ارام كيوان
نقاش هادئ مع رائد صلاح: الصحوة من القطبية إلى الجولانية.
كتب السيد رائد صلاح مقالًا بعنوان “تمائم الطائفية” في موقع “موطني 48” فيه تطرق إلى عدة أمور، شيء منها ليس بجديد سوى المستجد في مسيرة الصحوة، أي ما أسماه “حكومة الرئيس أحمد الشرع”. في هذه الأسطر سنناقش ما أمكن من الأفكار الواردة في المقال المذكور.
المسألة الأولى التي يتطرق إليها المقال هي إعادة تفسير النصوص وفق الحاجة، إذ يورد السيد رائد صلاح مقولة لطرابيشي نقلًا عن مروان الدويري مفادها أن “الحداثة تقتضي إعادة تفسير النصوص وفق الحاجة” ويعيب السيد رائد صلاح هذا التوجه، إذ يعتبره “محاولة لإفراغ النصوص من محتواها الشرعي”.
أول سبع أو ثمانية فقرات من المقال كلها استهزاء بمن “يحسبون أنفسهم مفكرين يحيطون بكل العلوم ويفهمون في كل شيء” وانتفاض ضد إمكانية تفسير النصوص لمن “يزاحمون الإمام مالك.” وحتى من يزاحم مفكري الصحوة الذين يورد أسماءهم. هذا التوجه بطبيعة الحال هو معارضة لمن يحاول مساءلة الاحتكار الصحوي لتفسير الإسلام كما سنرى.
بصفة عامة لا يوجد عصر أو زمان منذ ظهور الإسلام إلى اليوم، لم يتم فيه إعادة تأويل وتفسير النصوص بما تقتضيه الفترة الزمنية وروح العصر، ومن الطبيعي أن تتنافس التيارات المختلفة على احتكار التفسير، وبطبيعة الحال الصحوة هي أحدث مفسري الإسلام، فقد قامت الصحوة بإعادة تفسير الإسلام بما يتلاءم مع صراعات العالم الحديث وتحديدًا صراعهم مع الناصرية ومن ثم كل الحضارة الغربية -رأسمالية واشتراكية- في فترة التضييق الناصري عليهم.
قام سيد قطب بإعادة تفسير السيرة النبوية بشقيها المدني والمكي، ليصل إلى نتيجة “الخطة الإلهية الأصلية” التي تحققها “العصبة المؤمنة” وتنهي “الحكم الجاهلي”، وعن هذا يقول قطب:
“الإسلام هو الانخلاع عن المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه، وقيادته وسلطانه وشرائعه، والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المؤمنة التي تريد أن تحقق الإسلام في أرض الواقع”. (سيد قطب، الظلال المجلد 3 ص1503)
كما أنه من الغريب هذا الاستهزاء بمفكرين مثل صادق العظم ونجيب محفوظ بدعوى أنهم تحدثوا في غير علومهم، فإذا مددنا “مسطرة العلم” هذه على طول الخط وأوصلناها إلى الصحوة، فهل هذا يعني أن الصحوة التي تريد أسلمة كل شيء هم علماء في كل شيء؟ ولنزد من الشعر بيتًا -بمعايير المحصلات العلمية- نحن لا نعلم ما هي المحصلات العلمية والشهادات لمن فرضتموه مفتيًا علينا، أي مشهور فواز، ونحن لا نعلم من عينه مفتيًا من أساسه.
وحتى يكون واضحًا ما نقصده ب”الأسلمة”، في كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” التي سبقها “رسائل النور” لحسن البنا، إذ يطالب البنا وقطب على فرض زي واحد “إسلامي” على كل المجتمع في مناحي الحياة وحتى الفلسفات العربية الإسلامية الوسيطة كثيرًا ما اعتبروها “أثرًا يونانيًا”، فما نقصده بالأسلمة هو تصورات القطبية والصحوة للإسلام وتصديرها بأنها الإسلام والتاريخ الإسلامي.
ختامًا في موضوع “إعادة التأويل” وكونه شيئًا طبيعيًا في كل زمان ومكان، عندما قام الإخواني السوري بإصدار كتابه “اشتراكية الإسلام” ألا يعتبر هذا إعادة تأويل وفق الحاجة؟
في الجزء الثاني من المقال يقوم السيد رائد صلاح بمهاجمة عزمي بشارة ويشرع بالحديث عن “الطائفية” و”حكومة الرئيس الشرع”؛ أولًا أنا أحسدك أنك تفهم ما الذي يريده عزمي بشارة، أنا عندما أقرأ أو أسمع عزمي أرى شخصًا لديه مراكمة معرفية كبيرة جدًا ولكنني -باستثناء الألفاظ العامة عن الديمقراطية- لا أفهم إلى أين يريد أن يصل، إذا أراد أن يصل إلى مكان ما من أساسه.
أما بشأن الطائفية، فللمفارقة العجيبة أنا أتفق -من حيث الأصل فقط- أن مجموعة الأكثرية، أي السنة، لم يكونوا طائفة بحكم كونهم أغلبيهم منذ قرون، فقط “الأقليات” من تشكل حالة طائفية بغرض الحماية والحفاظ على الوجود، ولكن يُسأل السؤال عن الفيل في الغرفة: من الّذي طيَّفَ أهل السنة؟
والجواب هو: الإسلام السياسي حصرًا، وعلى نحو سنشرحه من المصطلحات المركزية في فكر سيد قطب هي: الحاكمية، الخلوة الشعورية، فقه الحركة، العصبة المؤمنة، الحياة الجندية المسلمة. وكلها تكمل بعضها بعضًا، تطييف أهل السنة بدأ بإقناعهم أن هناك ماضٍ عليهم استعادته لا البناء عليه، وتم هذا عبر تأجيج خطاب ديني عن مظلومية أهل السنة، فيكون الحل بالنسبة للمسلم (السني في هذه الحالة) هو أن يختلي شعوريًا عن المجتمع “الجاهلي المعاصر” ويعيش حياة مسلمة “جندية” حتى يحقق دولة الإسلام، وهي دولة الإخوان في هذه الحالة؛ هذا الوعي الصحوي هو تحديدًا ما حول أهل السنة إلى “طائفة”.
وعي الطائفة هذا يكون حاضرًا حتى في المجتمعات السنية ذاتها التي لا يوجد فيها “أقليات” تذكر، عندما “يختلي” الإخوان شعوريًا فإنهم يعيشون حياتهم “النقية” في عزلة عن المجتمع وكأنهم طائفة مستقلة عنه، ويريدون جلب “الخير” إليه.
وبالنسبة لتعريف الطائفية، سأورد تعريفًا جيدًا بعض الشيء لصديقي الراحل سلامة كيلة:
“الطائفية هل كل انغلاق ديني أو طائفي على أساس معتقدات موروثة ضد الآخر المختلف. يعني تحويل الاختلاف إلى تناقض. ولا شك في أن الاختلاف هو نتاج تناقض قديم، لكن ذاك التناقض كان له أسسه الاقتصادية والأيديولوجية، وبالتالي كان تناقضاً طبقياً سياسياً وأيديولوجياً. لكنه يتحوّل الآن إلى تناقض ماهوي لا علاقة له بالأيديولوجيا أو بالطبقات”.
بالنسبة لتطبيق الشريعة، يقول السيد رائد أن عزمي وغيره لا يملكون الجرأة ليقولوا صراحة أنهم ضد تحكيم الشريعة وعودة الخلافة، بطبيعة الحال أن تكون هذه حجتك ضد أحدهم هي نقد دونكيشوتي، ولكن إذا كانت هذه المشكلة فأنا أقول بصراحة أنا مع دولة علمانية ذات أفق اشتراكي. ولكنني كفرد بالطبع لا أعبر عن كل الناس، إذا ما جبت في شوارع العالم العربي فربما يمجدون الماضي حد التأليه والتنزيه المطلق ويقولون لك ببراءة وبساطة “نريد أن نكون عظماء مجددًا كما في ماضينا” ولكن إذا قلت لهم أن جماعة الإخوان هي من ستحكمهم باسم الماضي فإنك أقلها ستجد معارضة كبيرة جدًا.
أما لماذا هذه المعارضة، فلأن “تطبيق الشريعة” و”استعادة الخلافة” هو في النهاية يعني سلطة الصحوة وجماعات الإسلام السياسي، كما يشرح قطب: “فلا يكفي أن يتخذ البشر شرائع تشبه شريعة الله، أو حتى شريعة الله بنصها إذا نسبوها لأنفسهم” (الظلال مجلد 2 ص828) ويضيف: “فالمهم هو السلطان الذي ترتكز علبه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة” (نفس المصدر ص868). هكذا فإن ما تقوله عن “تحكيم الشريعة واستعادة الخلافة” يعني “سلطانكم في التحليل الأخير، وبحكم معرفتنا بتاريخ وتركيبة جماعات الإسلام السياسي، فإنهم لا يصلحون حتى لإدارة دكان.
وبالمختصر في هذا الوارد فإن الصحوة هي ابنة الدولة الحديثة وعدوتها في نفس الوقت، ومحاولاتها وأقوالها عن “استعادة الخلافة” هي في التحليل الأخير توق للاستيلاء على الدولة الحديثة وتحويلها إلى دولة دعوية.
في الفقرات الأخيرة يتحدث السيد رائد صلاح عن “القومية العمياء” التي تريد أن تقطع الطريق أمام عودة الخلافة وعن “الحركة الصلبية الغربية والصهيونية” وهذه بالطبع مصطلحات يتم اجترارها من كتابات قطب، قطب كان يرى في القومية العربية “مؤامرة صليبية”، وهذا على نحو ما سنرى فيه جذور الميل التطبيعي للجولاني.
ولأن ما أراد أن يقوله السيد رائد عن موضوع القومية يختصر بأنه يراها تهدف لقطع الطريق أمام الخلافة الإسلامية، فلن نخوض في نقاش مستفيض الادعاء اللا-تاريخي المشهور للإسلاميين عن “إشاعة الاستعمار للقومية”، ولكن كعادة طرح الإسلام السياسي، فهذا الطرح هو اختزال مخل لطبيعة الصراعات؛ صراع “تحكيم الشريعة” من عدمه هو صراح ابن الحداثة، وتحديدًا بين الفقهاء والدولة الحديثة بمعنى شرحناه في مقال سابق وليس صراعًا ماضويًا بين “أعداء الدين وأنصاره” كما يحاول أبناء الصحوة تصوير الموضوع، ولكن حتى هذا الصراع قبل الصحوة لم يكن بهذه الحدة، الإسلاميون أخذوا هذا الصراع إلى أبعد مدى، ولو كان هناك متسع لفصلت فيما أقصد ولكن هذا ليس الموضوع الأساسي.
ومما تجدر الإشارة إليه أن “استعادة الخلافة” في أدبيات الإسلاميين تقتصر على أول ثلاثين سنة فقط من عمر الإمبراطورية، أي حقبة الخلفاء الأربعة، مصحوبة بتحفظ ينحو إلى السلبية في موقف سيد قطب من حقبة الخليفة الثالث عثمان بن عفان، حتى أنه وصف التمرد عليه ب”فورة لا تخلو من روح الإسلام” وللاستزادة بموقف سيد قطب عن عثمان عليكم بفصل “من الواقع التاريخي في الإسلام” في كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” والذي على حد علمنا لم يغيره في كل الطبعات الستة للكتاب في حياته.
القطبية أدانت التاريخ الإسلامي كله بصفته “مُلك عضوض” ابتعد عن “روح الإسلام” منذ تمكن “العصبة الأموية” مكان “العصبة المؤمنة”، فحتى في مجادلته شديدة اللهجة مع محمد حسنين هيكل، والتي كان موضوعها هو الخليفة عمر بن الخطب، كان يقول سيد قطب “مثل هذه السلوكيات يفعلها ملوك بنو أمية وبنو العباس وليس عمر”، وبوضوح يقول قطب:
“فلما جاءت الأمويون، وصارت الخلافة الإسلامية ملكًا عضوضًا في بني أمية، لم يكن ذلك من وحي الإسلام، إنما كان من وحي الجاهلية الذي أطفأ إشراقة روح الإسلام”.(العدالة الاجتماعية ص154).
بهذا التأويل للتاريخ تضرب الصحوة بكل التاريخ عرض الحائط، وتعتبر نفسها “العصبة المؤمنة” التي ستصحح التاريخ برمته، وإنكم لن تجدوا مثالًا واحدًا في كل التاريخ العربي الإسلامي يشبه الدولة الصحوية القطبية “المنشودة” التي نادى بها قطب، والتي تُزين اليوم بعبارات “استعادة الخلافة”، وأقرب مثال لهذه الدولة الدعوية المنشودة هو إيطاليا الفاشية التي كان “المعلم الأول” حسن البنا معجبًا بقائدها “السنيور” موسوليني كما كان يصفه.
وأخيرًا، بالنسبة للجولاني أو كما يسميه المقال الذي نناقشه “حكومة الرئيس أحمد الشرع” فالسيد رائد يصلح يعد أنه “سينتقده” عندما يراه مخطئًا، وفقط للتذكير حتى تاريخ كتابة المقال “أنجز” الجولاني مجزرتين على أساس طائفي، ودستور مهزلة وجيش عبارة عن تجمع ميليشياوي، وبالخلاصة تمكن في سبعة أشهر من تفتيت سوريا اجتماعيًا وإسقاط إمكانية التعايش حتى، فضلًا عن المواطنة والدولة الحديثة، واليوم بات يخشى “أبناء الأقليات” حتى من الخروج من مناطقهم، والدولة التي ينشئها هي تجمع لمجموعات ميليشياوية تحت راية العقيدة على نحو يشبه ما شرحه ابن خلدون في مقدمته إلى حد كبير.
ربما يرى السيد رائد في كل هذا تفاهات لا تستحق “النقد” نظرًا لأنها تخدم الهدف الأسمى “عودة الخلافة”، والله المستعان.
وفي سياق يهمنا كفلسطينيين الجولاني يهرول للتطبيع بلقاءات مفضوحة مع مسؤولين إسرائيليين عبر قنوات متعددة، وفي “تأويلي” للقطبية فرغم العداء الأيدولوجي للصهيونية إلا أن مسوغات التطبيع نجدها في كتابات الصحوة وتفسيراتها لأسباب الهزيمة، فقطب يشرح أسباب هزائمنا بأن “الأمة لم يأتها الهوان… إلا بعد تمزقها، على أساس ملك بيوت {الأنظمة الملكية- آرام كيوان}، أو على أساس قوميات، إلا أن تتوب إلى دينها ورايته الواحدة” (الظلال مجلد 2 ص1736) وأن اليه..ود لم يتمكنوا من الاستيلاء على فلسطين إلا “لأن الناس لم يعد لهم دين ولم يعودوا مسلمين” (الظلال مجلد 3 ص1375).
مثل هذه التعليلات يمكن أن تدرج “أسلمة المسلمين” كأولوية على الصراع مع إسرائيل، ويتم إيجاد تخريجة لها ضمن “فقه الأولويات”، إذا لم يوجد شيء لست مطلعًا عليه قدم تم تخريجه بالفعل.
ألمس شدة كشدة الأيام الخوالي في تنظيرات الصحوة اتجاه كل آخر، بعد أن خفتت لبضع سنوات، وفي تقديرنا فإن الصحوة اليوم تلتمس أمرين: أولهمت تآكل احتكارها للخطاب الديني، وثانيهما إمكانية العودة بالصيغة الفجة القديمة مع صعود الجولاني.
تشكل حركة إصلاح ديني جديدة تبعث التراث الذي تكرهه الصحوة سيكون أفضل رد فعل تقدمي على محاولة استعادة الهيمنة.
قال مهدي عامل “مشكلتنا ليست في ماضينا بل في أن ماضينا يعيش فينا” ولكنه نسي أن يقول أن ماضينا يعيش فينا بما نسقطه عليه من شهوة السلطة وإحباط وغضب وآمال في حاضرنا.
ملاحظة: الصورة تركيبية ومعدلة رقميا.