ذ. محمد جناي*
إن الاهتمام بالإدارة والإصلاح الإداري، لا يمكن أن يتغافل عن مشكلات البشر الذين تتعامل معهم الإدارة ، وأن الضغوطات الناشئة عن السلوك الإنساني في منظمات الأعمال تحتاج لمعالجتها إلى فهم عميق للأسباب والدوافع وراء المظاهر السلوكية المشاهدة، ومن ثم أصبحت الدراسات السلوكية من أهم أدوات الإدارة في تحليل مشكلاتها واتخاذ القرارات المناسبة فيها.
والمضمون الحقيقي للإدارة ، أنها عملية مستمرة تحتوي العديد من الأنشطة وتستخدم أشكالا متنوعة من الموارد بعضها مادي وبعضها الآخر إنساني وذلك وصولا إلى أهداف محددة، فالإدارة بهذا المنطق ليست مجموعة من المبادئ ولا هي مجموعة من الإجراءات والنظم ولكنها في الأساس مجموعة من العلاقات والاتصالات والتفاعلات بين مجموعات من الناس من فئات ومهن وخلفيات وتطلعات وأهداف متباينة وقد تكون في كثير الأحيان متناقضة ، ومن تم فإن العنصر الرئيسي في العمل الإداري هو القدرة على الخلق والإبداع الإنساني من جانب المديرين لتحقيق الأهداف المقررة من خلال مجموعات العلاقات والاتصالات والتفاعلات الإنسانية.
لهذا لم يكن اكتشاف البعد الإنساني للإدارة أمرا سهلا، بل لقد تعاقبت فترات طويلة من الفكر والتطبيق الإداري كان العنصر الإنساني فيها مهملا أو متجاهلا بدرجات مختلفة، ويمكن حصر فترات التطور في الفكر الإداري من حيث النظرة للجانب الإنساني في الإدارة كما يلي:
أولا: حركة الإدارة العلمية( 1900-1920)
وقد كان التركيز الأساسي فيها على الجوانب المادية في العمل والإنتاج ، وكانت ترى في تقسيم العمل والتخصص أساسا صالحا لرفع الإنتاجية، ولم يكن الإنسان في نظرية الإدارة العلمية أكثر من مجرد أداة للعمل أو مصدر للطاقة تستخدمه الإدارة في الوصول إلى الإنتاج المطلوب، ولم تكن نظرية الإدارة العلمية تتوقع عائدا هاما من مساهمة ومشاركة العاملين، لذا فقد حددت دورهم في مجرد تلقي التعليمات وتنفيذها على أساس طريقة الأداء المثلى التي تم تدريبهم عليها، وكان الحافز الأساسي للعاملين في نظرية الإدارة العلمية هو الحافز النقدي.
ثانيا: حركة العلاقات الإنسانية (1930-1950)
وقد نشأت هذه الحركة تحت وطأة الكساد العالمي الكبير وظروف الحرب العالمية الثانية ، وخروجا على مبادئ الإدارة العلمية التي سببت كثيرا من المشكلات العمالية وأثارت موجات من الاضطرابات الصناعية ، وقد كان المنطق الأساسي لحركة العلاقات الإنسانية أن الإنسان هو محور العمل الإداري وأنه العنصر الهام في تحديد الإنتاجية، كذلك روجت حركة العلاقات الإنسانية مفاهيم ( الحالة المعنوية) وأثر جماعات العمل و(الجو الاجتماعي ) للعمل على معنوية العاملين ومن ثم على انتاجهم، ومن أهم نتائج حركة العلاقات الإنسانية التركيز على تدريب الرؤساء والمشرفين على أسس المعاملة الإنسانية للعاملين.
ثالثا: مدخل العملية الإدارية ( 1950-1960)
لم يكن تطور الفكر الإداري حتى أوائل الخمسينات مرضيا أو فعالا في التطبيق، فلا شك أن إهمال حركة الإدارة العلمية للجوانب الإنسانية وتركيزها على العناصر الفنية في الإنتاج قد أدى إلى كثير من المشكلات الإنسانية في علاقة الإدارة بالعاملين كان لها آثارها السالبة على الإنتاجية، كذلك فإن مبالغة أنصار حركة العلاقات الإنسانية في تصوير أهمية مفاهيم ” الحالة المعنوية ” و ” الجو الاجتماعي” للعمل وضرورة اتخاذ موقف أبوي من جانب الإدارة في علاقاتها مع العاملين قد أدى إلى حالات من التسيب وضعف القيادة الإدارية كان لها هي الأخرى آثار سالبة على الكفاءة الإنتاجية.
لكل هذه الأسباب ، فقد ظهر اتجاه في الفكر الإداري يروج لمفهوم جديد هو أن الإدارة أساسا هي مجموعة الوظائف الإدارية والتي تتخذ شكل دورة أو عملية مستمرة وتتضمن التخطيط ، والتنظيم والمتابعة، وأن هذه العملية تخص الإدارة العليا أساسا ، وإذا تمت على الوجه الأكمل لها يمكن التحقق من الوصول إلى الأهداف المطلوبة، ونتيجة لهذا التفكير ازداد الاهتمام بتنمية المهارات والقدرات الإدارية في مجالات التخطيط والتنظيم والمتابعة، وابتكار الأساليب والأدوات المتطورة المساعدة للإدارة في أداء هذه الوظائف، ويمكن القول إجمالا أن هذه الحركة الفكرية وإن لم تغفل العنصر الإنساني تماما، إلا أنها لم تضعه في موضعه الصحيح كأحد المحددات الرئيسية لناتج العمل الإداري.
رابعا: مدخل اتخاذ القرارات وعلم الإدارة ( 1960- إلى الآن)
وقد نما هذا المدخل في الستينات وتطور وازدهر في السنوات الأخيرة بفضل تحديات التكنولوجيا الحديثة وظهور أدوات جديدة للمساعدة في اتخاذ القرارات الإدارية وأهمها “بحوث العمليات” ويتميز هذا المدخل بتخفيض الجانب الإنساني في الإدارة إلى حد أدنى واعتباره مجرد عامل من مجموعة عوامل متعددة من العوامل المؤثرة في القرار الإداري.
خامسا: المدخل السلوكي ( 1960 – حتى الآن)
في ذات الوقت الذي انتشرت فيه مفاهيم ” علم الإدارة ومدخل اتخاذ القرارات” ، كان الاتجاه السلوكي المتكامل ينمو أيضا ويكتسب اقتناع كثير من المديرين، ويقدم المدخل السلوكي للإدارة منطقا متميزا يرى أن العامل الأساسي المحدد لكفاءة الإدارة وقدرتها على تحقيق أهدافها هو الإنسان وبمعنى أدق السلوك الإنساني ، ويجمع المدخل السلوكي مبادئ ومفاهيم من علوم إنسانية مختلفة تدور كلها حول محاولة فهم وتفسير السلوك الإنساني والإفادة من هذه التفسيرات في التنبؤ بأشكال السلوك المتوقعة للأفراد في مواقع العمل المختلفة ، ومن ثم تستطيع الإدارة اتخاذ القرارات الرشيدة لحل مشكلات العمل وتحقيق أهدافه.
ويقوم الأساس الفكري لهذا المدخل على أن الإدارة هي تحقيق الأعمال والإنجازات من خلال الجهد الإنساني ، ومن ثم فإن نجاح القيادة الإدارية تتوقف على فهمها للعلاقات الإنسانية ، وتمكنها من أساليب القيادة وأدوات العلوم السلوكية الأخرى لفهم وإدارة العلاقات بين الناس، ومن الموضوعات التي تتردد في كتابات هذا المدخل السلوكي: الدافعية، القيادة ، التدريب، الاتصالات، وغيرها.
وانعكست هذه الموضوعات في مفاهيم عامة منها ” الإدارة بالمشاركة” أو الإدارة بالأهداف” وبصفة عامة فإن أنصار هذا المدخل يهتمون أساسا بسيكولوجية الفرد وعلم النفس الاجتماعي وكثير منهم يعتبر أن الإدارة مرادف للقيادة، وبناء على ذلك أصبح أسلوب القيادة والإشراف الديموقراطي الذي يسمح للأفراد بحرية العمل والتعبير هو الأساس ، وشجبت الأساليب الاستبدادية في القيادة حيث أنها تجافي طبيعة الإنسان.
والخلاصة ،أنه في ضوء تلك الأوضاع الجديدة، اتضحت حقيقة أساسية هي الأهمية القصوى للعنصر البشري باعتباره الوسيلة الفعالة والمصدر الحقيقي لإنجاز أي تطوير أو ابتكار في أساليب العمل والإنتاج، وهو في الحقيقة المصدر الأساسي لتنمية قدرات المنظمات على التنافس ، ومن أجل ذلك يزداد اهتمام الإدارة المعاصرة بالمورد البشري والعمل على ابتكار وتطوير أفضل السبل والآليات لاستثمار طاقاته وتوظيف قدراته الذهنية والإبداعية في خلق وتنمية المزايا التنافسية في شكل سلع وخدمات وتكنولوجيات جديدة ومتفوقة.
* إطار إداري (متصرف تربوي)
ـــــــــــــــــــــ
هوامش
(1): إدارة الموارد البشرية ، تأليف الدكتور علي السلمي، إصدارات دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع- القاهرة-، الطبعة الثانية 1997، منشور بمكتبة نور.
(2): السلوك الإنساني في الإدارة، تأليف الدكتور علي السلمي،دار النشر مكتبة غريب ، منشور بمكتبة نور.
Source : https://dinpresse.net/?p=19527