منتصر حمادة
نادرة هي الأعمال البحثية العربية التي توقفت في الاشتغال على القواسم المشتركة بين الظاهرة الجهادية والظاهرة الإخوانية. نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار أن أغلب الأعمال التي تطرقت للظاهرتين، غالباً ما فرقت بينهما، من قبيل التعامل مع مشروع جماعة “الإخوان المسلمين”، على أساس أنه يُصنف في دائرة حركات وأحزاب الإسلام السياسي، أي مشروع إسلامي حركي هدفه المشاركة في العمل السياسي الرسمي، والاشتغال من داخل مؤسسات الدولة الوطنية؛ بينما مشروع الحركات الإسلامية الجهادية، مشروع مختلف، يروم الانقضاض على الدولة الوطنية في مرحلة أولى، على أساس أو أمل توحيد باقي الأنظمة تحت شعار “دولة الخلافة” أو “الخلافة على منهاج النبوة”.
هذا الكتاب الذي نتوقف عند بعض مضامينه، عمل من الطينة التي توفقت في الجدلية سالفة الذكر، كما يُلخص ذلك عنوانه الفرعي، الذي يتحدث عن القواسم المشتركة بين جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم “الدولة الإسلامية” في معرض تفاعلهما مع مفهوم الجهاد.
نحن في ضيافة كتاب ألفه الباحث التونسي عبيد خليفي، وعنوانه: “الجهاد لدى الحركات الإسلامية المعاصرة: من جماعة الإخوان المسلمين إلى تنظيم الدولة الإسلامية”، وصدر عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس، وجاء في 560 صفحة.
جاء الكتاب موزعاُ على مدخل عام، وأربعة أبواب، متضمن بدورها فصولاً، عناوينها كالتالي: في تأصيل مفهوم الجهاد، هو عنوان الباب الأول، وتضمن أربعة فصول: سيف الدعوة، سيف الردة، سيف الفتح، سيف الفتنة؛ أما الباب الثاني فجاء تحت عنوان: سيف الجماعة والتنظيم، وتضمن ثلاثة فصول: جهاد القلم، الاجتهاد بدل الجهاد، جهاد السيف، الدعوة والجماعة والدولة، الجهاد الجارف، سيد قطب. بالنسبة للباب الثالث، فجاء تحت عنوان: الجيل الثاني.. سيف التكفير والهجرة، متضمناً ثلاثة فصول: تجليات الجهاد القطبي، موسم الهجرة نحو أفغانستان، قاعدة الجهاد، المواجهة المفتوحة. وأخيراً، جاء الباب الرابع تحت عنوان: الجيل الثالث: السيف المتوحش، متضمناً فصلان اثنان: مرجعيات الجهاد المتوحش، تجليات الحلم المتوحش، إضافة إلى خاتمة عامة، حافلة بالمفاتيح الاستشرافية، وعنوانها: مسارات الجهاد الآتي.
خلُصَ المؤلف في الباب الثاني من العمل إلى أن الإسلام السياسي عرف ثلاثة منابع رئيسية: محمد عبد الوهاب والتحول من الدعوة إلى الدولة، أبو الأعلى المودودي والتأسيس للجماعة الطائفة، وحسن البنا وهيكلة التنظيم الدولي، معتبراً أنه إذا كان نجاح الدعوة الوهابية مرتبطاً بذلك اللقاء التاريخي بين الأمير والشيخ، فإن نجاح جماعة الإخوان كان مرتبطاً بالمهارة القيادية للمؤسس حسن البنا وقدرته الحركية، بينما تمثل أبو الأعلى المودودي عمقاً فكرياً وبناءً نظرياً ليكون مرجعاً لكل الإسلام السياسي والحركي لاحقاً.
تضمن الكتاب مفتاحاً مفاهيمياً هاماً لقراءة أداء المشروع الإخواني اليوم، في زمن ما بعد اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة”، وهو مفتاح يُحيلنا على خيار “التمكين” الإخواني، والذي يروم اختراق مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني، ويُفيد هذا المفتاح أن العمل الجهادي الإخواني السابق ضد الإنجليز وفي فلسطين مثلاً، جعل من الجماعة تنظيماً “أكبر من الأحزاب والجماعات وأقل من الدولة”، وبيان ذلك أن الجماعة أصحبت [حينها] “تملك منظومة عقائدية وتنظيمية واقتصادية واجتماعية، زادتها منظومتها العسكرية من حيث تملكها لما يُشبه وزارتي الدفاع والداخلية، جيش من الجوالة والمتطوعين يسيره حاكم مرشد مسنود بتنظيم خاص، كل هذا كان ينذر بالصدام والمواجهة مع المنظومة السياسية القائمة، وذلك نتيجة حتمية لتحول الجماعة من الدعوي إلى السياسي فالعسكري”. (ص 242)
بخصوص مأزق التكفير الذي طال بعض تفرعات المشروع الإخواني، وامتد إلى بعض الجماعات الجهادية، في الماضي والحاضر، وكما اشتغلت على ذلك العديد من الأعمال البحثية من قبل، فقد أشار عبيد خليفي إلى أن حاكمية سيد قطب أفضت إلى “تكفير الحكام الذين ينشرون المراسيم والقوانين، ثم تكفير الأفراد والأحزاب والمجالس البرلمانية والتشريعية حين تسن القوانين والتشريعات البشرية، فالتفسير كان مدخلاً للتكفير عند سيد قطب، وتفسيره للحاكمية القرآنية كان تلبساً للعقائدي بما هو سياسي ليصبح المجتمع إسلامياً بالعقيدة والعبادة والشريعة والنظام، وليس مسلماً بالألفاظ والأقوال، لأن هؤلاء المسلمين دخلوا حسب رأيه في دائرة الردة والشرك والكفر لا علاقة لهم بالإيمان والعقيدة والشريعة”. (ص 272)
وما دمنا نعيش زمن الظاهرة “الداعشية”، يُؤاخذ المؤلف على أغلب الباحثين الذين اشتغلوا على الظاهرة، أنه يرون فيها “انفلاتاً لمفهوم التطرف الديني والإرهاب الإسلامي فيتفاعل مع مفهوم المؤامرة الغربية، هم باحثون يجهلون المرتكزات الفكرية والفلسفية وحتى التطبيقية التي نظّر لها عبد الله عزام انطلاقاً من “مكتب خدمات المجاهدين” على الحدود الباكستانية الأفغانية؛ وأن يعتقدون أن تنظيم “القاعدة” هو عمل خارق أنجزه أسامة بن لادن، يُخطؤون التقدير في التوصيف، لأن مفهوم القاعدة هو أحد أهم المرتكزات العقائدية والاستراتيجية التي اشتغل عليها عبد الله عزام عبر تأسيس مكتب الخدمات سالف الذكر”.(ص 344)
لم يفت المؤلف التوقف عند واقع الظاهرة الجهادية في القارة الإفريقية، وإن كانت مقاربته التحليلية متواضعة نسبياً في واقع الأمر، أخذاً بعين الاعتبار تعقد المشهد الجهادي، وتعقيدات المحددات المؤثرة فيه، وقبل التدقيق في ذلك، نتوقف عند إشارتين للمؤلف في السياق، حيث اعتبر أن السودان في ظل الحكم الإسلامي، “فتح أبوابه لقوافل العائدين من أفغانستان، وأدرك أسامة بن لادن أن السودان يملك موقعاً استراتيجياً يسهل ربط العلاقات الجهادية بين السودان ومصر واليمن والسعودية والصومال وإريتريا وإثيوبيا” (ص 361) مضيفاً أنه ما بين “تفجيرات تنزانيا وكينيا وأحداث نيويورك وواشنطن، كان منظرو الحركات الجهادية قد منحوا الشباب الجهادي مخزوناً عقائدياً بكثرة مؤلفاتهم التحريضية، حيث أنجز تنظيم “القاعدة” لوحده، أكثر من ألفي كتاب جهادي خلال تلك العشرية، وهذا ما يجعل المؤلف يعتقد أن المشروع الجهادي التهم الصحوة الإسلامية، فصارت صحوة جهادية بحضور الكتاب الجهادي أكثر من الكتاب الفكري”.(ص 403)
ولمن يرغب في أخذ صورة تكاد تكون جامعة وشاملة حول الظاهرة الجهادية في إفريقيا، عليه بكتاب حديث الإصدار في التداول الفرنسي، وألفه الباحث مارك أنطوان بيروس دي مونكلو، وعنوانه: “الحدود الجديدة للجهادية في إفريقيا”، وصدر في مطلع شهر أبريل 2018، وسبق أن توقفنا عند بعض مضامينه في هذه السلسلة الرمضانية. نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار أن مؤلفه زار جميع الدول الإفريقية المعنية بالظاهرة “الجهادية”، بمعنى أنه اجتهد في الجمع بين الحُسنيين: النظري والعملي، كما أنه التقى وأجرى حوارات مع أغلب الرموز الإسلامية الحركية (السياسية و”الجهادية”)، من قبيل الراحل حسن الترابي أو مقاتلي “حركة الشباب” الصومالية وجماعة “بوكو حرام” النيجيرية وغيرهم، ومع أن العمل يتضمن وقفات مع أداء العديد من الجماعات الإسلامية الجهادية، إلا أن المؤلف ارتأى التوقف بتفصيل أكثر مع ثلاث جماعات بالضبط: جماعة “بوكو حرام” في نيجريا، و”حركة الشباب” في الصومال، و”تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، في المنطقة المغاربية على الخصوص.
توقف المؤلف عند ذكاء العقل “الجهادي” في توظيف بعض الأزمات المحلية أو الإقليمية والتي لا علاقة لهاب المُحدّد الديني، من أجل خدمة مشروعه الجهادي، وبالنتيجة، وفي غياب معارضة ذات مصداقية، انتهى الأمر بهذه الجماعات إلى استقطاب جزء من الرأي العام، مورداً لائحة من الأمثلة، نذكر منها، ما جرى مع الظاهرة “الداعشية” في سوريا التي تحالفت في بقايا النظام البعثي في العراق، أو “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” الذي تحالف مع الطوارق في شمال مالي ضد السلطة المركزية في باماكو، أو ما قام به فصيل منشق عن “حركة موجاو” بقيادة عدنان أبو الوليد الصحراوي، والذي تزعم قبائل صحراوية تعرضت للتهميش والإقصاء من طرق دول المنطقة، أو جماعة “بوكو حرام” في نيجيريا التي وظفت حالات الاستياء من التهميش الذي طال مناطق في شمال نيجريا بعد الانقلاب السياسي الذي قامت به هيئات سياسية مسيحية على السلطة المركزية.
أما مسك ختام الكتاب، ومعه مسك ختام الرؤى الاستشرافية للمؤلف حول مستقبل الظاهرة الجهادية، فقد جاء صريحاً، حيث اعتبر الكاتب أن المشروع الجهادي “يحمل من الحياة والتجدد ما يجعله باق في المستقبل مادامت شروط ظهوره باقية. ولقد كانت وصايا أسامة بن لادن للجهاديين قبل اغتياله عن أسماء بديلة لتنظيم “القاعدة”. ولم يكن ظهور تنظيم “داعش” الحالة الختامية لاستراتيجيا “إدارة التوحش” الذي وضعه الجيل الثاني للجهاديين، بل هو كتاب منهجي دائم يمكن تطبيقه كلما توفرت شروطه الموضوعية وظروفه الواقعية. ويأتي كتاب “إدارة التوحش” موازياً لكتاب الجيل الأول للجهاديين “معالم في الطريق”، وما بينهما كانت الأدبيات الجهادية قد وفرت مخزوناً عقائدياً لكل الأجيال الإسلامية والعربية”.
وليس هذا وحسب، يصيف المؤلف، بل “ينهض المشروع الجهادي على مفهوم المخزون، ويتجلى في المخزون العقائدي للأدبيات الجهادية خلال نصف قرن من التفكير والتنظير والتأليف، ويأتي المخزون البشري ممثلاً لأجيال من الشباب الذين يبحثون عن التحرر والفعل التاريخي الخارق، ولا بد للمشروع الجهادي من مخزون مالي حتى تتوفر له الإمكانات في الحركة والتنظيم والفعل الميداني. وبين هذه المخازن يكون المخزون التنظيمي من الخلية إلى القيادة المركزية عملاً متراكماً لتجارب ثلاثة أجيال جهادية على مدى النصف الثاني من القرن الماضي، ونجاح المشروع الجهادي هو نتيجة حتمية كلما التقت هذه المخازن الأربعة ضمن تصور شمولي تؤسّسه الأفكار ويصنعه الرجال”. (ص 528)
كتاب “الجهاد لدى الحركات الإسلامية المعاصرة: من جماعة الإخوان المسلمين إلى تنظيم الدولة الإسلامية”، عمل يكاد يقترب من الأعمال المحسوبة على الدراسات الاستشرافية، لأن مؤلفه اجتهد في الجمع بين التوثيق والتركيب والتحليل مع قليل استشراف، وهذا أمر ليس هيناً عندما يتعلق الأمر بتناول ظاهرة مجتمعية حارقة، تتشابك فيها مجموعة من المحددات الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، من قبيل الظاهرة “الجهادية”.