نظمت أخيرا الوحدة العلمية للإحياء ملتقاها السادس عشر حول موضوع: “ملاحظات حول النقد العربي للفكر الإستشراقي” انطلاقا من كتاب: “قصور الإستشراق” للدكتور وائل حلاق، بمشاركة الدكتور محمد الناصري محاضرا. ومناقشة وتعقيب السادة الأساتذة: د. محمد إقبال عروي، ود. عبد السلام طويل. وذلك بمقر الرابطة الرئيسي بالرباط.
وقد أطَّر الأستاذ عبد السلام طويل رئيس الوحدة العلمية للإحياء هذا الملتقى، بعد توجيه الشكر للسادة المشاركين والحضور الكريم، بوضع الظاهرة الإستشراقية في سياق المحددات الحاكمة لها؛ بداية من المحدّد التاريخي والحضاري، والمحدّد السياسي والاقتصادي، والمحدّد الإيديولوجي والمعرفي؛ مبرزا كيف أن الخطاب الإستشراقي الحديث لا يكاد ينفك عن سياق التطور الذي عرفه النموذج الحضاري الغربي من خلال التطورات التي شهدها النظام الرأسمالي وما ارتبط به من ثورات صناعية وتكنولوجية وعلمية وسياسية وثقافية (الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق).
وكيف أن أزمة تطور النموذج الرأسمالي القائم على قيم الربحية والمنافسة والمبادرة والملكية الفرديتين، وما ترتب عنها من تراكم ضخم في الإنتاج استدعى البحث عن أسواق لتصريفه، مثلما استلزم تأمين مصادر للمواد الخام والطاقة لتغذيته وتلبية نهمه المتأصل. الأمر الذي يفسر الشرط الموضوعي للظاهرة الاستعمارية في أشكالها الكلاسيكية المباشرة.
وبالتالي فإن أية مقاربة موضوعية للظاهرة الإستشراقية لا يمكن أن تتحقق دون الوعي المسبق بالبنية المركبة لها، ودون التمييز بين المحددات الحاكمة لها؛ بحيث أن البعد السياسي والإيديولوجي لا يلغي أهمية البعد المعرفي على سبيل المثال.
كما أوضح أنه مثلما أن الخطاب الإستشراقي ليس على شاكلة واحدة، ولا على مسافة واحدة من شرط العلمية والموضوعية، متسائلا عن سر تميز الخطاب الإستشراقي الألماني وعدم تبعيته وخضوعه المباشر وغير المشروط للإستراتيجيات والرهانات السياسية القومية؟ فإن الخطاب العربي الإسلامي الذي أنتج في الرد عليه والتفاعل معه لم يكن بدوره على نفس الدرجة من الموضوعية، مثلما لم يكن منسجما ولا واحدا. فقد تباين من مجرد رد فعل سجالي، كآلية دفاعية للمغلوب في مواجهة الغالب الغازي، ينظر للإستشراق كرديف للاستعمار أو أداة مباشرة له، إلى مقاربات أكثر التزاما بالنظر العلمي الموضوعي الواعي بمدى تعقد وتعدد أبعاد هذه الظاهرة..
وأهم تجاليات هذا التفاعل ما حاول المفكر حسن حنفي التأسيس له من خلال سعيه لبناء علم مقابل اصطلح عليه “علم الاستغراب”؛ بحيث إذا كان الإستشراق علما موضوعه الشرق والعالم الإسلامي في قلبه، والذات الدارسة هي الغرب، فقد آن الأوان من وجهة نظره لإخضاع الغرب للدراسة والتحليل ليغدوا الدارس مدروسا والمدروس دارسا.
والحاصل أن الإشكال لن ينحل، والتوازن لن يتحقق بمجرد هذا القلب الذهني للأطراف، وبهذا الجهد الفردي النخبوي الهام الذي عّبر عنه كتاب “مقدمة في علم الاستغراب لحسن حنفي”؛ لأن تبلور علم الإستشراق، يفسر الأستاذ عبد السلام طويل، جاء نتيجة لتضافر جملة من العوامل التاريخية والحضارية الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية والعلمية.. وبالتالي فقد جاء للاستجابة لطلب تاريخي وحضاري اقتصادي وسياسي عبرت عنه تطورات المنظومة الرأسمالية.
وبالتالي فإن علم الاستغراب لن يستمد أبعاده التي راهن عليها حسن حنفي إلا بتحقيقنا لدورة حضارية كاملة بتعبير أنور عبد المالك، وبتوافر الشروط الموضوعية لتولد طلب تاريخي وحضاري اقتصادي وعلمي وسياسي لمعرفة الغرب وليس مجرد طلب فردي نخبوي رغم أهميته. خاصة وأن تطورات العالم وموازين قواه الحضارية؛ السياسية والاقتصادية باتت تستدعي توسيع مفهوم “الآخر” الذي يتعين دراسته كشرط واقف لاستيعاب تجربته والتأسيس عليها لتقدمنا وتحررنا واستقلالنا الحضاري في تفاعل إيجابي مع العالم من حولنا وليس في صراع معه.
بعد ذلك استهل الأستاذ محمد الناصري مداخلته بالتأكيد على أن الإستشراق، باعتباره حقلا معرفيا، لم تتوقف الكتابة فيه وعنه، فقد أحصى نديم البيطار ما بين 1924 و2004 حوالي ستين ألف كتاب في الإستشراق دون عد للمقالات والدراسات المستقلة.
مؤسسا على ذلك بالقول أن “الإستشراق لم يمت لمجرد نعيه من طرف أحد أبرز المستشرقين المعاصرين، جاك بيرك، كما أن الإستشراق ليس في أزمة على حد تعبير أنور عبد المالك”.
مضيفا أنه “مهما اختلفت آراؤنا في الإستشراق، فإننا لا نستطيع أن ننكر حقيقة كونه يستطيع أن يمارس تأثيرات بعيدة المدى على كل من يتصل به بسبب كونه مؤسسة ثقافية وطيدة الأركان”.
ليحدّد موضوع مداخلته بالسعي إلى محاولة “الوقوف عن عمق الإشكالية التي يعيشها الفكر العربي في نظرته وموقفه من الإستشراق. الإشكالية التي تمثلت بتضارب واختلاف مواقف المفكرين العرب من أعمال المستشرقين عموما”.
ليبرز، بعد ذلك، كيف أن نقد المستشرقين في الدراسات الإسلامية قد انطلق قبل أكثر من قرن ونصف.حينما ناقش السيد جمال الدين الأفغاني محاضرة ألقاها ارنست رينان سنة 1883 حول الإسلام والعلم. حيث أثار رينان في هذه المحاضرة: “بأن الإسلام لا يشجع الجهود العلمية بل هو عائق لها بما يشتمل عليه من اعتقاد بالغيبيات وخوارق العادات و إيمان تام بالقضاء والقدر”. وأورد أحداثا فكرية حاكم من خلال الإسلام: مقتل الحلاج ونكبة ابن رشد.
ولذلك فقد انبرى للرد على شبهات رينان التي تمحورت، بشكل أساسي، حول اتهام المسلمين بالعجز العقلي واتهام الإسلام بازدراء العلم والفلسفة، فجهد إلى دحض هذه التهم على صفحات العروة الوثقى سنة 1883.
يمكن اعتباره هذه المقالة فاتحة عهد جديد في تقويم الآراء الغربية حول الإسلام ومحاولة شجاعة وجريئة لتصحيح صورة الإسلام في الوعي الغربي، بل إن جهود الأفغاني لم تتوقف عند هذه الحدود وإنما يمكن أن ترجع إليه كشفه لوجه أوربا الاستعماري وإماطة اللثام عند كيد السياسة الانجليزية في العالم الإسلامي.
وفي هذا المجال انتهج محمد عبده منهج أستاذه جمال الدين الأفغاني، فناقش أفكار رينان وشدّد في مناقشته على ضرورة الفصل في القيم وعدم الخلط في تقييم الفكر والمبادئ بقيم حامليها والمتصلين بها. وعمد إلى بيان عقيدة القضاء والقدر التي كانت محور تشنيع رينان على الإسلام بما يبعدها تماما عن شبة الجبر وأوضح كيف أن عقيدة التوحيد تكون تحفيزا على العمل والسعي الايجابي في الحياة.
ثم ما لبث الحديث حول الإستشراق، يسترسل الأستاذ الناصري، أن اكتسى لونا جديدا بعد الحرب العالمية الثانية وصدور عدة كتب في هذا المجال، اتخذ النقاش فيها صيغا أخرى غير ما كان متداولا قبل ذلك. وقد استهل هذه المرحلة كتاب: “التبشير والاستعمار” الذي بدأ بتأليفه مصطفى خالدي وعمر فروخ سنة 1945 وصدر في عام 1953
وفي عام 1957 أصدر الدكتور محمد البهي كتاب” الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي” وقد شن فيه هو الأخر هجوما لاذعا على مؤسسة الإستشراق إلى الحد الذي رأى فيه أن العديد من التيارات التي تشكلت في الفكر الإسلامي الحديث، تستمد رؤيتها من فرضيات المستشرقين ومفهوماتهم. وشدد على أن جهود المستشرقين ترمي إلى تمكين الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، وتمهيد النفوس بين سكان هذه البلاد لقبول النفوذ الغربي.
وقد أوضح المحاضر كيف أن كتاب البهي اتسم بحماس مشبع باتهام جماعة من المفكرين بأنهم دعاة للفكر الغربي، بل عملاء للاستعمار الأوربي، وهي اتهامات لم يتردد في التأكيد على أنها لا تخلو من تعسف ومجافاة للحقيقة أحيانا…
ومن الأطروحات البالغة الأهمية، التي وقف عندها الأستاذ الناصري، والتي طورت النقاش حول الإستشراق وهتكت الأستار التي ظلت تحتجب وراءها تحيزات المعرفة الإستشراقية لكل ما هو غربي، كتاب الدكتورة رنا قباني، الذي أصدرته بالانجليزية عام 1986، وترجمه بعد عامين الدكتور صباح قباني إلى العربية، ونشره بدمشق، تحت عنوان” أساطير أوروبا عن الشرق: لفق تسد”.
وتتمحور دراسة قباني على تشخيص تشوهات صورة الشرق في الوعي الغربي، وبيان أساطير وغرائب وخوارق، اختلقها ولفقها الرحالة والمستشرقون، عن الشرق، وما يزال الغرب يمعن في تكريسها وتبنيها..
كيف يمكن لنا نحن العرب، في ضوء ما تقدم عن واقع العلاقة بين الإستشراق والعرب أن نتعامل مع هذا التقليد الثقافي العريق؟ وما هي الخيارات المتاحة أمامنا؟
ليخلص إلى أهمية أن نتعامل مع التراث الإستشراقي تعاملا نقديا، وأن نأخذ ونرفض على هدي البصيرة النقدية، والتفحص المتمعن أو قل أن نواجهه مواجهة إيجابية.
وهي المواجهة التي ينبغي أن تتسم بالوعي والمعرفة والحس النقدي والثقة بالنفس؟ في السعي لتأسيس علم استغراب إسلامي باعتباره الوجه الآخر النقيض للاستشراق، وجدت هذه الصيغة أسسها ومرتكزاتها المنهجية في كتاب الدكتور “حسن حنفي،مقدمة في علم الاستغراب”الصادر سنة 1991م.
ومع أن أنور عبد المالك قد استعمل مصطلح الاستغراب قبل أكثر من ثلاثة عقود في كتابه “الفكر العربي في عصر النهضة”، إلا أن الدكتور حسن حنفي أطلق كلمة الاستغراب على معنى جديد.
وقد أثارت الدعوة لتأسيس علم الاستغراب بعض المثقفين فكتبوا حولها مراجعات تقويمية كشفت عن روح التفاؤل التي قد ترقى إلى درجة الحلم في هذه الدعوة.
ليخلص إلى أن خطابات المثقفين العرب إزاء الإستشراق ليس كتلة واحدة منسجمة، وإنما هي مشكلة من عدة اتجاهات متغايرة ومتنوعة بل ومتناقضة. وهي النتيجة التي اتفق حولها العديد من الباحثين الذين تناولوا الخطاب العربي إزاء الإستشراق بالدراسة: عبد الجبار الرفاعي، في “نحن والغرب”، علي أومليل في “التراث والتجاوز”، بنسالم حميش “الإستشراق في أفق انسداده”، نديم نجدي “أثر الإستشراق في الفكر العربي المعاصر”..
عن موقع الرابطة بتصرف
Source : https://dinpresse.net/?p=6742