10 أغسطس 2025 / 11:15

تقليدانية في الفكر وحداثوية في السياسة

محمد زاوي
يمكن للمرء الجمع بين حداثةٍ في التفكير وتقليدٍ في السياسة، وذلك عندما يصبح التقليد في السياسة تقليدا في الظاهر وحادثة في الباطن، أي عندما يتقدم التاريخ إلى الأمام بأساليب قديمة تكتسب حداثتها من أدوارها التاريخية الراهنة.. كما يمكنه الجمع بين تقليدانية في الفكر وحداثوية في السياسة، عندما “يكون لسانه أطول من وعيه”، أي عندما يستدعي “الحداثة السياسية” لخدمة أجندة سياسية قد تكون غارقة في الرجعية، لا لتبني الحداثة كاختيار في “النظرية والممارسة العملية”.

هذه الأخيرة هي حالة الرجعيات الدينية وغير الدينية على حد سواء، تمارس نقدا حداثويا ضد السلطة، لكنها في وعيها وممارستها لا تعرف سبيلا للحداثة في شرطها الخاص، ولا معنى لها في الشروط العامة لتبلورها ونشأتها وتطورها.

الحديث هنا عن مفارقتين:

المفارقة الأولى: دعوة إلى التحديث السياسي والإداري والاجتماعي من جهة، ومطالبة بالحفاظ على تقليدانية النظر والتشريع من جهة ثانية. والحقيقة التاريخية التي لا غبار عليها هي أن كل تحديث في الواقع المادي يطلب تحديثا آخر في النظر، فلا مناص إذن من استباق التحديث العملي بتحديث آخر نظري، وإلا فإن العمل الحديث كفيل بجعل النظر حديثا وإن على مراحل وفترات.

قد يقول قائل: فلنبدأ بالتحديث العملي، وفيه تدخل المطالب السياسية الحداثوية لبعض “الأصوليين”. والجواب على هذا الدفع: أن التحديث ليس غاية الأصولي البتة، أما إذا كان غايته فلا سبيل إليه إلا بوعي وممارسة حداثيين، أول شروطهما: الوعي بالشرط التاريخي ومتطلباته.

المفارقة الثانية: دعوة إلى التحديث في العمل بما فيه العمل القيمي والعقدي والتشريعي، وقصور في الحداثة النظرية بما هي أساس لمعرفة المطلوب من غيره في شرط تاريخي بعينه.

إن “الإيديولوجيا الحداثوية” باستباقها لزمنها تكون قد أخلت بشرط أساسي وجوهري من شروط دعوتها، وهو أمتلاك أداة نظرية ناجعة للوعي بواقعها، وبالتالي انسجام دعوتها مع هذا الوعي.

صحيح أن الحداثة بدأت دعوة قبل أن تستحيل نظرية الوعي والممارسة، لكنها في خضم تحولاتها ومدارس النقد الموجه إليها تمكنت تطوير مناهج فهم الواقع وتفسيره والوعي بحركته الجدلية. والسؤال هنا: عن أي حداثة يتحدث، وإلى أي حداثة ينتسب، من يكتفي بالدعوة الأولى الحداثة قبل أن “يكتمل” بناؤها النظري؟!

تعبر هذه المفارقة (الثانية) عن تقليدانية في الظاهر، وذلك لأنها تكتفي بحادثة ما قبل نظرية وترى كل حداثة في دعوتها، فيستحيل خطابها تيشيرا لا يقل إيهاما عن تبشير أصحاب المفارقة (الأولى).

ورغم أن الحداثوي أقرب إلى “روح المستقبل” وإلى استيعاب “منطق العصر”، إلا أنه في ممارسته الحالية بعيد عنهما، يعرف الحداثة بنموذحها التبشيري، لا بعدتها المنهجية والنظرية الصارمة.

أما مفارقة الأصوليين، المفارقة (الأولى)، فهي خلو من أي قيمة مستقبلية، عدا من جهتين: تكتيكية، وإنسانية؛ وكلاهما غير واعيين في تفكيرها وممارستها.

أما التكتيكية، فلكون “التقليدانية الفكرية” قد تستحيل وسيلة من وسائل العبور إلى المستقبل، بحفظ وجود أو تدبير توازن سياسي إيديولوجي. وأما الإنسانية، فلأن كافة الدعوات الدينية، بما فيها الإيديولوجية منها، لا تخلو من تربية على القيم الإنسانية من عدل ومساواة وصدق وأمانة وتعاون الخ.

قد لن تحقق هذه التربية غايتها في واقع التفاوت، لكنها تفعل فعلها في اللاشعور الجمعي بطريقتين: بالبناء على تراكم قيمي ذي أساس اجتماعي وتاريخي-فقهي، ثم باستمرار الاستثمار الإيديولوجي في هذا التراكم. لا علاقة للأصولية بالمستقبل إلا من هاتين الجهتين، فما علاقتها بالمطلب السياسي الحداثي إذن؟!

إنه جزء من أجندتها السياسية تربط به حسابات الدول تحت قناع دعوة لا علاقة لها بها ولا تقبل بجوهرها بمنطقها، أي الدعوة إلى التحديث. إنها تسمح لنفسها فقط، نزولا عند إملاءات أجندتها ودفتر تحملاتها، باختيار ما ينبغي أن يشمله التحديث وما لا ينبغي أن يشمله. وخلسة، وبعيدا عن مرأى الرأي العام، تنتقل من رفض للحداثة إلى اقتحام لبعض قلاعها من وراء حجاب الغرض الإيديولوجي.

ما الذي يجعل تقليد الدول أولى بالحماية؟ بلغة أخرى: ما الذي يجعل هذا التقليد طريقا للتجديد/ التحديث؟ ما الذي يجعل كل خطاب حداثوي بمرجعية دينية تهديدا لهذا المتجر في ممارسة الدولة بغض النظر عن الموقف من وتيرته؟

سببان يجعلاننا ندافع عن “تقليد الدولة”: وضعها لهذا التقليد في مشروع حداثة تمتلك زمام أمره، فقدان نقيض الدولة الأصولي لأي مشروع في الحداثة كما في التقليد.

من سيعتبر هذا الكلام تحاملا أو مبالغة، فليطرح سؤالين: ما حظ هذا النقيض من تقليد راسخ في الواقع؟ وما حظه من حداثة قائمة؟ بكيفية أخرى: ما قدر مساهمته في الورشين معا؟

مساهمته الوحيدة أنه يربكهما معا، وعندما يقترب سرعان ما يبتعد بطرق عديدة، وتحت قناع الاقتراب “تقليد وحداثة” الدولة. لم يتأسس هذا النقيض للبناء، وإنما للإرباك، وذلك مبلغه في الممارسة الواقعية. أما مردوده في التكتيك والحضارة فلا يعيه، فيحسب لمن أحسن التوظيف!