تفكيك السلفية.. تحولاتها وتحوراتها لمحمد بوشيخي: قراءة نقدية
عبد الفتاح الحيداوي
المقدمة
يمثل كتاب “تفكيك السلفية: تحولاتها وتحوراتها من مجالس العلم إلى جبهات القتال”
للدكتور محمد بوشيخي، الباحث المتخصص في الإسلام السياسي وقضايا التطرف، إضافة نوعية للمكتبة العربية في دراسة ظاهرة السلفية الجهادية. يتجاوز الكتاب التحقيب التقليدي للسلفية لينتقل إلى تحليل البنى المرجعية والمسارات الفكرية التي أدت إلى تحولها الجوهري من فضاء التعليم والمجالس العلمية إلى فضاء الصدام وجبهات القتال.
تتمحور الأطروحة المركزية للكتاب ، حول الكشف عن التحالف المفاهيمي الذي صنع الحركية الجهادية. ويرى بوشيخي أن هذه الحركية ليست طارئا أو انحرافا فجائيا بل هي ثمرة مسار طويل تلاقحت فيه رؤيتان فكريتان متوازيتان: القطبية والألبانية. تهدف هذه الدراسة النقدية إلى عرض وتحليل هذه الأطروحة، مع إيراد مناقشة نقدية للنقطة التي أثارها القارئ حول العلاقة بين الفقه والميدان في التجربة الجهادية.
أولا: تفكيك المؤلف: تقاطع القطبية والألبانية
يقدم الدكتور بوشيخي تحليلا عميقا لكيفية تشكل البنية الفكرية للسلفية الجهادية، مركزا على أثرين متوازيين شكلا معا الأساس النظري والشرعي للحركية الجهادية:
1. الأثر القطبي: التحرر من السلطة الفقهية وأسبقية الجهاد
يرى المؤلف أن الحركية الجهادية كما صاغها الجيل الأول من الجهاديين حاولت الإجابة على سؤال التغيير الذي كان يطرحه الشباب. وقد تميز هذا الجيل بـ تحاشي سلطة الفقهاء سواء في التأمير أو الإفتاء في تدبير حركة التغيير.
“تحاشوا سلطة الفقهاء – تأميرا وإفتاء في تدبير حركة التغيير تحت سطوة تصور قطب حول أسبقية الجهاد على الفقه…”
لقد منحت القطبية المستمدة من أفكار سيد قطب، الشباب الجهادي مشروعية التحرر من السلطة الفقهية التقليدية، ودفعتهم نحو قراءة تغييرية للنص تتجاوز الواقعية الإصلاحية وتؤسس لمنطق المفاصلة والقطيعة مع المجتمع الجاهلي والحاكم الممتنع عن تطبيق الشرع. وفي هذا السياق يرى بوشيخي أن الحركية الجهادية فشلت في استيعاب البعد المنهجي لصاحب في ظلال القرآن واكتفت باستعارة أفكاره ومفاهيمه في بناء خطابها الحجاجي.
2. الأثر الألباني: الغطاء الحديثي والشرعية النصية
على الرغم من الأثر القطبي التغييري يرى بوشيخي أن هذا الأثر لم يكن كافياا لإضفاء الشرعية السلفية على المشروع. هنا يبرز دور الألبانية المنسوبة إلى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني والتي وفرت الغطاء الحديثي للمفاهيم القطبية الكبرى من جاهلية وحاكمية وهجرة.
هذا التلاقح بين الرؤية التغييرية القطبية والشرعية النصية الألبانية هو ما يفسر بحسب المؤلف، نشأة السلفية الجهادية كـ تحالف مفاهيمي يجمع القطبية في الهدف والتحليل والمرجعية السلفية في التبرير والشرعنة. وبذلك، يرى بوشيخي أن السلفية الجهادية ليست انحرافا بل هي ثمرة طبيعية لمسار فكري معقد.
ثانيا: مناقشة جدلية الفقه والميدان في التجربة الجهادية
على الرغم من القيمة المعرفية العالية التي يقدمها الكتاب في ضبط مفاصل السلفية الجهادية تبرز نقطة خلاف جوهرية تتعلق بإسقاط شباب السلفية الجهادية لمنطق الشرعية والفقه مقابل شرعية الميدان.
1. نقد أطروحة إسقاط الفقه
هناك اعتراض على استنتاج الدكتور بوشيخي بأن الشباب الجهادي “تحاشوا سلطة الفقهاء” بشكل مطلق أو أنهم أسقطوا منطق الشرعية والفقه لصالح شرعية الميدان. وارى أن هذا الإسقاط لا يتفق مع الواقع الفكري والتنظيمي للحركية الجهادية:
لأن جل مراجعهم العلمية يجتمع فيهم الميدان والفقه.يوسف العيري واسماء اخرى نمودجا
هذا النقد يفتح سؤالامهما حول طبيعة العلاقة بين الفقه والعمل المسلح في هذا التيار. فبدلا من أن يكون هناك إسقاط للفقه قد يكون هناك انتقاء أو إعادة تأويل له بما يخدم ضرورات العمل الجهادي دون التخلي عن المرجعية الفقهية بالكلية.
2. المرجعية الفقهية المزدوجة: ابن تيمية نموذجا
يستند النقد إلى حقيقة أن المرجعية العلمية للتيار الجهادي تجمع بين العلم والعمل، أو بين الفقه والميدان. ويستشهد هنا بشيخ الإسلام ابن تيمية كنموذج أصيل لهذا الجمع:
إن الاستناد إلى ابن تيمية الذي كان فقيها مجتهدا ومجاهداً في الوقت ذاته، يؤكد أن الجمع بين الفقه والجهاد هو جزء أصيل من التراث الذي يستلهم منه هذا التيار. كما أن الخزانة الجهادية فيها من العلماء العاملين الكثير من الأسماء مما يدل على أن القيادة الفكرية والميدانية للتيار لم تكن خالية من الفقهاء.
3. رفض الشيوخ التقليديين لا يعني رفض الفقه
كما ان هناك تفسيرامغايرا لرفض بعض الشيوخ من قبل الجهاديين. فرفض شيوخ معينين مثل سيد إمام (الذي تراجع عن الجهاد) أو غيرهم ممن انحازوا للسلطة لا يعني رفضا للمنهج الفقهي بحد ذاته بل هو رفض لموقفهم السياسي أو الفقهي المعارض للجهاد. هذا التمييز مهم لأنه يحول المسألة من “إسقاط الفقه” إلى “الخلاف في الفقه”، وتحديدافي فقه الجهاد والخروج على الحاكم.
إضافة إلى ذلك، فإن فشل الجهادية في الالتزام بالخطاب الشرعي للعلماء لا يعكس بالضرورة رفضا للفقه ذاته، بل كان في كثير من الأحيان موقفاا من الشيوخ بسبب تراجعهم السياسي أو ابتعادهم عن ساحات الصراع لا بسبب اعتراض منهجي على الفقه وأهله.
الخلاصة والتقييم
يعد كتاب الدكتور محمد بوشيخي “تفكيك السلفية: تحولاتها وتحوراتها من مجالس العلم إلى جبهات القتال” عملا بحثيا قيما، نجح في “ضبط مفاصل السلفية الجهادية ومعرفة مدا خلها ومخارجها”. إن إضاءته على التقاطع بين القطبية والألبانية كعاملين أساسيين في تشكيل السلفية الجهادية يمثل إطارا تحليليا قوياا لفهم بنية التفكير الجهادي خارج ثنائية التقليد والتشدد.
إن الكتاب، بما يحويه من معلومات غنية ومراجع، يصلح بالفعل للباحثين في الظاهرة الجهادية، ويثير أسئلة بحثية مهمة حول طبيعة هذا التقاطع ومالاته بعد تحولات ما بعد 2011.
التعليقات