تقديم كتاب “الإدارة التربوية: مقدمات لمنظور إسلامي” للدكتور عارف عطاري

دينبريس
2022-04-16T09:37:53+01:00
كتاب الأسبوع
دينبريس16 أبريل 2022آخر تحديث : السبت 16 أبريل 2022 - 9:37 صباحًا
Ad Space
تقديم كتاب “الإدارة التربوية: مقدمات لمنظور إسلامي” للدكتور عارف عطاري

إعداد وتقديم: محمد جناي*
صدر عن إدارة البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر العدد 123 (28 فبراير 2008)،ضمن سلسلة كتاب الأمة، وجاء بعنوان « الإدارة التربوية : مقدمات لمنظور إسلامي»، تأليف الدكتور عارف عطاري، من مواليد الضفة الغربية ، فلسطين (1947م)، يحمل درجة دكتوراه الفلسفة في التربية ،جامعة درهام ، بريطانيا ،1990، يعمل أستاذا مشاركا في قسم الأصول والإدارة التربوية ، كلية التربية ، جامعة اليرموك، له مجموعة من الكتب والبحوث المنشورة..

ورد الكتاب في (172) صفحة من القطع المتوسطة، وحوى:

مقدمة؛

الإدارة التربوية : عرض و نقد؛

المنظورات الجديدة الجديدة للإدارة التربوية؛

المنظور الإسلامي للإدارة التربوية : لماذا ؟؛

الإطار النظري لنموذج “الإدارة-الخلافة”؛

المراجع؛

وقد تناول المؤلف في هذا الكتاب مجموعة من القضايا الإدارية المهمة ومنها :

القضية الأولى:
ظهرت الإدارة التربوية كحقل معرفي قائم بذاته قبل قرن من الزمن تقريبا ، أما كممارسة فهي قديمة قدم التعليم نفسه، حتى عندما لم يكن هناك مسمى وظيفي رسمي لهذا العمل، أي عندما كان المدرس نفسه يقوم بعمل التدريس والإدارة معا ، وقد كانت أدبيات الإدارة التربوية المبكرة ذات توجه عملي مرتبط بإدارة المدارس دون سعي لبلورة نظريات علمية.

وظل الأمر كذلك حتى نهاية الأربعينات عندما انهمكت مجموعة من العلماء لبلورة مرتكزات فكرية للإدارة التربوية، وسعت بتصميم ومثابرة لصياغة نظريات للإدارة التربوية ، تلك كانت الولادة الحقيقية ل علم الإدارة التربوية ، إن جاز التعبير.

وقد عرفت هذه المساعي في الولايات المتحدة ب حركة النظرية The Theory Movement، وذلك لتركيزها على وضع نظرية في الإدارة التربوية بهدف تحسين فهم الظاهرة الإدارية التربوية من جهة وإرشاد الممارسين في الميدان من جهة أخرى بحيث يكون لدينا مدارس أفضل يشعر فيها المدرسون بالسعادة والطلاب وأولياء الأمور بالرضا.

تأثرت حركة النظرية، التي سادت المسرح حتى الستينيات إلى حد كبير بالوضعية المنطقية Logicial Positivism التي أطلقتها النهضة الأوروبية وعصر التنوير الأوروبي وتركت آثارا لم تمح على الفكر الحديث في الحقول المعرفية وخاصة العلوم الاجتماعية، ولذلك فقد كان لحركة النظرية بدورها سخر خاص أدى إلى تنحية المعارف القديمة في الإدارة التربوية جانبا.

والوضعية المنطقية كما هي مستخدمة هنا تعبير فضفاض يشير إلى فلسفة غربية سادت منذ عصر النهضة الأوروبية وقد وجهت انتقادات كثيرة لهذه الفلسفة أدت إلى ظهور فلسفة ما بعد الوضعية ومن مرتكزاتها اعتبار الإنسان في النموذج الوضعي وما بعد الوضعي مثله مثل أي كائن ، قد يختلف عنه في الدرجة وليس في النوع، وبناء على ذلك يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية الاجتماعية بالطريقة التي تدرس فيها الظواهر الطبيعية وهي الطريقة العلمية.

ولهذا يؤمن الوضعيون بوجود حقيقة يمكن التوصل إليها بالطريقة العلمية بحيث يوصلنا ذلك إلى تعميمات ترقى إلى درجة القوانين، وهذا بدوره يمكننا من التوصل إلى الأسلوب الأمثل في الإدارة التربوية وغيرها، أما ما بعد الوضعية فتؤمن بوجود حقيقة يمكن التوصل إليها جزئيا فقط وذلك بسبب القصور في آليات التفكير وبسبب الطبيعة المعقدة للظواهر الإنسانية.

وقد أعطت التقاليد العلمية الوضعية في ذلك الحين أهمية كبرى للقياس الكمي للظواهر الكونية ، وللتحقق من المعلومات، وللملاحظة المتحررة من التحيز، وللموضوعية بهدف التوصل إلى القوانين العلمية التي تساعد على تحقيق أهداف العلم المتمثلة في تفسير الظواهر والتنبؤ بها وضبطها، وقد انعكس ذلك على الإدارة التربوية ، فكان الهم الأكبر للعلماء التوصل إلى منظومة من التعميمات التي ترقى إلى درجة القوانين العلمية بهدف تفسير الظاهرة الإدارية والتنبؤ بها وضبطها.

القضية الثانية:
في سبعينيات القرن الماضي بدأت الشكوك تساور العلماء بشأن تلك الافتراضات ، من ناحية لم تتمخض جهود الباحثين المهتدين بهدي العلوم الاجتماعية عن اكتشاف تعميمات ترقى لدرجة القوانين ، وحسب رأي بعض الباحثين لا توجد مؤشرات ، بل لا توجد أسباب معقولة تدل على أنها ستكتشف في الميدان الاجتماعي والتربوي، فأخذ بعض العلماء يجاهر بأن الطريقة العلمية التي تقوم على القياس الكمي للظاهرة ، وهي مصدر اعتزاز العلوم الطبيعية ، غير ملائمة لدراسة الظاهرة الإنسانية الاجتماعية التي تتسم بالتعقيد.

من هنا فقد أصبحت النتائج التي أسفرت عنها البحوث المهتدية بالطريقة العلمية محل تساؤل بل وتشكيك وسخرية ، فكان Thomas Greenfield أول المنشقين على الجماعة العلمية في الإدارة التربوية عام 1974 ، وقد شن حربا لا هوادة فيها منذ ذلك الوقت وحتى وفاته في تسعينيات القرن الماضي على نهج العلوم الاجتماعية والوضعية المنطقي في الإدارة التربوية وقد استخدم بعضهم تعبير ثورة جرينفيلد للإشارة إلى الحركة المضادة لحركة النظرية ، لهذا يرى جرينفيلد أن معظم البحوث في الإدارة التربوية لم تكن ذات صلة بالواقع، لأنها لم تتعامل مع مسائل الإرادة والنوايا والحرية والمشاعر والقيم وما يشكل الخير والعدل والصواب في العمل الإداري .

أما Griffiths، الذي كان من أشد أنصار الوضعية المنطقية والنهج العلمي في الإدارة التربوية ، وهو ما جعله على خصومة شديدة مع جرينفيلد ، فقد اعترف في النهاية بأن معظم البحوث في الإدارة التربوية كانت غير ذات جدوى، فأغلب البحوث لا صلة لها بالواقع وبحاجات المديرين ، ومعظمها مستند إلى نظريات هشة، ولا يطلع عليه الممارسون في الميدان، حتى أن النهج العلمي استبعد في الإدارة التربوية القيم باعتبارها تفضيلات شخصية غير قابلة للقياس، ولذلك فبحوث الإدارة التربوية في الأعم الأغلب معنية بممارسات العاملين في المؤسسات التربوية وكيفية أدائهم لأعمالهم وليس بأخلاقهم وقيمهم، وق. أصبح هذا موضع انتقاد، لأن العمل الإداري لا يمكن فصله عن القيم والأخلاق.

ولكن هذا الاستبعاد للقيم والأخلاق ، مع استبعاد دور الدين في الوضعية المنطقية مع عوامل أخرى، جعل المدارس أرضا خصبة لكثير من الأمراض الاجتماعية المستعصية، ففي مدارس كثير من بلدان العالم تنتشر المخدرات والإيدز والاغتصاب والحمل غير الشرعي والعصابات والاستقواء، بل واستخدام السلاح وأنماط متعددة من السلوك غير المرغوب اجتماعيا .

وأخيرا فإن الوضعية المنطقية ، التي ولدت في عصر النهضة الأوروبية في خضم الصراع بين الكنيسة وقتئذ والجماعة العلمية ، جعلت العلوم الاجتماعية معادية للدين وعلى أفضل تقدير جعلت منه شأنا خاصا بين الفرد وربه ، لا علاقة له بالحياة العامة ومنها الإدارة ، وقد برر علماء الاجتماع ذلك بقولهم :” إن المقولات الدينية معتقدات لا يمكن التحقق من صحتها أو دحضها أمبيريقيا ، وكان على العلم والعقل أن يحلا محل الدين كمصدر للمعرفة المشروعة”، وقد استند هذا التوجه إلى توجه علماني حداثي جارف وكان من القوة بحيث أصبح من الصعوبة الوقوف في وجهه.

لم يستسلم دعاة الاتجاه العلمي في الإدارة التربوية للهجمات على العلم ، فتمسك بعضهم بمواقفه فيما دعا آخرون إلى التفريق بين النموذج الوضعي والعلم وبين العلم والعلموية معترفين أحيانا ببعض أوجه القصور التي شابت النسخ الأول. من الإدارة التربوية العلمية ، ودعوا إلى اتجاه علمي جديد يستوعب ما افتقرت إليه تلك النسخ المبكرة وخاصة استبعاد القيم والأخلاق بحيث تصبح هذه جزءا لا يتجزأ من الإدارة التربوية .

وفي خضم ذلك شنوا هجوما لا هوادة فيه على النماذج والاتجاهات الجديدة ( التي سنتعرض لها لاحقا) باعتبار أنها ليست ندا للعلم، ولم يكتف بعض أنصار الاتجاه العلمي بالدفاع عن العلم ومهاجمة النماذج الجديدة ، بل قاموا بعملية تصويب من الداخل ، وذلك ببلورة نماذج علمية جديدة ، وقد بدأت هذه الحركة التصحيحية منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي عندما طور Bertallanfy نظرية النظم المفتوحة التي استبدلت الفيزياء بالأحياء كمصدر إلهام لها، مما جعل الإدارة تعطي اعتبارا للبيئة المحيطة بالمؤسسة والعوامل الخارجية عن المؤسسة.

القضية الثالثة:
تزامن النقد الموجه للمنحى العلمي في الإدارة التربوية مع ظهور منظورات جديدة من أهمها : ما بعد الوضعية ، التفسيرية والنقدية ، وتختلف هذه المنظورات فيما بينها اختلافا جذريا حول قضايا الوجود الكبرى الجوهرية مثل طبيعة الإنسان، والمعرفة والحقيقة والقيم والأخلاق وما إلى ذلك، وهي قضايا ذات أثر بعيد المدى في الإدارة التربوية.وسوف نعرض فيما يلي لنموذجين صاعدين للإدارة التربوية من خارج الاتجاه العلمي ويعتبرهما بعض الباحثين متمردين على النموذج الوضعي العلمي الأمبيريقي الكمي، وهذان النموذجان هما النموذج التفسيري والنقدي.

أولا: النموذج التفسيري في الإدارة التربوية ومن مرتكزاته الفلسفية مايلي:

الموقف من الحقيقة: الحقيقة بنية ذهنية غير محسوسة ، ذات طبيعة خاصة ضيقة وأساس اجتماعي ، ويترتب على هذا الاختلاف اختلاف في السلوك الإداري ، فبينما الإداري في الوضعية يفرض وينهى لأنه يطبق قوانين تم التوصل إليها بالطريقة العلمية فإنه في النموذج التفسيري يدخل في عمليات جدل وتأويل وتداول مع جميع الأطراف ، لأنه لا توجد حقيقة واحدة بل حقائق.

الموقف من القيم: يرفض هذا النموذج الفصل بين القيم والحقائق بل ويرفض التصويب الذي تقوم به الوضعية لاستيعاب القيم في علم إدارة تربوية جديد، ذلك أن مرتكزات الفلسفة الوضعية تجعلها غير قادرة على ذلك، ويركز التفسيري على قيم العدالة الاجتماعية والإنصاف والحرية في الاختيار وانتشال المهمشين وحقوق الأقليات ، ويعتبر أن هذه القيم أهم من الفاعلية التنظيمية وكلفة الإنتاج وما إلى ذلك من اهتمامات إدارية، ذلك أن الإنسان في نظره أهم من المنظمة.

ومن متضمنات النموذج التفسيري للإدارة التربوية ، اعتبار المنظمات (ومنها المدارس)، منتجات إنسانية تنشأ بفعل الإنسان وتعمل بفعل الإرادة الإنسانية والمقصد الإنساني، فالمنظمات ثقافة أكثر منها بنية تنظيمية والبشر وخاصة أصحاب السلطة والقرا مثلا يضعون القوانين والإجراءات والأنظمة ويسهمون في تشكيل المناخ التنظيمي والثقافة التنظيمية ، ومن المتوقع جدا أن يضعوا القوانين واللوائح ويخلقوا المناخ الذي يخدم تلك المصالح والتحيزات ولذلك فمن الوارد جدا ارتكاب الظلم والتهميش والاضطهاد وما إلى ذلك وقد يتم ذلك باسم الفعالية التنظيمية وكفاءة الإنتاج.

تدعو التأويلية لرؤية العاملين كغايات وليس وسائل ، ولذلك على القيادة التربوية أن تعنى ليس فقط بتحقيق أهداف المنظمة بل بالانفتاح على قضايا ذات أهمية إنسانية ، ولايكون تقييم الأداء القيادي بناء على معايير أداء بل على مدى إتاحة الفرصة للآخرين للوعي بالقضايا ذات الأهمية الإنسانية ، والقائد ليس مجرد شاغل مركز ذي أدوار في الهرم التنظيمي بل عامل من أجل مجتمع يصون الحياة المعنوية والفكرية للجماعة ويقيم علاقته بالآخرين بناء على العضوية المشتركة في الخطاب المعنوي الأخلاقي للجماعة.

والتفسيرية إذن ليست ضد تطبيق القوانين واللوائح ، وهناك أوقات لا بد فيها من استخدام السلطة ، ولكن متى ؟ وكيف؟ وتحت ظل أي ظروف؟

ثانيا: النموذج النقدي في الإدارة التربوية

النموذج النقدي هو نموذج فكري معروف في العلوم الاجتماعية مثله في ذلك مثل النموذج الوضعي، وكما في النموذج الوضعي فقد تم تبني النموذج النقدي من قبل بعض المفكرين في الإدارة التربوية ، وهناك نسخ متعددة من النقدية: النقدية الماركسية ، والماركسية الجديدة ، والنقدية غير الماركسي، ولكن عادة مايشير النموذج النقدي إلى النسخة غير الماركسية من النقدية رغم وجود مقولات مشتركة بينهما، والذي نعرضه هنا هو النموذج النقدي غير الماركسي .

ومن المرتكزات الفلسفية للنموذج النقدي أن الظاهرة الإنسانية الاجتماعي لا يمكن دراستها بنفس الطريقة التي تدرس فيها الظاهرة الطبيعية أو الحيوانية ،والنقديون يؤمنون بوجود حقيقة تتشكل بفعل الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وعامل النوع الاجتماعي،وكذا للقيم والأخلاق مكان الصدارة في النموذج النقدي ، وتترجم الأخلاق في النموذج النقدي بالعمل على إزالة الجهل وإثارة الوعي، وينتقد النموذج النقدي النموذج الوضعي في الإدارة التربوية لاستبعاده القيم من البحث الإداري ، ولتجريده الإدارة من البعد الأخلاقي ، ولتركيزه على القضايا على التوصل إلى قوانين وتعميمات لفهم هيكل وديناميات الإدارة ، ولتركيزه على القضايا التربوية بحجة الحرص على كفاءة الأداء ، وكأن إدارة المدارس هي مجرد عمليات تنظيم وتنسيق وتخطيط واتخاذ قرار واتصال يقوم بها الإداريون، وبهذا يعيد النموذج النقدي البعد الأخلاقي للنظرية الاجتماعية الإدارية التي استبعدها النموذج الوضعي.

ومن متضمنات النموذج النقدي للإدارة التربوية:

لا يمكن فهم المنظمات ومن بينها المدارس ، إلا في ضوء تحليل علاقات القوى السائدة التي لا تقتصر على مايجري داخل المنظمة بل خارجها، فما يجري داخل المنظمة إن هو إلا امتداد لتجاذب القوى الخارجية ، حتى التقنيات التنظيمية مثل تقسيم العمل وغيره إن هي إلا تعبير عن علاقات القوى وليست تعبيرا عن ضرورات وظيفية أو تنظيمية.

يؤكد النقديون كثيرا على الاتصال ، فمجتمع الهيمنة والاضطهاد ينتج تشوهات في الاتصال مما يعوق التحرر، فيستخدم النقديون تعبير وضع الخطاب المثالي للإشارة إلى بيئة اجتماعية تسمع فيها جميع الأصوات دون هيمنة صوت على آخر، كما يركزون على كفاءة الاتصال اللازمة للمشاركة الفعالة في صنع القرار، وتعني كفاءة الاتصال القدرة على استخدام الخطاب بشكل مناسب لتحقيق الأهداف والقدرة على جعل الآراء قادرة على الإقناع وكذلك القدرة على تكييف الخطاب لجعل النيات مفهومة، ولذلك من واجب الإدارة التربوية تهيئة وضع الاتصال المثالي في المدرسة وخاصة في الاجتماعات وعند صنع القرار.

توفير المعلومات وتشاطرها والاستشارة والقنوات المفتوحة من الاتصال مع القادة باعتبارهم ممكنين لا مديرين.

ويعتقد أنصار هذه النظريات السائدة في الإدارة التربوية حاليا تعمل لخدمة القوى المهيمنة في المجتمع وإعادة إنتاجها وإضفاء الشرعية عليها، ويرى هؤلاء أن المنظمات القائمة تتصف بالنخبوية والتوزيع غير الملائم للقوة أو السلطة ، وفوق ذلك فهي تعرقل أي برنامج عملي يهدف إلى إعادة ترتيب الأوضاع الاجتماعية على أساس من التحليل المعقول بإمكانيات وحدود الأشكال الاجتماعية السائدة.

ويعيب أنصار النظرية النقدية على النظريات السائدة استبعاد البعد الأخلاقي في أعمالنا والتركيز على القضايا التقنية التي يسهل حلها إداريا.

ثالثا: النموذج الديني المسيحي

في خضم البحث عن نماذج بديلة للإتجاه الوضعي في الإدارة التربوية حط بعض المفكرين رحالهم على تخوم الدين وبعضهم اخترق هذا التابو الذي لم يعد محرما، ولكن قوة نفوذ العلمانية جعلت كثيرين منهم ينأون بأنفسهم عن استخدام لفظ الدين ، لقد استخدم سيرجيوفاتي عام 1992 تعبير السلطة المقدسة كمصدر من مصادر المعرفة الموثوق بها في الإدارة التربوية.

وفي ميدان الإدارة تشير الدراسات المعاصرة أن الدين قد ظهر من جديد كمشارك مهم في الجدل الأكاديمي حول القضايا الإدارية ، هناك طرح جديد للقضايا الإدارية باعتبارها قضايا أخلاقية يحق للكنيسة إبداء وجهة نظرها إزاءها.وهذا الاتجاه لجعل الدين ذا صلة بالإدارة هو جزء من اتجاه عام لجعل الدين ذا صلة بجوانب الحياة اليومية الأخرى والحقول المعرفية الأخرى مثل الاقتصاد ، وهناك تقارير متواترة عن تزايد الروحية في أماكن العمل ليس بالمعنى الديني بل بمعنى طرح التساؤلات عن المغزى من العمل والأفعال الإنسانية في ضوء بعض القيم مثل الأمانة والثقة والعدالة والنزاهة والإنصاف والمساواة والحرية والاستقلالية بحيث تجد هذه القيم طريقها للتعبير عن الإجراءات والممارسات اليومية خاصة على مستوى القادة.

يعتقد أنصار الطرح الديني في الإدارة أن لهم أسبابهم في مطالبتهم بإدخال المنظور المسيحي في الإدارة ، ويرى بعض هؤلاء أن الإدارة الحديثة تتعارض مع مبادئ الإنجيل وقد عبر Rush عن ألمه لأن كثيرا من المؤسسات المسيحية قد قبلت فلسفة الإدارة العلمانية وسعت لتحقيق كلمة الرب باستخدام تلك الفلسفة الإدارية التي تتعارض جذريا مع مبادئ الإنجيل.

القضية الرابعة: المنظور الإسلامي للإدارة التربوية

تساعد المناقشة السابقة على وضع المنظور الإسلامي للإدارة التربوية في سياق أوسع، السياق العالمي الذي يشهد بحثا حثيثا عن بدائل للاتجاه السائد ، وهكذا لا يبدو طرح المنظور الإسلامي نشازا ، حيث يرى AL-Burae أن طرح المنظور الإسلامي هو جزء من حركة عالمية تتبرم من هيمنة النماذج الغربية ، ومؤشر على الثقة بالنفس لدى الأمم النامية تدفعها لبلورة أنماط أصيلة من الإدارة ، ويعرف هذا التوجه في أدبيات علم الاجتماع ب التأصيل القائم على احترام ثقافات الشعوب الأصلية ، وإسهاماتها في الماضي ومايمكن أن تسهم فيه مستقبلاوالتأصيل كما هو معروف في علم الاجتماع ذو توجه محلي بينما التأصيل الإسلامي ذو توجه كوني ، فالقضية ليست شرق مقابل غرب وإلا وقعنا في ردود الفعل وفي شوفينية تماثل شوفينية الغرب المستعمر ، وفوق ذلك فإنني أستعمل تعبير الغرب بمعنى الغرب العقائدي وليس الجغرافي ، أي الغرب كما تحدده منظومته القيمية وليس موقعه الجغرافي.

للمسلمين أسبابهم لطرح المنظور الإسلامي ، وكما ذكرنا سابقا فالإدارة ليست مجرد عمليات تقنية بل المعتقدات الأساسية والافتراضات وتلك المعتقدات تشمل الموقف من الإنسان والكون والحياة والحقيقة والمعرفة وما إلى ذلك ، وتشكل هذه المعتقدات الإطار الفكري الذي له انعكاساته على الإدارة فكرا وممارسة، وما كانت نظريات الإدارة لتتعدد لولا وجود منظورات فكرية متعددة وراءها ، فنظريات الإدارة لم تظهر في فراغ بل يفي وسط فكري ثقافي تتطابق تقاليده أو تفترق قليلا أو كثيرا مع الإسلام.

هناك شبه إجماع بين المسلمين أن الإسلام ليس مجرد علاقة شخصية بين الفرد وربه بل طريقة حياة شاملة، وبهذا الفهم فإن إدارة المنظمات من المنظور الإسلامي هو جزء لا يتجزأ من الإسلام .

وبلورة المنظور الإسلامي ضرورة حضارية ، لأنه يساعد في الاشتباك مع الآخر الفكري بطريقة إبداعية بعيدا عن التقليد الأعمى والاختيار الساذج العشوائي، الذي لا يستند إلى مرجعية ، وهذا الاشتباك هو نوع من الشهود الحضاري، فالمعرفة الإنسانية تتقدم من خلال التبادل المشترك بين الأمم والثقافات، ويحصل ذلك التبادل على الدوام ، فأحيانا تتقدم أمة ما وأحيانا تتراجع في إطار التداول الحضاري، ومن البداية لم يتردد المسلمون في استعارة الممارسات الإدارية من الحضارات الأخرى خاصة الفرس ومصر والهند ، ولكنهم استوعبوا ما استعاروه وطوروه وأضافو إليه ، ولكنهم كانوا مسلحين بإطارهم المرجعي الإسلامي.

والمؤسف أن المسلمين اليوم يستعيرون الفكر والممارسات الإدارية ولكن بدون مرجعية إسلامية ، إنهم يتعاملون مع الفكر الإداري الغربي من منطلق الصواب العلمي ولا يقفون منه موقفا نقديا، وكلما ظهر نموذج اعتبر وصفة سحرية إلى أن ينتقده الغربيون أنفسهم ويأتوا ببديل عنه ، فيتبع المسلمون ذلك.

في ضوء المنظور الذي نطرحه يعاد تحديد المقولات الإدارية في مقولات أخلاقية تجعل للدين كلمة بشأنها، فالإدارة ليست مجرد ممارسة تقنية أو قيادة تعليمية، وليست مجرد اجتماع أن تطبيقي كما تصور في الأدب السائد، بل هي مجهود إنساني هادف يتم عن وعي ومرتبط بالمغزى النهائي للحياة وهو عبادة الله.

والحاصل أنّ هذا الكتاب عزيز علينا أكاديميا ومعرفيا، يتعين قراءاته وتدبر ما يثيره مؤلفه فيه من قضايا إدارية ، و نعتقد أن المكتبة الإدارية الإسلامية ما زالت مفتقرة إليه، ولم نجد فيما اطلعنا عليه في الغرض من وضوح الرؤية وحسن البيان فيما يخص مسألة الإدارة التربوية من المنظور الإسلامي ما وجدناه عند مؤلف هذا الكتاب الدكتور عارف عطاري ، فهنيئا له به مبدعا، وطوبى لنا به كإداريين و كقراء مستمتعين.
ـــــــــــــــــ
* ذ. محمد جناي/ متصرف تربوي خريج مسلك أطر الإدارة التربوية بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة 2016 / مدير مؤسسة تعليمية عمومية بالمديرية الإقليمية بالقنيطرة

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.