محمد الغيث ماء العينين
باحث، نائب رئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات
ملخص:
يتناول هذا المقال موضوع التمثيلية في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية، من زاوية تحليلية تستحضر التحولات العميقة التي عرفها النسق التمثيلي بالمنطقة، منذ مرحلة البيعة التقليدية إلى أفق المواطنة الدستورية. ولا يكتفي النص بجرد تاريخي أو وصفي، بل يقترح قراءة نسقية للهندسة المؤسساتية التي تؤطر علاقة الدولة بالمجتمع المحلي، في سياق تتقاطع فيه الخصوصيات الثقافية مع رهانات الوحدة الوطنية والتدبير الديمقراطي.
كما يسلّط المقال الضوء على التداخل القائم بين أشكال التمثيل التقليدية والحديثة، ويُقارب موقع المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية في هذا النسق، من خلال تقييم هادئ لأدواره، وتفكير مفتوح في سبل تطويرها، بما ينسجم مع روح الجهوية المتقدمة ومضامين مشروع الحكم الذاتي.
وبذلك، يُشكّل المقال دعوة للتفكير الجماعي في سؤال التمثيل، لا كقضية إدارية أو شكلية، بل كبُعد مركزي في بناء علاقة صحية بين الدولة والمجتمع، تحترم الخصوصية وتُعزّز المشاركة، في أفق إعادة تعريف التمثيلية على أسس المواطنة الفعالة والديمقراطية التشاركية.
مقدمة:
تُعد التمثيلية السياسية في الأقاليم الجنوبية للمغرب إحدى الزوايا الجوهرية لفهم الديناميات المعقدة التي تربط الدولة بالمجتمع في هذه الربوع. فعلى امتداد ما يقارب نصف قرن، منذ استرجاع الصحراء إلى السيادة الوطنية سنة 1975، تشكلت في المنطقة هندسة تمثيلية متعددة الأوجه، جمعت بين روافد تاريخية راسخة، ومقاربات مؤسساتية حديثة، ومستجدات ديموغرافية وجيوسياسية عميقة. هذه الهندسة، وإن كانت تعكس خصوصية تدبير هذا المجال، فإنها تثير اليوم تساؤلات حاسمة حول مدى انسجامها، فعاليتها، وقدرتها على استيعاب التحولات المستمرة، لا سيما في ظل مشروع الجهوية المتقدمة ومبادرة الحكم الذاتي، وما رافقهما من تطورات دولية ودستورية.
في هذه المقالة، لن ننطلق من منطق المرافعة لإثبات السيادة المغربية على الصحراء، بل من تحليل موضوعي مبني على أن الأقاليم الجنوبية جزء لا يتجزأ من التراب الوطني، كما هو مُكرّس دستوريًا ومؤسساتيًا. ضمن هذا الإطار، تُطرح إشكالية التمثيلية لا كقضية تنظيمية بحتة، بل كبنية رمزية تعكس تطور علاقة الدولة بالمجتمع المحلي، من البيعة التقليدية إلى المواطنة الدستورية. فالتمثيلية في هذا السياق ليست مجرد تقنية انتخابية، بل نظام رمزي ومؤسساتي يعكس علاقة الجماعة بالمركز، ويُترجم تطور أنماط الشرعية من الولاء التقليدي إلى المشاركة المواطِنة، وهي كذلك نتاج تفاعل مستمر بين البنية السوسيو-قبلية، والنصوص الدستورية، والمشهد السياسي، والسياق الجهوي والدولي.
نرى أن هذه المقاربة هي الأنسب لتسليط الضوء على الأنماط المختلفة للتمثيل، وسياقات نشأتها، ووظائفها، وحدود فعاليتها، واستشراف إمكانيات إعادة ضبطها بما يحقق الانسجام بين الشرعية والمشروعية، وبين الرمز والمؤسسة، وبين التعدد والوحدة الوطنية.
أولًا: تحقيب تاريخي لتطور علاقة الساكنة بالتمثيل
إن فهم أبعاد التمثيلية في الأقاليم الجنوبية يقتضي العودة إلى مسارها التاريخي الطويل، الذي بيّن أن “الساكنة الصحراوية” كانت دائمًا طرفًا فاعلاً في علاقتها بالسلطة المركزية، وإن اختلفت أشكال هذا التفاعل وأدواته التمثيلية عبر المراحل المختلفة.
- ما قبل 1975: الساكنة بوصفها جماعة مبايعة
في مرافعة المغرب أمام محكمة العدل الدولية سنة 1975، لم يركز المغرب على إثبات السيادة الترابية فحسب، بل طرح سؤالًا استراتيجيًا ومفصليًا: هل كانت الصحراء الغربية أرضًا خلاء؟ وإن لم تكن، فهل كانت هناك روابط قانونية بين ساكنتها وسلاطين المغرب؟ لقد كانت الإجابة المغربية حاسمة، حيث استندت إلى وثائق البيعة والظهائر السلطانية والمراسلات الإدارية التي تربط شيوخ القبائل الصحراوية بالمخزن الشريف. وهكذا، تم اعتبار الساكنة الصحراوية جماعة سياسية ذات هوية سيادية، تجسدها البيعة بوصفها عقد ولاء سياسي، وليس فقط مجرد جماعة ترابية. كان الشيوخ في هذا السياق هم ممثلّو هذه العلاقة، لا باعتبارهم قادة محليين فحسب، بل كوسطاء شرعيين بين القبائل والعرش. الوثائق المقدمة لمحكمة لاهاي، بما فيها ظهائر تعيين شيوخ القبائل ومراسلات السلطان إلى الشيخ ماء العينين، تُثبت هذا النمط التمثيلي القائم على الشرعية التاريخية لا الانتخابية، وتؤكد على عمق العلاقة بين الساكنة والدولة.
- 1975–1991: التمثيل في مرحلة بناء الاندماج المؤسساتي
بعد استرجاع الصحراء سنة 1975، شرع المغرب في بناء تمثيلية مزدوجة ومتوازية، عكست رغبته في دمج الساكنة تدريجيًا داخل النسق الدستوري والسياسي الوطني، وتقديم واجهة تمثيلية تعبر عن وجهة نظرها:
أ. التمثيل عبر المشاركة الانتخابية: انخرطت ساكنة الأقاليم الجنوبية، منذ أوائل الثمانينيات، في جميع الاستحقاقات الانتخابية الوطنية، سواء الجماعية أو التشريعية، بنفس إيقاع باقي جهات المملكة. هذه المشاركة الدائمة، والتي كانت نسبها دائمًا من بين الأعلى وطنيًا، أنتجت نخبًا محلية منتخبة ساهمت في تأطير التعبئة السياسية، ونقل مطالب الساكنة، ودمجها في دوائر القرار المركزي، مما أفرز تمثيلية ديمقراطية متصاعدة من الناحية الشكلية والوظيفية.
ب. تأسيس المجلس الملكي الاستشاري لشؤون الصحراوية (الكوركاس) 1981: في أغسطس 1981، أسّس جلالة الملك الراحل الحسن الثاني المجلس الملكي الاستشاري لشؤون الصحراوية (الكوركاس). هذه الهيئة الاستشارية ضمت 85 عضوًا تم اختيارهم من شيوخ القبائل، الأعيان، والمنتخبين المحليين. أُنيط بالمجلس دور مزدوج: داخليًا، الدفاع عن مغربية الصحراء، والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وصيانة الخصوصيات الثقافية؛ وخارجيًا، تأطير التعبئة حول القضية الوطنية والتعبير عن موقف الساكنة في المحافل الوطنية والدولية من موقع استشاري. ورغم طابعه التعييني، اعتُبر هذا المجلس خطوة نحو إشراك الساكنة في النقاش السياسي حول مستقبل الجهة. لكن مع بدء تنفيذ مخطط التسوية الأممي واتفاق وقف إطلاق النار سنة 1991، جُمّد عمل المجلس في صيغته الأولى، في انتظار إعادة تكييف دوره مع المتغيرات الجديدة، وهو ما حصل لاحقًا في إعادة تأسيسه سنة 2006 بصيغته الجديدة، كما أشار الدكتور الطالبوي ماء العينين في حواره، حيث “جاء هذا الإعلان متلازما مع إنشاء المجلس في التاريخ المشار إليه أعلاه للتأكيد على أهمية الأدوار المنوطة به، بغية خلق حركية دبلوماسية ملموسة عقب الركود الذي عرفته القضية الوطنية طيلة ثلاث عقود”.
- 1991–2004: التمثيلية في زمن تحديد الهوية
مع إطلاق خطة السلام الأممية ووقف إطلاق النار سنة 1991، تحوّلت الساكنة في الصحراء إلى موضوع لفحص إداري أممي. كان الهدف هو تحديد من يحق له التصويت في الاستفتاء. في هذا السياق، عُيّنت مجموعات من “شيوخ تحديد الهوية” بظهائر ملكية، ليُدلوا برأيهم في نسب وأصول الأفراد المنتمين للقبائل الصحراوية. وبذلك، عادت القبيلة إلى الواجهة، لا كمجال اجتماعي وحسب، بل كأداة إجرائية لتثبيت الهوية السياسية. هذا التحوّل أعاد إنتاج التمثيل على أساس الانتماء القبلي والنسبي، وأضعف منطق المواطنة الجامعة. لقد كشفت هذه المرحلة عن هشاشة المعايير المستخدمة في تعريف التمثيل، وأظهرت الحاجة إلى إطار تمثيلي ديمقراطي مستقر يتجاوز منطق الانتماء القبلي، نحو المواطنة الفاعلة.
- ما بعد 2007: التمثيل كشرط في مشروع الحكم الذاتي
مع تقديم المغرب لمقترح الحكم الذاتي سنة 2007، تغيّر جوهريًا مفهوم التمثيل. لم يعد الهدف إثبات الولاء أو إثبات النسب، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من منظومة تدبير الحكم الذاتي. السؤال المحوري أضحى: من يملك الشرعية لتمثيل الساكنة بفعالية في إدارة شؤونهم الجهوية؟ لم تعد البيعة أو القبيلة كافية لوحدها، بل صارت الشرعية السياسية والمؤسساتية والديمقراطية شرطًا للمشروعية التمثيلية. وبذلك، برزت فئات جديدة في المشهد التمثيلي: رؤساء الجهات، المنتخبون، والفاعلون المدنيون، كممثلين حديثين للساكنة، توازيها مؤسسات تقليدية (مثل الكوركاس بصيغته الجديدة منذ 2006). هذا التحوّل يُعيد مركزية مفهوم “التمثيل الديمقراطي الفعّال” بدل التمثيل الرمزي أو التاريخي، خاصة بعد دستور 2011 الذي أقر الجهوية المتقدمة والدبموقراطية التشاركية كركيزتين للحكم المحلي، وكرّس دور المجتمع المدني كفاعل دستوري (الفصلان 12 و13 من الدستور).
ثانيًا: خريطة التمثيليات الحالية وتفاعلاتها
تُظهر الأقاليم الجنوبية المغربية اليوم بنية تمثيلية متعددة المستويات، تضم أنماطًا تقليدية، وأخرى مؤسساتية حديثة، وثالثة مدنية ناشئة، لكل منها سياق نشأته، مجاله القانوني، ووظيفته الرمزية أو الفعلية.
- التمثيل التقليدي: شيوخ القبائل والأعيان
أ. الشيوخ القبليون: يمثلون الامتداد التاريخي للسلطة القبلية في الصحراء، ويتمتعون بشرعية عرفية تستند إلى النسب والاعتراف الاجتماعي. رغم غياب أي تأطير قانوني رسمي، لا يزال هؤلاء الشيوخ يقومون بأدوار محورية في الوساطة وحل النزاعات وضبط المجال القبلي. نفوذهم رمزي ومرن، وتتم استشارتهم أحيانًا من قبل السلطات، خاصة في القضايا ذات البعد التعبوي أو التواصلي.
ب. شيوخ تحديد الهوية: ظهر هذا الصنف من الشيوخ في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات بموجب ظهائر ملكية فردية، في سياق الإعداد لتحديد الهوية ضمن خطة التسوية الأممية. تمحورت مهمتهم حول تأكيد الانتماء القبلي للأشخاص، لتحديد من له “حق التصويت” في استفتاء تقرير المصير. ومع تجميد هذا الخيار منذ 2007، تراجع دورهم الفعلي، واحتفظوا بوضع رمزي دون اختصاصات تنفيذية، خارج أي إطار قانوني دائم أو إدماج مؤسسي واضح. وتجد شرعيتهم التمثيلية اليوم أساسها في الظهائر الملكية، التي كرّست دورهم بوصفهم وسطاء اجتماعيين ذوي امتداد تقليدي وتاريخي، دون تعارض مع مقتضيات النظام الدستوري الحديث. بل إن قراءة موسعة للفصلين 12 و13 من الدستور، اللذين ينصان على مساهمة الجمعيات والمنظمات ومختلف الفاعلين في إطار الديمقراطية التشاركية، تُظهر أنه لا تعارض مبدئي مع إمكان إدراج هؤلاء الشيوخ والهيئات القبلية، بصفتهم “فاعلين اجتماعيين”، ضمن هذا الإطار. فالتمثيلية القبلية هنا لا تنافس المنتخبين، ولا تقوض شرعيتهم، بل تستمر كرافد مكمل ومساعد في تأمين الوساطة المجتمعية، وتعزيز الاستقرار، وتيسير العلاقة بين الدولة والمجتمع.
- المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية (الكوركاس): مؤسسة استشارية ذات شرعية خاصة
الكوركاس، الذي أشار إليه الدكتور الطالبوي زايدنا ماء العينين بكونه “هيـئة ملكية استشارية وقناة جديدة لتصريف القضايا المتعلقة بالصحراء بوسائل جديدة وآليات فاعلة”، أُنشئ سنة 1981 وأُعيد تفعيله سنة 2006 بخطاب ملكي من مدينة العيون. يضم المجلس أطيافًا متنوعة من أعيان، منتخبين، نساء، شباب، وفاعلين جمعويين. يتمتع بشرعية ملكية مباشرة، لكن صلاحياته تبقى استشارية وغير ملزمة، ولا يُعد هيئة منتخبة ولا يخضع للقوانين التنظيمية المتعلقة بالمجالس الترابية. شارك الكوركاس ممثلًا عن الصحراويين في المفاوضات غير الرسمية بمنهاست (2007–2012) ضمن الوفد المغربي الرسمي، ما منحه مكانة سياسية خاصة خلال تلك المرحلة. غير أن دوره خفّ بعد التحول نحو خيار الحكم الذاتي وتصاعد أدوار المنتخبين ورؤساء الجهات في المحافل الدولية، خاصة في اجتماعات جنيف 1 و2. وقد أكد الدكتور الطالبوي أن “تنصيب المجلس في صيغته الثانية من الأوراق التي أرادت الدبلوماسية المغربية توظيفها للتعامل مع التجاذبات المتعلقة بالصحراء بالجدية اللازمة، ولعل أهم الرسائل الكامنة وراء هذا التنصيب تتمثل في السعي إلى نزع شرعية تمثيل الصحراويين التي تستغلها جبهة البوليساريو كورقة للضغط على المغرب”.
- التمثيل الديمقراطي المؤسساتي: المجالس المنتخبة والبرلمان
أ. المجالس الترابية (الجماعات، الأقاليم، الجهات): تمثل الركيزة الأساسية للتمثيل السياسي المحلي والوطني، وتستمد مشروعيتها من الانتخابات العامة المنظمة وفقًا لأحكام دستور 2011 والقوانين التنظيمية (113.14، 112.14، 111.14). تتوفر هذه المجالس على صلاحيات واسعة في التخطيط، تدبير الشأن المحلي، وتنفيذ السياسات التنموية. بعد تفعيل ورش الجهوية المتقدمة، أصبحت الجهات الصحراوية (وخاصة العيون والداخلة) في صلب الرهان السياسي والدبلوماسي المغربي، إذ شارك رؤساؤها رسميًا في اللقاءات الأممية بجنيف سنة 2018 و2019 ضمن الوفد المغربي، مما يُكرّس تحولًا استراتيجيًا نحو اعتبارها الناطقة باسم السكان.
ب. البرلمان المغربي (مجلسا النواب والمستشارين): يستمد صلاحياته من الفصول 60–70 من الدستور. يمثل الصحراويون اليوم جزءًا فاعلًا من الغرفتين، عبر نواب ومستشارين منتخبين، يتولون التشريع والمراقبة والمشاركة في الدبلوماسية البرلمانية. يتم انتخابهم وفق القوانين الوطنية، وهو ما يمنحهم شرعية دستورية تماثل باقي ممثلي الأمة.
- التمثيل غير الرسمي/الاجتماعي: الأعيان المحليون
يمثلون شريحة من الزعامات التقليدية والاقتصادية ذات التأثير الرمزي أو القبلي. لا يخضعون لأي إطار قانوني أو تنظيمي، ولا يُنتخبون ولا يُعيّنون بظهائر. ومع ذلك، غالبًا ما يُستشارون في القضايا الحساسة، ويُدمجون في الوفود الرسمية، أو يُستدعون في اللقاءات ذات الطابع التعبوي، خصوصًا ما يتعلق بقضية الصحراء أو المناسبات الوطنية. يؤدون أدوارًا سياسية ناعمة تتراوح بين الوساطة والدبلوماسية المحلية.
- الفاعلون الجدد: المجتمع المدني، الشباب، المبادرات الاقتصادية
تُعد هذه الفئة الديناميكية من أبرز نتائج التحول الدستوري لسنة 2011. يشير الفصلان 12 و13 إلى مساهمة جمعيات المجتمع المدني في إعداد السياسات وتقييمها، وضرورة إشراكهم عبر آليات تشاور مؤسساتية. غير أن تنزيل هذه المبادئ في الصحراء لا يزال ضعيفًا، ما يجعل هؤلاء الفاعلين خارج دوائر التمثيل الرسمي رغم حيويتهم المتزايدة، خصوصًا في مجالات الثقافة والبيئة وريادة الأعمال.
ثالثًا: السياقات المتغيرة: من التعايش إلى إعادة الضبط
إن تعدد التمثيليات في الأقاليم الجنوبية ليس ظاهرة ثابتة، بل هو نتاج تفاعل مستمر مع سياقات داخلية وخارجية متغيرة، تفرض تحديات وتفتح آفاقًا جديدة.
- السياق الديموغرافي ودلالاته التمثيلية
إن فهم التمثيلية السياسية في الأقاليم الجنوبية يقتضي استحضار التحولات الديموغرافية العميقة التي عرفتها هذه الجهات خلال ما يقارب خمسة عقود من استرجاعها إلى السيادة الوطنية. فقد أدى الاستقرار السياسي والدينامية الاقتصادية وتطور البنيات التحتية إلى جذب أعداد متزايدة من المواطنين من مختلف جهات المملكة، وهو ما ساهم في نمو سكاني يتجاوز بكثير المعدلات الطبيعية المرتبطة بالتكاثر الديموغرافي المحلي. ونتيجة لذلك، أصبحت الساكنة التي لا تنتمي تاريخيًا إلى القبائل الصحراوية تشكّل الغالبية العددية في عدة مراكز حضرية ومحاور اقتصادية رئيسية داخل الأقاليم الجنوبية. هذا التحول الديموغرافي يفرض قراءة متوازنة، تراعي الخصوصيات الاجتماعية والتاريخية للساكنة الأصلية، دون إغفال الواقع الجديد الذي فرضته التحولات الاقتصادية والسكانية. ففي حين يمثّل الشيوخ الامتداد التقليدي لشرعية عرفية موثّقة بظهائر ملكية، تُعدّ الانتخابات الآلية الدستورية التي تضمن تمثيل جميع المواطنين على قدم المساواة. أما المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية (الكوركاس)، فرغم تشابهه في تركيبته مع مؤسسة الشيوخ، فإنه يضطلع بأدوار استشارية ذات طابع وطني، مرتبطة مباشرة بالمؤسسة الملكية، مما يمنحه طابعًا متميزًا عن باقي أنماط التمثيل.
- السياق الدولي: من مانهاست إلى جنيف
عرف المسار الأممي تطورًا لافتًا في السنوات الأخيرة، مع تركيز مجلس الأمن على “واقعية” و“جدية” مقترح الحكم الذاتي المغربي. وبرزت الحاجة إلى تمثيل صحراوي ذي شرعية انتخابية في المحافل الدولية، وهو ما يفسّر انتقال الوفد المغربي من تمثيل تقليدي (الكوركاس) إلى تمثيل مؤسساتي (رؤساء الجهات). هذا التحول يعكس بوضوح سعي الدولة المغربية إلى تجسيد تطلعات الحكم الذاتي عبر البنية التمثيلية المنتخبة.
- السياق الدستوري: روح دستور 2011
يشكل دستور 2011 مرجعًا مركزيًا في إعادة تأطير العلاقة بين الدولة والمجتمع، عبر تعزيز آليات الديمقراطية التشاركية. إلا أن ترجمة هذه المبادئ في الأقاليم الجنوبية ما زالت جزئية، خاصة فيما يتعلق بتمثيل الفاعلين الجدد. فالهندسة التمثيلية الحالية تظل تقليدية الطابع، تُغيب الطاقات المدنية الحديثة، وتعجز عن احتضان التعدد المجتمعي المتنامي.
- السياق التنموي: مشاريع كبرى وفاعلون جدد
شهدت الأقاليم الجنوبية طفرة تنموية ملحوظة خلال العقد الأخير، من خلال استثمارات استراتيجية في البنية التحتية، والموانئ، والطاقة المتجددة. غير أن قيادة هذه المشاريع لا تنحصر فقط في المنتخبين، بل تشمل فاعلين اقتصاديين محليين، جمعيات مهنية، ومبادرات مستقلة. وهو ما يطرح سؤال “التمثيل على أساس الكفاءة” بدلًا من الاقتصار على الانتماء أو الشرعية التاريخية.
- السياق الجيوسياسي – ما بعد الكركرات
شكل تدخل القوات المسلحة الملكية في معبر الكركرات (نوفمبر 2020) نقطة تحول مفصلية، أعادت رسم أدوار التمثيل المحلي في سياق الأمن الإقليمي والدبلوماسية الاقتصادية. باتت الأقاليم الجنوبية بوابة استراتيجية نحو إفريقيا، وفاعلًا محتملًا في المبادرات الدبلوماسية والاقتصادية جنوب-جنوب. في هذا السياق، تبرز أهمية تمثيل قادر على التعبير عن هذا الموقع الجديد، سياسيًا وتنمويًا، عبر مؤسسات فعّالة.
رابعًا: نحو تعاقد تمثيلي جديد
إن جرد مكونات التمثيل في الصحراء المغربية يُظهر تعددية واضحة، لكنها لا ترقى بعد إلى مستوى التكامل الوظيفي. فهناك تداخل بين الصلاحيات، وتوازي بين المؤسسات المنتخبة والمعينة، وتفاوت في مشروعية الأدوار. من هنا، تُطرح ضرورة إعادة التفكير في “تعاقد تمثيلي جديد”، يتأسس على:
- تشخيص مكامن الخلل والازدواجية
في التجربة المغربية، لا تُفهم الشرعية باعتبارها أحادية المصدر، بل كبنية مركبة تضم: الشرعية الدستورية (المنتخبة)، والشرعية العرفية (المتجذرة في النسيج القبلي والاجتماعي)، والشرعية الملكية (المؤسسة على إمارة المؤمنين وظهائر التعيين). ومع ذلك، فإن هذا التعدد لم يُترجم دائمًا إلى تكامل وظيفي. فنجد أحيانًا تراكبًا غير منسجم بين التمثيلات التقليدية والمؤسساتية، ووجود تمثيلات بدون مساءلة (كالأعيان والشيوخ في بعض الأدوار)، وضعف إدماج الفاعلين الجدد رغم نص الدستور الواضح. هذا الوضع يُنتج ازدواجية وظيفية قد تُضعف من فعالية الحكامة المحلية.
- مقترحات لإعادة الضبط والتأطير المؤسساتي
إن ما يبدو مطلوبًا اليوم ليس القطع مع تاريخ التمثيليات أو نفي مشروعيتها، بل إعادة تأطيرها في إطار وطني جامع، يحافظ على ما هو خصوصي من وظائف الوساطة التقليدية، ويُدرجه ضمن هندسة مؤسساتية تستند إلى مبادئ المشاركة، الكفاءة، والمساواة أمام القانون. هذا يستدعي:
* مراجعة ظهير تأسيس الكوركاس: لتحديد صلاحياته بوضوح، وشروط العضوية، ومدته، أو تحويله إلى هيئة دستورية بمهام محددة. وقد أشار الدكتور الطالبوي في حواره إلى أن الخطاب الملكي لسنة 2006 أكد على ضرورة “مراجعة نقدية عميقة” للمجلس.
* تقنين وظيفة الشيوخ: وضبط العلاقة بينهم وبين المجالس المنتخبة، بما يضمن دورهم كوسيط اجتماعي دون أن ينازعوا صلاحيات المؤسسات الديمقراطية. يمكن اعتبارهم ضمن منطق المشاركة التشاركية في القضايا الاجتماعية والثقافية.
* خلق آلية مؤسساتية لتمثيل المجتمع المدني: وإحداث مجلس جهوي تشاوري يُنتخب من قبل الهيئات المعتمدة، ويُستشار في السياسات الجهوية، مع ضمان تمثيل الفاعلين الاقتصاديين الجدد ضمن هيئات الحكامة الجهوية.
* ربط التمثيلية بالأثر: تشجيع النخب التي تُمثّل واقع التنمية والمبادرة والإبداع، لا فقط من يمثل القبيلة أو التاريخ، مما يضمن شرعية الفاعلين على أساس الكفاءة لا الانتماء فقط.
- التمثيل كرافعة للحكم الذاتي
إن مشروع الحكم الذاتي، كحل سياسي نهائي، يتطلب تمثيلية منسجمة مع منطق السيادة الشعبية والتنمية المندمجة. فكل خلل في التمثيل يُضعف شرعية هذا الخيار أمام المنتظم الدولي. هذا يتطلب تعاقدًا تمثيليًا جديدًا، يدمج التقاليد في إطار مؤسسي، ويمنح للفاعلين الجدد فضاء للمشاركة، بما ينسجم مع روح مشروع الحكم الذاتي، كحل سياسي ونهائي تحت السيادة المغربية.
خاتمة: نحو هندسة تمثيلية مندمجة ومواطَنة متوازنة
لقد أظهرت هذه المقالة أن التمثيلية السياسية في الأقاليم الجنوبية المغربية لم تكن يومًا معطًى ثابتًا، بل هي نتاج مسار تاريخي مركب، يعكس التفاعل بين الشرعية التقليدية والدستورية، وبين الديناميات السوسيو-سياسية المحلية والاختيارات الوطنية الكبرى.
من البيعة إلى الانتخاب، ومن الانتماء القبلي إلى المواطنة الدستورية، ومن وساطة الشيوخ إلى التمثيل الانتخابي، تنوعت أشكال التعبير عن العلاقة بين الدولة والمجتمع، دون أن تنشأ بالضرورة قطيعة حادة بين أنماط الشرعية، بل تطور تدريجي سمح بإدماج مكونات متباينة في منظومة واحدة، وإن بقيت الحاجة قائمة اليوم إلى تحسين التنسيق بينها.
وفي هذا السياق، تمثل الجهوية المتقدمة والديمقراطية التشاركية دعامة دستورية لحوكمة أكثر شمولًا وعدالة في التمثيل، من خلال الاعتراف بالتعددية داخل النسيج المجتمعي، وتوسيع قاعدة المشاركة في اتخاذ القرار، سياسيًا وتنمويًا. وهو ما يُحتّم الانتقال من منطق التوازنات الرمزية إلى منطق الكفاءة والمواطنة المتساوية، دون إغفال رمزية القبيلة ودورها التاريخي في إنتاج الوساطة والاستقرار.
إن نسب المشاركة العالية في الانتخابات، واستمرار الثقة في الآليات الديمقراطية من قبل ساكنة الصحراء، يفتحان أفقًا واعدًا لجعل الاستحقاقات القادمة (خاصة انتخابات 2026) لحظة نضج سياسي تترسّخ فيها تمثيلية شاملة، تُعبّر عن جميع مكونات النسيج المجتمعي، وتُعزّز من شرعية المؤسسات المنتخبة باعتبارها التعبير الأسمى عن المواطنة الكاملة. وفي هذا الإطار، يُنتظر أن تُجسّد هذه الانتخابات قطيعة هادئة مع بعض الممارسات التي ما تزال تُنزّل العملية الانتخابية منزلة الامتداد العصري للتمثيلية القبلية، أو تعتبرها شكلاً مقنّعًا منها، وهو ما لا ينسجم مع روح التعددية الدستورية، ولا مع أهداف التنمية الديمقراطية في بعدها الجهوي والوطني.
أما على مستوى التمثيليات غير المنتخبة، فالحاجة اليوم ليست إلى إلغاء المؤسسات القائمة أو التشكيك في أدوارها، بل إلى التفكير في سبل ملاءمتها مع السياق الجديد الذي فرضه التقدم الدبلوماسي المغربي، واستبعاد خيار الاستفتاء، وترسيخ مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة الوطنية كأفق وحيد واقعي للنزاع. في هذا السياق، لا يدعو المنطق المؤسساتي إلى الاستغناء عن مؤسسات مثل الكوركاس أو شيوخ القبائل، بل إلى تأهيلها ضمن إطار تشاوري شفاف، يُعيد توجيه وظائفها لتُكمل — لا أن تُزاحم — التمثيليات المنتخبة، بما يعزّز مصداقية النموذج المغربي أمام الشركاء الدوليين، ويرسّخ ثقة الساكنة في المسار الوطني.
إن التمثيلية في الصحراء المغربية ليست مجرد أداة إدارية أو مسألة تنظيمية، بل هي رهان استراتيجي يرتبط بشرعية المشروع الوطني في الأقاليم الجنوبية. والتحدي اليوم لم يعد في “من يُمثّل”، بل في “كيف يُمثّل الجميع” ضمن هندسة واحدة، متناسقة، مرنة، وعادلة. إن مستقبل التمثيل في الصحراء يمر عبر الجمع بين الشرعية التاريخية والدستورية، بين الرمزية والكفاءة، وبين وحدة السيادة وتعدد الوسائط، في أفق دولة قوية بمؤسساتها وموحدة في تنوعها.