ذ. محمد جناي*
وظيفة القضاء تعد إحدى الوظائف التقليدية الثلاث التي تقوم بها الدولة الحديثة ، بجانب الوظيفتين التشريعية والتنفيذية، ولا جدال في أن الدولة ، بوصفها التشخيص القانوني لشعب منظم تحت سلطة سياسية ، تسكن إقليما معينا ، تقوم بوظائف أساسية معينة، فهي تقوم بإصدار التشريعات المحددة لأهداف ومثل المجتمع العليا، والمبينة لحقوق الأفراد وحرياتهم وكيفية ممارستها، وهذه هي الوظيفة التشريعية والتي يقوم بها كقاعدة البرلمان، وهي تقوم ثانيا بتنفيذ القوانين وتسيير أمور الدولة ومرافقها العامة ، وهذه هي الوظيفة التنفيذية والتي تقوم بها الحكومة والأجهزة الإدارية المختلفة، وهي تقوم ثالثا بإقامة العدل بين مواطنيها، عن طريق الإعمال الفعلي لقواعد القانون وهذه هي الوظيفة القضائية والتي يقوم بها كقاعدة القضاء .
وفي نفس السياق ، لا يمكننا أن نتصور في عصرنا الحالي وجود دولة حديثة لا تتبنى مبدأ الشرعية (Principe de la légalité) الذي يمكن أن نعبر عنه بسيادة حكم القانون وبتعبير آخر إخضاع الدولة للقانون في صور نشاطها جميعها ومختلف التصرفات والأعمال التي تصدر عنها ، وهذا يعني أن الأنشطة والفعاليات كافة التي تقوم بها سلطات الدولة ومنها السلطة الإدارية يجب أن تحترم الشرعية القانونية ، كما يجب وضع نظام قضائي كفيل برقابة أعمال الإدارة ومنعها من الخروج على الحدود المرسومة لها في القواعد القانونية.
حيث يفترض هذا المبدأ أن تلتزم الإدارة في تصرفاتها جميعها الحدود المرسومة لها في مجموعة القواعد القانونية المقررة في الدولة ، وأن تمارس فاعليتها في نطاقها، وتشمل القواعد القانونية في الدولة الحديثة مجموعة من القواعد المكتوبة ( النصوص الدستورية ، القوانين الصادرة عن الهيئة التشريعية ، القرار الإداري )، وغير المكتوبة ( العرف والمبادئ القانونية العامة ).
وإذا كانت الرقابة القضائية كما أسلفنا تعني خضوع الإدارة لرقابة القضاء فيما تأتيه من أعمال وفيما تتخذه من قرارات، فقد اختلفت الدول من حيث اتباعها لأنظمة هذه الرقابة ، فقد يعهد إلى جهة القضاء العادي النظر في مختلف المنازعات والخصومات التي تكون الإدارة طرفا فيها بجانب باقي المنازعات التي تثار بين الأفراد ويطلق على هذا النظام بالقضاء الموحد وقد يعهد إلى جهة قضائية متخصصة حق النظر في المنازعات الإدارية ، فنكون بالتالي أمام قضاء مزدوج أو متخصص .
وتلجأ الإدارة العامة لممارسة نشاطها إلى أساليب متعددة ومتنوعة تجمعها عبارة أعمال الإدارة العامة ، وقد تكون هذه الأعمال ( مادية أو تصرفات قانونية) ، والتصرفات القانونية تتخذ لدى الإدارة أحد مظهرين: أعمال من جانب واحد وهي القرارات الإدارية ، وأعمال اتفاقية وهي العقود الإدارية ، وحين تجرى هذه التصرفات القانونية ، فإنها بحكم تمتعها بظاهرة السلطة الآمرة، وبحكم قيامها ومسؤولياتها عن حسن سير المرافق العامة بانتظام واطراد، تتمتع بكثير من الامتيازات والرخص القانونية التي يسمح بها القانون العام ، والتي لا مجال لها في القانون الخاص وفي العلاقات والروابط التي تقوم بين أفراد متكافئين في الصفة وفي المصلحة.
ويقصد بالنظام القضائي المزدوج، أن تقوم بالوظيفة القضائية جهتان قضائيتان ( جهة القضاء العادي وجهة القضاء الإداري) تختص إحداهما (العادي) بالفصل في المنازعات التي تنشأ بين الأفراد والإدارة وتحاكي فيها تصرفات الأفراد، والأخرى ( الإداري) ، فتختص بالفصل في المنازعات الإدارية التي تنشأ بين الجهات الإدارية أو بين الإدارة (بوصفها سلطة عامة ) والأفراد، وبمقتضى هذا النظام تتألف جهة القضاء العادي من المحاكم العادية على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وترأسها محكمة النقض، أما الثانية ، أي جهة القضاء الإداري ، فتتكون من مجموع المحاكم الإدارية.
حيث تعد فرنسا مهد نظام القضاء الإداري المستقل والمتميز عن القضاء العادي ، وقد نشأ ذلك النظام وتطور خلال القرن التاسع عشر وحقق نجاحا ملحوظا في حماية حقوق الأفراد ضد تعسف الإدارة ، كما استطاع أن يؤمن حسن سير أعمال الإدارة نتيجة محافظته على نقطة التوازن بين الصالح العام ومصالح الأفراد الخاصة ، وقد استرعى نجاح هذا النظام الفرنسي أنظار الدول الأخرى ، فعملت على تبنيه والأخذ به.
غير أن القانون الإداري و هو يتعرض للمرافق العامة من حيث تنظيمها وكيفية سيرها ، أي لنشاط الدولة الإداري، فهو في نفس الوقت ، لا يتعرض لتنظيم السلطة التشريعية أو السلطة القضائية ، وإنما يتعرض فقط للسلطة التنفيذية، بل وليس لكل أعمال هذه السلطة بل لأعمالها الإدارية فقط ، وهي الأعمال المتعلقة بتصريف الشؤون العامة اليومية والتنفيذ اليومي للقوانين، أما الأعمال الحكومية ، أو كما تسمى غالبا، أعمال السيادة ، فتدخل في نطاق القانون الدستوري، ولهذا يعتبر حق السلطة التنفيذية في دعوة البرلمان للانعقاد وحل مجلس النواب وإعلان الحرب وعقد الصلح ، كلها حقوق دستورية، أما حقها في إصدار اللوائح وعزل الموظفين فهي حقوق إدارية تدخل في نطاق القانون الإداري.
غير أن الإدارة قد تلجأ مختارة إلى وسائل القانون الخاص، كلما رأت أن تلك الوسائل أولى بالاتباع لتحقيق النفع العام على خير وجه، فقد تستطيع وزارة الصحة مثلا أن تشتري أو أن تستأجر قطعة أرض لتقيم عليها مستشفى بمقتضى عقد إيجار أو عقد بيع عادي طبقا لأحكام القانون المدني بدلا من أن تلجأ إلى وسيلة نزع ملكية هذه الأرض لأغراض النفع العام.
وإن أهم اختصاص للقضاء الإداري ينحصر في مظهرين أساسيين هما : دعوى الإلغاء ودعوى التعويض ، وتختلف كل من الدعويين عن الأخرى اختلافا تاما.
الأول: دعوى الالغاء – أو دعوى تجاوز السلطة- ، فينحصر حق رافع الدعوى في طلب إلغاء قرار إداري ( فردي أو تنظيمي) ، مشوب بعيب من عيوب عدم المشروعية ( عيب الاختصاص- عيب الشكل- مخالفة القانون والانحراف في استعمال السلطة)، فالدعوة في حقيقتها ليست موجهة إلى الإدارة بقدر ما هي موجهة إلى القرار المعيب ، وهذا ما يعنيه الفقهاء بقولهم: “إن دعوى الإلغاء ليست دعوى بين خصوم ، ولكنها دعوى ضد قرار” ، ونتيجة لهذا المفهوم فإن دور القاضي ينحصر في التحقق من شرعية القرار المطعون فيه، فإذا ما تأكد من عدم مشروعيته، فإن الحكم الوحيد الذي يستطيع أن يصدره هو إلغاء القرار المطعون، وهذا الحكم يعد بمثابة إعدام لذلك القرار ، وأثره لا يقتصر على مقدم الدعوى بل يسري على الجميع.
لهذا تمثل” دعوى الإلغاء” الطريق القضائي لمراقبة مشروعية القرارات الإدارية التنفيذية ، وهي الوسيلة الناجعة لتأمين احترام مبدأ سيادة القانون من قبل الحاكم والمحكوم على السواء وتتميز بما يلي :
* دعوى الالغاء هي دعوى قضائية وليست تظلما إداريا، و لم تصبح ذات طبيعة قضائية إلا منذ عام 1872 ، عندما أصبح قضاء مجلس الدولة الفرنسي قضاء مفوضا ، أما قبل هذا التاريخ فإن دعوى الالغاء كانت بمثابة تظلم إداري رئاسي .
* دعوى الإلغاء تنتمي إلى قضاء المشروعية :فالهدف الذي تنشده دعوى الإلغاء يتمثل في إعدام القرار المعيب بعدم المشروعية، وبهذا يكون اصطلاح مجاوزة السلطة مرادفا لاصطلاح عدم المشروعية، وهذا هو المعنى الذي يتبناه غالبية فقهاء القانون العام في فرنسا.
* أحاط المشرع الفرنسي دعوى الالغاء بعناية خاصة: لأن دعوى الإلغاء تمثل السلاح الفعال في يد الأفراد لمنع تعسف الإدارة في ممارستها لاختصاصاتها، وإجبارها على التزام حدود القانون، فإن المشرع الفرنسي قد ساهم مع مجلس الدولة الفرنسي في تسهيل عملية لجوء الأفراد إلى رفع دعاوى الالغاء ،وقد تجلت هذه التسهيلات في عدم اشتراط تقديم عريضة الدعوى عن طريق محام ، وفي عدم ضرورة دفع الرسوم سلفا، ولم يأخذ المشرع لدينا بشيء من ذلك فيما يتعلق بدعوى الإلغاء.
إن دعوى الإلغاء أو دعوى تجاوز السلطة لا تعد اليوم بمثابة دعوى استثنائية أو احتياطية ، ولكنها تتصف بأنها دعوى القانون العام ، ويمكن اللجوء إليها دون حاجة لوجود نص تشريعي، وهي تهدف إلى تأمين احترام مبدأ الشرعية وفقا لمبادئ القانون العام وهذا المفهوم ينطبق أيضا على دعوى الطعن بالنقض، ولكن يجب أن لا يفهم من ذلك أن كلا من دعوى الإلغاء ودعوى الطعن بالنقض لا تخضع في قبولها، أمام القضاء الإداري، إلى أي من القواعد الخاصة بالاجراءات والشكليات، بل إن هذه الدعاوى تخضع تقريبا للشروط نفسها المطلوبة من أجل قبول أي دعوى أمام القضاء.
الثاني: دعوى التعويض (القضاء الكامل)، فإن مقدم الدعوى ينسب إلى الإدارة تصرفا يمس مركزا قانونيا خاصا به، أي أن هنالك اعتداء من جانب الإدارة على حق خاص به ، فالدعوى هنا موجهة ضد الإدارة وهذا ما يعنيه الفقهاء بقولهم: “إن دعوى القضاء الكامل هي دعوى بين خصوم ، ونتيجة لهذا المفهوم فإن القاضي يتمتع في هذا المضمار بصلاحيات واسعة فهو يتأكد أولا من أن المدعي هو صاحب الحق الذي يرفع الدعوى باسمه، فالدعوى ملازمة للحق، ولا توجد إلا بوجوده ، كما يقع على القاضي أن يتثبت من إن المدعي صاحب الحق ، له مصلحة حالة في رفع الدعوى ، فلا تقبل دعوى صاحب الحق إلا إذا ثبت أن حقه قد اعتدي عليه أو مهدد بالاعتداء عليه، وتوفر وجود المصلحة المادية والأدبية في رفع الدعوى أمام القضاء حينئذ يصدر القاضي حكما بالتعويض، وهذا الحكم الذي حاز قوة الشيء المقضي به يقتصر أثره على طرفي النزاع.
وختاما، يعد وجود القانون الإداري سمة الدول المعاصرة مادام يشكل الإطار الذي يؤطر تنظيم مرافق الدولة والنظام القانوني الذي يحكم أنشطتها، فأمام تعدد وظائف الإدارة وتنوع مهامها واتساع نطاق تدخلها، كان ضروريا إيجاد قواعد متميزة تسهل من مأموريتها لتحقيق المصلحة العامة ، وتوفر لها الآليات والوسائل اللازمة للقيام بأنشطتها، مقابل ضمان حقوق وحريات الأفراد من تصرفاتها.
فالقانون الإداري يتميز بخاصية التوفيق بين السلطة والحرية ، فبقدر ما يتيح للإدارة ، باعتبارها تهدف إلى إشباع الحاجات المتصلة بالمصلحة العامة ، استعمال امتيازات السلطة العامة، بقدر ما يحرص على حماية الحقوق والحريات ومبادئ دولة الحق والقانون قدر الإمكان، فهو ، وإن كان قانون اللامساواة لترجيحه لكفة الإدارة التي تبتغي المصلحة العامة، إلا أنه يبقى محتفظا بطابعه القانوني من خلال التوفيق بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
* متصرف تربوي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
(1) : القانون الإداري -الرقابة القضائية على أعمال الإدارة – ، تأليف الدكتور عبد الله طلبه ، منشورات جامعة حلب ، كلية الحقوق، الطبعة الثانية : 1997.
(2): القانون الإداري ، دراسة مقارنة في تنظيم ونشاط الإدارة العامة ، تأليف الدكتور طعيمة الجرف، مكتبة القاهرة الحديثة 1970.
(3): نشاط ووسائل الإدارة وفقا للتشريع المغربي ، تأليف الدكتور أحمد أجعون، عميد كلية العلوم القانونية والسياسية جامعة ابن طفيل القنيطرة ، منشورات المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية ، العدد الخاص رقم : 32 الطبعة الثالثة : نوفمبر 2022، مطبعة الأمنية -الرباط .
المصدر : https://dinpresse.net/?p=19292