في رؤيتي حتى تخرج عن الحرف والمحروف».
إن الرؤية تجربة صوفية روحانية قوامها المجاهدة. والعبارة بسبب ميلها قاصرة عن تبليغ كنه التجربة وما فيها من مطلق. يقول النفري: «العبارة ميل، فإذا شهدت ما لا يتغير لم تمل». فالرؤية تنزع الغشاوة وتكشف حدود اللغة ومحدودية العبارة. فلا كلام ولا نطق ولا عبارة في الرؤية. لهذا يستعاض عن العبارة بالإشارة كلما اتسعت الرؤية (وليس الرؤيا التي هي نوع من أنواع الكرامات التي تتجلى أثناء النوم وفي الأحلام على شكل مشاهدات غير عيانية).

رابط صفحة الكاتب على فيسبوك:

https://www.facebook.com/share/1CXDNUsExC/