تفكيك الخطاب المتطرف: أية آفاق؟

نورالدين الحاتمي
آراء ومواقف
نورالدين الحاتمي6 ديسمبر 2020آخر تحديث : الأحد 6 ديسمبر 2020 - 7:46 مساءً
تفكيك الخطاب المتطرف: أية آفاق؟

نورالدين الحاتمي
يُعد موضوع تفكيك الخطاب الديني المتطرف موضوعا شديد الحساسية ، و على الرغم من كونه استهلك الكثير من الوقت، إلا أنه لا زالت له “راهنيته”، و لازال الناس يتناولونه ويهتمون به ويشتغلون عليه، لقد أسال هذا الموضوع بالذات: موضوع “تفكيك الخطاب الديني” الكثير من المداد، وشكل مادة دسمة اهتم بها الكثير من الباحثين، وأصدروا بشأنه، الكثير من الدراسات والابحاث.
ينبغي الإشارة في البدء، إلى أن هذا النوع من القضايا له نوع من الرهبة، وتتأتى هذه الرهبة من العبارات التي يتشكل منها العنوان ذاته، إن الأمر هنا يتعلق بعبارات ينبغي التعامل معها بنوع من الحذر والحيطة.
إن عبارة “تفكيك” هنا لها وقع خاص، ولها تمثل خاص وخطير، لأنها ترتبط بالتقويض وبالهدم والتحطيم ، ويزيد من خطورتها المضاف إليه: الخطاب المنعوت بالديني. إن التفكيك هنا يتعلق بخطاب وليس أي خطاب، إنه “الخطاب الديني” الذي ليس هنا إلا “الخطاب الإسلامي” بالذات، وتكمن معضلة العنوان في كونه تفكيكا اي تقويضا لخطاب يتأسس على الدين الإسلامي، أي على الإسلام، وهذا ما يجعل هذا الموضوع في حالة من التماس مع المقدس، مع الدين، الذي يقدم لنا المعنى الانطولوجي ويروي فينا ظمأه ، إذا استعرنا من عبد الجبار الرفاعي عبارته.
إن هذا الالتباس، وهذا الوضع ، هو الذي يقتضي منا أن نقوم بتفكيك للعنوان نفسه.
سنكون ملزمين إذن، بالقيام بهذا النوع من “التفكيك” على العنوان حتى يكون موضوعنا واضحا لا لبس فيه، ولا غموض. فماذا نقصد هنا بالتفكيك؟ وماذا نقصد أيضا بالخطاب؟ وأي خطاب نريد تفكيكه وتعريته؟
لا نريد “بالتفكيك” هنا ، بالضرورة ما تحيل عليه المفردة في الفلسفة والتي رفعتها من كونها مفردة إلى درجة المفهوم، وإنما نقصد هنا “التفكيك” كما يلائمنا في مقام حديثنا عن هذا الموضوع.
إن التفكيك هنا، يراد به فضح هذا الخطاب وتعريته، ورفع الغطاء الديني الذي يتدثر به ويتغطى. إنه إذا كان “التفكيك” هو التقويض والهدم، فإن هذا الاخير هنا، لا يحصل الا بالكشف عن الاهداف السياسية والمادية الثاوية وراء هذا الخطاب، المتلون بالإسلام. إن عملية “التفكيك” هنا، تبتغي عزل هذا الخطاب عن الأهداف الدينية النبيلة التي يختبئ وراءها، والابقاء عليه عاريا تماما ، ومفصولا عن تلك الشعارات.
وإن الخطاب هنا إنما يعني الكتابات والانتاجات والأدبيات التي صدرت، وتصدر عن مفكرين ومنظرين إسلاميين في أُفق إسلامي، ـ وأنا هنا استفيد التعريف من المرحوم الجابري ـ وهو هنا الرسالة التي تتضمنها تلك الانتاجات، والتي تدعو اليها ، أي في الجملة، الكتابات والأدبيات التي كان مدارها ، ويكون، حول المشروع الحضاري الاسلامي و مبادئه ومكوناته ، وآليات تحقيقه وتنفيذه.
ولأن الخطاب هنا ليس أي خطاب، أي ليس خطابا فلسفيا ولا غيره، وإنما هو خطاب” ديني” فإن السؤال هنا أيضا: ماذا نقصد بالديني؟ طبعا لا يمكننا ان نمارس هذا “التفكيك” على اي نوع من الخطابات. إننا نفهم هنا أن الوظيفة الكبرى للدين، كما تشرحها الفلسفة ، هي تحقيق التوازن النفسي وضمان الطمأنينة الروحية للأفراد، وبالتالي، فإن الخطاب، كقراءة تأويلية للدين، متى كان يلتمس هذا الغرض ويبحث عن هذا الهدف، فإن هذا “التفكيك” هنا لا يشمله ولا يعنيه. طبعا هذه الدعوى تظل مجرد دعوى، وإلا فإن كل القراءات التأويلية للدين الآن، لا نستطيع الفصل فيها بين ما هو سياسي وما هو ديني خالص.
إن الخطاب المراد نقده وتفكيكه هنا، هو “الخطاب الديني الاسلامي” كما هو ممثل في الأدبيات التي تصدر عن الفاعلين في المجال الحركي الإسلامي، الذي يتطلع إلى الدولة ويمعن في الممارسة السياسية.
ولكن، هل كل خطاب يتعلق بالممارسة السياسية، هو مجال لهذا الفعل النقدي والتفكيكي؟ طبعا الخطاب المعني هنا بهذا “التفكيك” هو “الخطاب الديني المتطرف”.
إن الامر هنا دقيق، وفي غاية الدقة ، فالتطرف هنا من المفاهيم المعنوية، التي تزيد وتنقص، حيث دائما هناك من هو أكثر تطرفا من غيره ،أو اقل تطرفا منهن وهو شبيه بالإلحاد الذي يتحقق معناه و يتحدد من خلال نقيضه الذي هو الايمانن حيث يكون شكل الايمان محددا لمعنى الالحادن وهنا يتحدد التطرف بالنظر إلى نقيضه الذي هو الاعتدال، والذي هو بدوره يزيد وينقصن لأنه ينتمي إلى جنس المفاهيم المعنوية التي سبقت الاشارة اليها .
إن” التطرف” كما الاعتدال، مفهوم نسبي وملتبس، فإذا كان هو الابتعاد عن الوسط و الاقتراب من طرف ما، فكيف نحدد الوسط ؟وكيف نحدد معنى الاعتدال؟
واضح أننا هنا أما م ممارسة نقدية وتفكيكية تستهدف خطابا دينيا :أي إسلاميا و”متطرفا “، وواضح أيضا أننا امام مفهوم ملتبس وغامض، يتعلق الأمر هنا بـ”التطرف” لأنه لا أحد يملك الحق في تحديد الاعتدال حتى يملك الحق في تحديد التطرف.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن عددا من العلماء ذهبوا إلى ان “التطرف” هو عينه ما وردت الاشارة اليه في النصوص الحديثية كالغلو والتنطع والتشدد.
واذا كان ذلك كذلك، فالفارق هنا واضح وشاسع، فالغلو والتنطع في السابق، كان يتعلق بالممارسة التعبدية ، حيث وردت تلك الاحاديث حول اناس قال بعضهم أنه يصوم ولا يفطر، وقال آخر انه يقوم الليل ولا ينام ، وقال اخر انه لا يتزوج النساء أبدا ، وهو الغلو والتنطع الذي وردت بشأنه احاديث نبوية تنهى عنه و تحذر منه. أما التطرف اليوم ، فإنه ليس إلا مواقف يتم اتخاذها من الواقع والمجتمع، ولا يتعدى ذلك.
السؤال الآن: هل يمكن أن يكون هذا التفكيك مسعفا في تعرية “الخطاب” وتعريته؟ وهل تعريته وفضحه يمكن ان يؤديا إلى القضاء عليه ودفع الناس إلى الانفضاض عنه؟
لا شك ان التفكيك عملية مفيدة وجيدة ، ولا شك انها تسهم في تحقيق المراد، ولكن هل مجرد القيام بهذه التعرية وبهذا “التفكيك” كفيل برد هذا الخطاب إلى حجمه ورده إلى نسبيته وصرف الناس عنه؟
لنتذكر أن الممارسة النقدية التي كانت دون “التفكيك”صدرت في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، وانها كانت تُمَارس من داخل البنية، ومن داخل المرجعية، وبذات المرجعية، وأنها كانت تصدر عن أناس لا يقلون علما ومعرفة واطلاعا عن اولئك الذين كانوا ينتجون النصوص ، التي تعود الناس على وصفها بالمتشددة، لنتذكر كتاب” دعاة لا قضاة ” للهضيبي ، وهو كتاب، للتذكير، يدل على ان صاحبه متمكن ودارس، وعلى دراية بالفقه و أصوله، وانه انتصر لرؤيته بالعلم الشرعي، ولنتذكر الكتابات التي تصدت لأعمال سيد قطب رحمه الله، وبينت ان افكار الرجل لم تكن مؤسسة على العلم الشرعي، ولم تكن مؤصلة، ولنتذكر الكتابات التي صدرت عن عدد من شيوخ الجماعات الجهادية، في كل من مصر وليبا ، والتي قامت بمراجعات ثورية حقيقية وكبيرة، وأسسوا لها بالأصول والقواعد العلمية الشرعية المهمة و المرعية.
لنتذكر الكتابات التي صدرت عن صاحب “العمدة في اعداد العدة” و”الجامع في طلب العلم الشريف” وخاصة “وثيقة ترشيد الجهاد” لنتذكر تلك الكتابات ، وغيرها كثير مما صدر عن أناس مشهود لهم بعلو الكعب في العلم ، والمصير الذي انتهت إليه.
لقد ذكرت ذلك للخلوص إلى أنه، وعلى الرغم من ان تلك الكتابات كانت تصدر عن الشيوخ ، الذين كان لهم دور في الساحة وكانوا مؤثرين ولاعبين متمكنين، على الاقل من مادتهم، إلا انهم لم يكن لهم و لإصداراتهم كبير تأثير في الحد من تمدد هذا الخطاب و انتشاره.
الذي حصل ، أن تلك الكتابات سمحت بتصنيف رجالها كأناس متخاذلين منحرفين متعثرين ساقطين، كما تقتضي ذلك سنة الاجتماع والتاريخ حسب قولهم، وواصلت القافلة مسيرتها، وأنتجت اسماء جديدة ، واصدرت انتاجات فكرية وايديولوجية جديدة ، وبقيت مهيمنة على المشهد الاعلامي الدولي زمنا. وقد كان هذا مصير الكتابات التي أنتجها أصحابها من داخل البنية ومن داخل الصف الإسلامي، أما الكتابات التي مارست ـ و تمارس ـ انتقادها من خارج البنية ومن خارج الصف، فإننا نسكت عنها لأنها لا تأثير لها، ولا يهتم بها المنتسبون إلى الخطاب المعني هنا ، فتصنيف هؤلاء النقاد باعتبارهم خصوما للفكرة الاسلامية وأعداء لها، ورميهم “باللادينية” و”العلمانية” ينهي النقاش و يفرغه من أي محتوى معرفي محترم.
ليبقى السؤال المشروع هنا هو: لماذا لا يؤثر هذا النوع من النقد في هذا التيار، ولماذا لا يسكته؟
لتناول هذا السؤال، أشير بدءا إلى أن هذا الخطاب “المتشدد” أو الخطاب الذي يتطلع أصحابه إلى السلطة و”الجاه المفيد للمال “لا يستمد قوته من الدليل العلمي، الذي يُلتمس في النصوص الشرعية ، وهي نصوص يجوز القول عنها ـ على الاقل ـ أنها يمكن تأويلها، بحيث تصلح لتكريس ودعم الخطاب الراديكالي، وتصلح أيضا لفضحه ودعم نقيضه.
إن مفاتيح فهم قوة هذا الخطاب وسر تأثيره في الناس، ينبغي البحث عنها في الواقع، و ليس في النصوص فقط.
إن هذا الخطاب انعكاس للواقع المأساوي وتعبير عنه وترجمة له، فبقدر مأساوية هذا الواقع وسوداويته وظلامه وتخلفه، بقدر قوة هذا الخطاب وجسامته و ضخامته.
إن الخطاب الاسلامي ككل، تعبير عن فشل الحلول المستورة” وفق عبارة القرضاوي، وإن الخطاب” السلفي الجهادي”تعبير عن أزمة هذا الخطاب وبؤسه، حيث كان أهله وأصحابه يقدمونه كمحاولة لتجاوز أزمات الخطاب الإسلامي الذي كان قبله، ومحاولة لتصحيح مساره الآخذ في الابتعاد عن منهج الإسلام كما يفهمونه.
في تقديري، ان الخطاب “الراديكالي المتطرف” سيظل قويا ومتماسكا، طالما ان الواقع بهذا السوء وبهذه القتامة، وطالما أن المنابر الإعلامية والمراكز البحثية تتعاطى معه بهذا النوع من التهويل و التضخيم، وانه لا حل لتجاوز هذا الخطاب الا بتحقيق ما يتضمنه من شعارات نبيلة، وبمراجعة أسلوب التعاطي معه، والتعامل معه كما هو في الواقع، دون تهويل و دون تهوين ، أي وفق حجمه الواقعي.
إن هذا الخطاب هو خطاب المحرومين والجياع والمهمشين والمقصيين، وطالما أن هذه الشرائح باقية وتتسع، فإن هذه الخطاب سيجد غذاءه ومبرر وجوده.
إنه لا يتغذى على النص الديني، و إنما يتغذى على مآسي العباد.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.