3 سبتمبر 2025 / 07:24

تفرّق “السرّ” بين التاريخ والوجدان.. طريقة مولاي بوعزة نموذجا

محمد زاوي
في رسالة نسِبت إليه، وتداولتها صفحات ومواقع اجتماعية، يقول الأستاذ أحمد التوفيق محذرا “الطريقة اليودشيشية” أن يصيبها ما أصاب زاوية وطريقة “مولاي بوعزة” (أبي يعزى يلنور/ ت: 1199م): “إِنَّ انْدِثَارَ الطُّرُقِ الصُّوفِيَّةِ بِالنِّزَاعِ بَيْنَ أَوْلَادِ الشُّيُوخِ وَتَحَزُّبِ الْفُقَرَاءِ حَوْلَهُمْ لَيْسَ أَمْرًا جَدِيدًا، بَلْ هُوَ ظَاهِرَةٌ تَكَرَّرَتْ فِي التَّارِيخِ. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ نَذْكُرُ الشِّقَاقَ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ أَوْلَادِ مُولَاَي بُوعَزَّةَ وَأَحْفَادِهِمْ، وَهُوَ شِقَاقٌ دَامَ قُرُونًا، وَكَانَ الصَّالِحُونَ يَتَدَخَّلُونَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بَيْنَهُمْ”..

تعود الرسالة إلى سنة 2022، وقد سطرها أحمد التوفيق بصفته مريدا لا وزيرا، وقبل أن يقع الخلاف الذي تعرفه الزاوية البودشيشية اليوم؛ لكنها دالة ولا تخلو من إشارات، يفهمها من يفهمها ويفهم حدود التماس بين السلطة والتصوف، ويعرف حقيقتها من يعرف موقعنا الثقافي والنظري في المجتمعات والأمم اليوم.

ليس هذا موضوعَ هذه المقالة، وإنما الوقوف باختصار وإشارات وتنبيهات عند تفرق “سرّ” مولاي بوعزة بين “ورثته الطينيين” و”ورثته الروحيين”..

وقد كان للأستاذ التوفيق حظ من الاهتمام بمناقب الولي مولاي بوعزة، وبالتالي بسيرته وحقيقة طريقته ومصيرها.. ولا أدل على ذلك من مقاله “التاريخ وأدب المناقب من خلال مناقب أبي يعزى”، وتحقيقه لكتابين هما: “دعامة اليقين في زعامة المتقين/ مناقب الشيخ أبي يعزى” لمؤلفه أبي العباس العزفي، و”التشوف إلى رجال التصوف” لمؤلفه أبي يعقوب يوسف بن يحيى التادلي المعروف بـ”ابن الزيات”.

وإذا كان كتاب “التشوف” لا يتناول مناقب وكرامات الولي أبي يعزى إلا ضمن مناقبَ أخرى لرجالٍ آخرين، فإن كتاب “الدعامة” يختص بها أساسا.. وإذا كان البحث والاستقصاء والمعرفة بالموضوع من شروط التحقيق، فلا بد أن يكون الأستاذ التوفيق قد أحاط بنشأة طريقة الولي أبي يعزى وحقيقتها وتحولاتها إلى أن تفككت بين “ورثة روحيين” لا يكاد يعرفهم أحد “وورثة طينيين” يطلون بين الفينة والأخرى من شقوق التاريخ لإثبات بقاء ثانوي ينتظر ارتفاعه التاريخي.

وإذا كان بعض “الورثة الروحيين”، أمثال الشيخ علي بن مبارك (تلميذ مباشر) والولي أبي مدين الغوث (تلميذ غير مباشر)، قد ظفروا بـ”إرثه الروحي والسلوكي والمعنوي”، فإن “ورثته الطينيين” قد “ظفروا” بالتنازع على الموارد المالية والنفوذ في القبائل والقرب من المخزن، كما هو الشأن بعد وفاة مؤسس أو شيخ كل زاوية كبرى في المغرب..

ولنا في الزاوية الدلائية والزاوية الوزانية نموذج لذلك، إذ ضعفتا بعد قوة وشهرة بسبب تنازع الأبناء والأحفاد على الزعامة والهبات..

“لا سرّ” في متاع الدنيا، بل هو ظاهر لكل أحد سرعان ما ينشب حوله النزاع.. “السرّ” في القدرات التي تجعل المرء ينأى بنفسه عن النزاع حول “فُتات الديكة” كما عبر مفكر مصري معروف.. سرّ الولي أبي يعزى في مناقبه، في سلوك ورثه عن شيوخه فزهد وابتعد حتى غدا له عيش غير عيش بني قومه، مكتفيا بخشاش الأرض ونباتها (اللبلاب/ الدفلة) يسميه “طعام الكون” (كما ورد في “مناقب أبي يعزى” وكما يذكر الأستاذ التوفيق في مقاله المذكور)..

وهذا سلوك مشرقي فقده “السالكون المتصدّرون” اليوم، والحال أننا نطلبه أكثر مما نطلب غيره في عالم تستعر فيه نار الشهوات، وتفقد فيه “القدوة الدينية” “براءتها الأصلية”.

“السّر” في الطريق الذي ينقلنا من “عالم التعلق الهستيري بالمِلكيات” إلى “عالم الزهد فيها أو تخفيف تأثيرها على الأقل”..

في هذا يكمن “السر”، لا في جعله مِلكية يتنازع حولها الوارثون.. فإذا ارتفع (هذا “السرّ”) فُسِح المجال لـ”أسرار” أخرى، بعضها في نفوس البشر وما تستبطنه من تعلق طارئ (تاريخي) بالمِلْكيات، وبعضها الآخر في الشرط التاريخي للطريقة وعلاقتها بالأساسي والجوهري في هذا الشرط..

هل لها دور منتظَر؟ هل لها امتداد تجاوز حدود المعتاد؟ هل تحتاج إلى حاضنة جديدة لتربية الشيوخ؟ هل بلغت نهاية دورتها في انتقال السر داخل نفس الحاضنة السلوكية-العائلية؟

إذا ارتفع “السرّ الحقيقي”، لم يبق أمام الطريق إلا “تنازع في النفوس والمِلكيات” و”قابلية للتصويب التاريخي والسياسي”.