الدكتور محمد إكيج
لقد خصَّ الله تعالى المسلمين بيوم عظيم من أيامه جل وعلا هو يوم الجمعة، وجعله عيدا أسبوعيا أمروا بالسعي إليه وعدم الانشغال عنه بمشاغل كافة أصناف المعاملات، ولو كانت مباحة، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة:9)؛ فيه يلتئمون للصلاة وذكر الله، وسماع خطبة تعلمهم فرائض الدين وواجباته، وتذكرهم بمناسباتهم وأيامهم العظيمة؛ شَحْذًا للهِمَم، وإيقاظا للعزائم، وتنبيها من الغفلة، وتثبيتًا لهم جميعًا على تعظيم شعائر الله {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32)؛ فكم من خُطْبةٍ نبهت الناس إلى عقائد منحرفة ضالة أو مضلّة، وكم من خُطْبةٍ أحدثت تحولًا إيجابيا في عادات الناس وتصوراتهم، وكم من خُطْبةٍ فتحت باب الأمل والتوبة لدى بعض القانطين؛ وكم من خُطْبةٍ أطفأت ثائِرَةَ فِتْنة، وكم من خُطْبةٍ فَضَحَتْ مسارات الفساد والمفسدين، وكم من خُطْبةٍ أَرْشَدت وثَبَّتَتْ عامة المسلمين على الطريق القويم…
فالخطيب بهذا المعنى يعيش في قلب مجتمعه، ويتفاعل مع محيطه، ويساهم إيجابا في بناء وطنه دينيا وتربويا واجتماعيا وسياسيا، وبذلك فهو منخرط كامل الانخراط في الحياة العامة بكل أبعادها، وله تأثير قوي في توجيهها نحو الأفضل وفق أحكام الدين الإسلامي الحنيف التي تحث المؤمن – أنَّى كان موقعه – على المُدافعة الإيجابية مع قضايا المجتمع، ليتحقق بمعنى الخيرية الزائدة التي أكد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهِمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهِمْ” (رواه ابن ماجة) ، وفي رواية أخرى:”الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ” (رواه الترمذي)، بل وللخطيب أكثر من هذا شرف النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهمة البلاغ المبين عنه من خلال منبر الجمعة، وتلك فضيلة جليلة – تُشعر الخطيب ولاشك – بجلال المسؤولية الدينية والمجتمعية المناطة به.
وحيث إن تخليق الحياة العامة أصبح هاجسا مجتمعيا، وهمّا مؤسساتيا دوليا ووطنيا، من خلال انخراط العديد من المؤسسات الدولية والوطنية في وضع برامج واستراتيجيات وتشريعات قانونية لتقوية مناعة المرافق العامة ضد مظاهر الانحراف والفساد التي تسيء إليها، أو تحول دون القيام بواجباتها المنوطة بها وفق ما هو محدد لها من أنظمة وأخلاقيات؛ فإن مِنْبر الجمعة يفترض فيه أن يُسايِر هذه الديناميكية المجتمعية، بل وأن ينخرط فيها بقوة، لما لخِطابِه من تأثير قوي في صياغة سلوك المواطن المسلم وتقويمه فرديا وجماعيا.
وحتى لا يتم حَصْر الحياة العامة في مفهوم ضيق يتعلق بتدبير الإدارة العامة، فإن موضوع الكتاب يوسع المفهوم ليمتد إلى كافة المجالات التي يعيش فيها المواطن، سواء تعلقت بسلوكه اليومي في الفضاءات العامة أو الخاصة، أو بعلاقاته التربوية والاجتماعية مع الآخرين، أو بكيفية تدبير المال العام، أو بممارسة واجباته الوظيفية والمهنية، أو المطالبة بحقوقه الشخصية، أو بغيرها من القضايا التي تحتاج إلى قوانين وتشريعات ناظمة، ولكنها تحتاج أيضا إلى كثير من الأخلاقيات الراقية والممارسات الإنسانية النبيلة.
وبغية تمكين السادة الخطباء بهذا البلد الطيب من خطب منبرية تتصدى لقضايا الحياة العامة، وانطلاقا من تجربة عملية فوق المنبر تزيد على 15 سنة، فإني استخرت الله تعالى في إخراج هذا الكتاب، بعد مشاورة أهل الفضل والسبق من خطباء الجمعة بمدينة القنيطرة، وجعلته تحت عنوان: “خطبة الجمعة وتخليق الحياة العامة: ضوابط ونماذج”، ضمنته أربعة مباحث: تناولت في المبحث الأول، إجمالا أهمية خطبة الجمعة ومقاصدها الشرعية والاجتماعية، أما المبحث الثاني، فركزت فيه الحديث عن مفهوم تخليق الحياة العامة وجهود المغرب في ذلك، بينما خصصت المبحث الثالث لبيان جملة من الضوابط التي تُعين خطيب الجمعة في كيفية التصدي لقضايا الحياة العامة، أما المبحث الأخير فخصصته لنماذج من الخطب ذات الصلة بموضوع الكتاب. ويمكن تصنيف هذه الخطب إلى عدة مجموعات، وذلك كالآتي:
أ -خطب تتعلق بتخليق سلوك المواطن المسلم تجاه القطاعات العامة والخاصة، ومن موضوعاتها: النظافة مسؤولية الجميع، والمحافظة على الماء، والفساد والإفساد في الأرض، وآفة حوادث السير.
ب -خطب تتعلق بتخليق سلوكيات المواطنين والمواطنات تجاه المال العام والخاص، وقد تناولنا فيها قضايا حساسة مثل: المحافظة على المال العام، والرشوة هلاك للإنسان وخراب للعمران، وظاهرة الغش في المعاملات والامتحانات.
ج – خطب ترمي إلى تخليق العلاقات الإنسانية والاجتماعية، ومن الموضوعات التي تحيل عليها: حفظ الكرامة الإنسانية، ومنهج التعامل مع المخالف (في جزأين)، والحرية الشخصية بين الانضباط والتسيب.
د – خطب تستهدف تخليق الممارسات المهنية والوظيفية والحقوقية، ويندرج تحتها قضايا مهمة من قبيل: المسلم بين الحق والواجب، والعدل في القضاء والتقاضي، وتوجيهات للموظفين.
ه – خطب تكشف جوانب التخليق المضيئة التي يمكن استنباطها من شعائرنا التعبدية وقيمنا الإسلامية السمحة، وقد تناولناها في موضوعات: الصلاة وأثرها في أخلاقنا العامة، والتحذير من إضاعة الأمانة، وشهادة الزور: مظاهرها ومخاطرها.
و – خطب ترمي إلى تخليق سلوك المواطن المغربي المسلم تجاه بلده وقيمه الوطنية النبيلة، ويندرج تحتها موضوعات من مثل: المواطنة الصالحة، ودروس الوحدة في المسيرة الخضراء، ومقومات الصلاح والإصلاح.
فالله أسأل أن ينفع بهذا الكتاب وأن يجعله وسيلة هادية إلى الرشد ومسددة لكل خطيب ومعينة على تحقيق المقصود وإدراك المرتجى وأن يجعله من العلم النافع الذي ينفعنا يوم لقائه سبحانه وتعالى إنه نعم المولى والهادي إلى سواء السبيل.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13241