يعتقد البعض أن تلاشي الحكومة الحالية بقيادة “إسلاميي المغرب” سيخلف فراغا سياسيا مهولا، لأنه في كل مرحلة أو منعطف تاريخي يجد المغرب معارضة قوية تقترح نفسها بديلا سياسيا لما هو كائن.
كما يذهب هذا الرأي إلى أنه في مرحلتنا الراهنة، وبعد تراجع حزب العدالة والتنمية الإسلامي، لا توجد أية معارضة قوية أو أي حزب سياسي مؤهل، له برنامج إصلاحي متكامل المعالم، ويمتلك رؤية مستقبلية واضحة، يمكنه من خلالها أن يطرح نفسه بديلا حكوميا في الفترة القادمة.
ويرى أنه عند استكشاف الواقع، نجد أن كل الأحزاب السياسية العاملة في الساحة مصابة بالوهن النضالي، أو أنها استنفدت كل ما عندها من اقتراحات أو وعود، وحتى تلك التي لم يسبق لها أن خاضت تجربة حكومية في الماضي، فهي أحزاب ضعيفة جدا من حيث القوة العددية والتنظيمية..
وعليه، فإن الحالة السياسية بالمغرب مرشحة في المستقبل بأن تفقد “توازنها”، وأن تعرف فراغا تنظيميا ربما لم يكن مشهودا منذ نصف قرن، وستسود في المرحلة المقبلة حالة عارمة من اليأس والتيئيس من النخبة السياسية القائمة، ومن المنتظر أن تعرف الاستحقاقات الوطنية القادمة عزوفا سياسيا ينذر بالخطر..
ينبغي التأكيد أن الخط السياسي المغربي عبر الزمن يقوم على تكتلين أو جناحين أو قدَمين، وأن الحياة السياسية المغربية تنتعش أكثر بوجود مشروعين سياسيين متنافسين، أو أكثر من ذلك.
وتكون الحياة السياسية بخير عندما يكون حزب قوي يتولى زمان التدبير الحكومي، وآخر في المعارضة يراقب ويعارض ويحاسب ويوجه، لكن في مرحلتنا الحالية هناك “العدالة والتنمية”، الذي دخل مرحلة “الأفول”، يترأس حكومة ضعيفة وغير متجانسة، وفي مقابل ذلك لا نكاد نجد حزبا قويا يمارس المعارضة المطلوبة، وهذه حالة سياسية “استثنائية” ينبغي معالجتها والتصدي لها، لأنها تشكل تهديدا حقيقيا في المستقبل..
سياسة الجماعة: التربص والانتظار والتحريض والتيئيس
هناك بعض التحليلات تدّعي أن الكتلة البشرية الأكثر قوة من حيث العدد، والأكثر تنظيما، والحاملة لمشروع فكري أو تغييري في المرحلة الراهنة، والتي يمكن أن تحدث التوازن السياسي المطلوب في المرحلة المقبلة هي جماعة العدل والإحسان..
حتّى ولو تم التّسليم نظرياً بمثل هذه الأطروحات أو الادّعاءات، فإن هذا المكون “الإسلامي” يطرح إشكالات عديدة من حيث طبيعة فكره الديني المنغلق، أو الخرافي، ومشروعه السياسي شبه المنعدم، إضافة إلى أن العدل والإحسان غير قادرة، أو ليس لها استعداد في المرحلة الراهنة، على الاندماج في الحياة الحزبية والسياسية للبلاد.
الجماعة في هذه المرحلة على وعيٍ تام ٍّ بأن الوضع المغربي الراهن بدأ في فقدان “توازنه” السياسي، وأن إمكانية إبداع الحلول باتت شبه منعدمة من قبل النخبة السياسية الحالية، التي أصيبت بالوهن والترهّل، وهي تنتظر هذه الفرصة منذ عقود، تتوقع أن تفشل جميع الأحزاب الوطنية في ابتكار البدائل السياسية لتثبت للمغاربة أنها على صواب وأن طرحها الإصلاحي هو الأمثل للخروج من مرحلة التأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
من هذه المنطلقات يمكن أن نفهم ونفسر جميع تحركات العدل والإحسان على أرض الواقع، ومن هذه المقاربة يمكن تحليل كل بيان أو تقرير أو حوار يجريه قادة الجماعة مع وسائل الإعلام، في السنوات الأخيرة.
لقد انتعشت هذه الحركة إبان ربيع الثورات العربي سنة 2011، وشاركت في احتجاجات الشوارع التي انطلقت مع تأسيس حركة 20 فبراير خلال هذه السنة، واستغلت الفرصة لتأطير الاحتجاج والركوب عليه، وعلمت على تأجيج مشاعر الناس ودفعهم إلى “الثورة” بالمغرب على غرار ما كان يجري وقتها في باقي البلدان العربية مثل تونس ومصر وغيرهما.
وسياسة هذه الجماعة الدينية الدائمة هي أنها تتحين الفرصة دائما للدفع نحو التيئيس والتأزيم، وتؤثث ذلك بإصدار تقارير سنوية تتسم بالعدمية والسوداوية، وتنشر في وسائل إعلامها كل ما يبعث على الإحباط النفسي لدى المغاربة..
لكن حكمة ملك البلاد وإعلانه عن جملة من الإصلاحات الضرورية في خطاب التاسع من مارس الشهير، وإجراء انتخابات مبكرة، ودفع “العدالة والتنمية الإسلامي” إلى رئاسة الحكومة المغربية لأول مرة في تاريخ المغرب، جعل من المغرب استثناء وقدوة في عالم عربي مازال لم يجد أفقا بعد للخروج من حالة الركود السياسي والإصلاحي.
هذا الوضع الاستثنائي أفشل نوايا “العدل والإحسان” وأصابها بالإحباط، فقررت التراجع إلى الوراء والتقوقع على ذاتها، فأعلنت عن انسحابها من حركة 20 فبراير، ودخلت في كمون سياسي، خصوصا بعد أن سطع نجم “العدالة والتنمية”، وشكل حينها بديلا حزبيا وسياسيا قاد الحكومة المغربية برئاسة “عبد الإله بنكيران” ولايزال يقودها حاليا سعد الدين العثماني.
ولم تشعر الجماعة بالانتعاش مرة أخرى إلا بعد أن شعرت بضعف حكومة “العثماني” وانحسار أفقها الإصلاحي، وعدم قدرتها على تشكيل تحالف حزبي قوي قادر على ابتكار الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى أن هذه الجماعة الدينية واعية تماما بعدم وجود معارضة قوية في الوقت الراهن يمكنها أن تسحب منها البساط أو أن تدفعها إلى السير على الهامش كما فضلت “العدل والإحسان” أن تعيش فيه مدة من الزمن.
بهذا يمكن أن نفسر تكثيف وتسريع الجماعة، في الآونة الأخيرة ـ وأيضا في مقبل الأيام ـ من أنشطتها وتحركاتها وبياناتها وتقاريرها السياسية والحقوقية، خصوصا بعد تعثر رئيس الحكومة السابق “عبد الإله بنكيران” من تشكيل حكومة 2016 وعزله بعد ذلك وتعويضه بـ”العثماني”، الذي شارفت حكومته الحالية على إنهاء ولايتها الثانية.
الخلاصة هي أن سياسة العدل والإحسان منذ تأسيسها بداية ثمانينات القرن الماضي هي الترقب وانتظار تهيّؤ الظروف ونضجها للإعلان عن “القومة” أو “الخلافة” التي كثيرا ما بشّر بها مرشد الجماعة الراحل “عبد السلام ياسين” أتباعه…
سعيد الراشدي ـ خاص بدين بريس
المصدر : https://dinpresse.net/?p=10966