ذ. محمد جناي
قدم فقهاء المسلمين العظام دراسات معمقة فيما يتعلق بالسياسة الشرعية ، أمثال “ابن تيمية” و”الماوردي” ، إلا أن هذه الدراسات كانت جزئية في بعضها، قاصرة على عصرها في أغلبها، مما استدعى تجديد الدرس الفقهي الدستوري في ضوء الإسلام مع تجدد العصور ، وتوالي القرون بما يخدم البلاد والعباد ، إثراء للدراسات السياسية الشرعية والأصولية المقاصدية التي تهتم بعلاقة المقاصد بالسياسة .
ولقد تعددت أصناف المؤلفين في السياسة الشرعية في العصر الحاضر ، حيث تصدى لها الفقهاء المتخصصون في الشريعة أمثال “محمد أبو زهرة” و”هبة الزحيلي” ، كما أدلى أصحاب المنهج الفلسفي بنظريتهم المقاصدية الكلية بدلوهم في الموضوع ، فانتشرت مؤلفات “ضياء الدين الريس “، و”توفيق الشاوي” ، وغيرهما واجتهد في التأليف أيضا فقهاء القانون المتخصصون في القانون الدستوري ، والعلوم السياسية والعلاقات الدولية أمثال “عبد الرزاق السنهوري” و”هبة رؤوف عزت” ، وغيرهم فأفادوا البحث في هذا المجال من زوايا متعددة ، تعرض التراث ، وتزيد عليه بالاجتهاد بما يتماشى مع روح العصر ، وخصوصية البقعة ، ومنها زاوية “الفصل بين السلطات”، التي نجد لها تطبيقات في ظل الحكم الإسلامي عبر مراحله المختلفة ، ونقف لها على تأصيل شرعي عماده العدل ، ورعاية المصالح.
طبعا ، يختلف النظام الإسلامي عن الأنظمة التي وضعها البشر ، بالنظر إلى مصدره الرباني ، وملائمته لأحوال العباد، وصلاحيته لكل زمان ومكان ، فيظل ملبيا للحاجات ، مسايرا للمتغيرات ، وتظل الدولة في الإسلام دولة مدنية ، تحكم الدين ، فلا تتسلط على رقاب الناس باسم الحق الإلهي، ولا تقهرهم باسم رجال الدين، بل توفر لهم الحريات في حدود ، وتكفل لهم الحقوق بلا قيود ، وترعى فيهم مقاصد الشرع استنادا للنص البين، والحكم الفصل ، واعتمادا لاجتهاد المجتهدين من فقهاء السياسة الشرعية ، فيما يستجد من المبادئ والممارسات ، ومنها مبدأ (الفصل بين السلطات) الذي يتوصل إلى إقراره احتهادا ، ويتسنى تنفيذه في ظل الحكم الراشد الذي تكون السيادة فيه للأمة، وتراعى فيه الرقابة بين السلطات حتى لاتطغى ، ولا تبغي على بعضها.
يعد مبدأ الفصل بين السلطات في مقدمة المبادئ الدستورية التي تقوم على أساسها الأنظمة الديمقراطية المعاصرة باعتبارها ساعية لمنع الظلم والاستبداد، وتحقيق العدالة الاجتماعية ، وسياسة الشعب بما تنصلح به أحواله ، وتقضى به حاجاته، ذلك أن موضوع ممارسة السلطة عموما قد شغل أهل القانون والفكر والفلسفة والسياسة على مر العصور، فاجتهدوا في وضع القوانين ، وضبط الحدود ، مستندين في ذلك على المعيارين الكمي والكيفي، فالمعيار الكمي يرى مؤيدوه أن تعدد القائمين على السلطة آلية أساسية لمنع الظلم والاستبداد ، وساد هذا المعيار لعقود طويلة في الأنظمة الغربية ، أما المعيار الكيفي فيرى مؤيدوه أن تعداد القائمين على السلطة لا أهمية له ، بل العبرة في كيفية ممارسة السلطة ، وهو المعيار الذي جاء به الدين الإسلامي المبني أساسا على تقييد القائمين على السلطة في ممارسة مظاهرها بأحكام الشريعة الإسلامية (الكتاب والسنة).
فالسلطة في مفهومها العام إنما تعني التسيير والحماية في الوقت نفسه، والنظام إنما وظيفته الأولى القضاء على الفوضى، وتنظيم الأحوال، ورعاية المصالح ، وقد يستخدم في التعبير عن وظائف معينة للدولة ، وخصوصا عند حديثنا عن السلطات الثلاث: التشريعية ، والتنفيذية والقضائية ، وربما نتجاوز كيف نصف ونحن نتحدث عن اختصاصات هيئات معينة مثل ما جاء في المادة 24 من ميثاق الأمم المتحدة في مادته الثانية التي تحدثت عن سلطات معينة لمجلس الأمن ، وسلطات أخرى لمحكمة العدل الدولية ، هذا ولم يجد الباحثون مايشير صراحة إلى كلمة السلطة سواء في القرآن الكريم ، أو في معاجم اللغة العربية ، وماوجدوه هو فعل (سلط) والذي يحمل مفهوم القوة والغلبة والقهر.
فالسلطة إذن هي علاقة تنظيمية بين أفراد المجتمع، تحمل في طياتها معاني الحماية، والقيادة، مع التمايز في الأدوار والاختصاصات من أجل تحقيق وظائف وأغراض معينة ضرورية من أجل استمرار الجماعة، واستقرارها وبقائها.
وقد نشأ هذا المبدأ في الفكر السياسي القديم ، وتطور في الفكر السياسي الحديث، بمعنى ضرورة توزيع وظائف الحكم الرئيسية: التشريعية ، التنفيذية ،والقضائية على هيئات منفصلة ومتساوية تستقل كل منها عن الأخرى في مباشرة وظيفتها حتى لا تتركز السلطة في يد واحدة فتسيء استعمالها، وتستبد بالمحكومين، ومبدأ الفصل بين السلطات تعبير اصطلح على إطلاقه معنيين متباينين: أحدهما سياسي والآخر قانوني، فالمعنى السياسي لمبدأ الفصل بين السلطات هو عدم الجمع بين السلطات أو عدم تركيزها ، وهذا ما أكد عليه “مونتيسكيو” في هذا المجال والتي تتمثل في فصل السلطات ، فلا يجوز لشخص أو هيئة أن تجمع بين يدها سلطتين، ومن باب أولى السلطات الثلاث معا، أما الاصطلاح القانوني لمبدأ الفصل بين السلطات فيتعلق بطبيعة العلاقة بين السلطات المختلفة.
ومن خلال هذه العلاقة تتكون النظم المختلفة ، والتي تنقسم إلى نظم رئاسية ، وبرلمانية ، ومجلسية ، حيث اختلفت الدساتير في تطبيقه ، وتبنيه ، وتوزيعها لوظائف الدولة بين السلطات تبعا لاختلاف واضعي هذه الدساتير في تفسيرهم لهذا المبدأ ، ويمكن تفصيل العلاقة بين السلطات في ظل مبدأ الفصل بينها وفق المرتكزات التطبيقية التي يتجلى من خلالها الاستقلال على النحو الآتي:
أولا: إستقلال القضاء
إستقبال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ضمانة ردعية للمسؤولين حتى يضعوا حسابا لممارستهم التي ليسو أحرارا فيها ، ويتم ضمان استقلال السلطة القضائية في النظم الديمقراطية من خلال قانون خاص يحدد جهة الإشراف على عمل القضاء وكيفية تعيين أعضائها ، كما ينظم القانون طريقة تعيين القضاة ، وشروط عزلهم وصلاحياتهم، وكل مايتعلق بطرق عملهم ، وبالتدقيق يقصد باستقلال القضاء ” ألا يقع القضاة تحت تأثير سلطة أو شخص من شأنه أن ينحرف بالقضاء عن هدفه الأسمى ، وهو إقامة العدل بين الناس ، وإيصال الحقوق إلى أصحابها”.
ولقد جاء النظام الإسلامي بضمانات في سبيل استقلال القضاء أبرزها أن:
* خضوع السلطتين التنفيذية والقضائية لسيادة الشرع يجعل للسلطة القضائية استقلالا ونفوذا ، ومن أجل ذلك أنشئ ديوان المظالم الذي يقابله القضاء الإداري حاليا ، فضلا عن ديوان الحسبة الذي هو رقابة إدارية .
*ولي الأمر ليس له أن ينقض فضاء القاضي، ولذلك قرر العلماء قاعدة (الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد).
*الإمام ليس له فرض مذهب معين على القاضي ليقضي به.
والاستقلال بهذا المعنى كان موجودا بالفعل في الدولة الإسلامية بكل عهودها ، برغم أنها لم تعرف الفصل بين السلطات بالمعنى المفهوم في الواقع المعاصر ، فلقد كان الاندماج بين السلطتين التنفيذية والقضائية هو الصبغة الظاهرة في الدول الإسلامية ، لكن هذا الاندماج لم يكن له أي مساس باستقلال القضاء في ممارسته الوظيفة القضائية ، بل إن هذا الاستقلال كان موفورا بدرجة لا مثيل لها في الدول الحديثة التي تأخذ بنظرية الفصل بين السلطات ، ويرجع هذا إلى موقف كل من رجال السلطتين التنفيذية والقضائية من الشريعة الإسلامية.
ثانيا: مواكبة العصر والظروف في طبيعة العلاقة بين السلطات
يكاد مضمون الفصل بين السلطات في الأنظمة المعاصرة يكون مختلفا عنه في الأنظمة القديمة ، فقد أصبحت السلطة التنفيذية تقاسم السلطة التشريعية بعض اختصاصاتها من خلال مايعرف اليوم بتشريعات الضرورة ، أو التفويض ، أو الطوارئ ، وصارت السلطة التشريعية تتدخل في أعمال السلطة التنفيذية ، من خلال مايعرف بالرقابة على دستورية القوانين فيما يخص السلطة التشريعية ، ورقابة القضاء لأعمال الإدارة فيما يخص السلطة التنفيذية.
وعلى ذلك فالدولة هي التي تقرر الدرجة التي تعتمدها من الفصل بين السلطات ، والطريقة المثلى لتوزيعها بين الهيئات المختصة، تبعا للأوضاع والظروف التي تعيشها الأمة ، فلكل عصر وظرف الآلية المناسبة لتسيير شؤونه ، والنسبية في التوزيع تؤهل الدولة للتأقلم مع المستجدات والمعطيات والأوضاع الميدانية ، فليس المقصود بالفصل بين السلطات أن تستقل كل هيئة عن الأخرى ، وإنما المقصود عدم تركيز وظائف الدولة وتجميعها في يد هيئة واحدة ، بل توزيعها على هيئات منفصلة بحيث لا يمنع هذا التوزيع من التعاون ، وهذا بيت القصيد فيما جاء في كتاب (الدولة المستحيلة) الذي يستفيض في عقد المقارنات بين المفاهيم المجردة ، والظروف الواقعية في سياسات الدول ، حيث يقول صاحبه : “كانت الفكرة القائلة بأن كل واحدة من السلطات الثلاث يجب أن تمثل رقابة على الأخرى قد خلقت معضلة درجة الفصل ، ولأن الفصل التام في بنى الدولة الحديثة مستحيل كما هو واضح ، فإن التحدي يدور إذا حول درجة الفصل التي يفقد عندها هذا المفهوم معناه ، أو يغدو إشكاليا إذا ما زادت كثيرا أو نقصت بشدة ، ومن الواضح أن المشكلة التي تؤثر في الحكم بأكمله هي تركيز السلطة ، وعلى ذلك يصبح تداخل السلطات وعدم توازنها، وتفويضها بين الفروع الثلاثة هو القضية.
فالمبدأ إنما جاء لتغيير واقع الاستبداد الذي قاد إليه استئثار الملوك بمختلف السلطات ادعاء للحق الإلهي، واعتدادا بالقوة، وخشية من توزيع يقود إلى الإزاحة عن العرش ، ومن الجنوح به إلى توسيع نطاق ممارسة السلطات ، وتوزيع الوظائف على المختصين فيها، يخشى كذلك أن يتحقق الفصل التام الذي يتلاشى معه الانسجام في تسيير الدولة ، فكما يتحقق تركيز السلطات الثلاث مضرا ، يكون كذلك تركيز السلطة الواحدة بمعزل عن التعاون مع غيرها من السلطات مؤديا للفساد ، والاستبداد ، وحتى الصدمات الداخلية ضمن الدولة الواحدة في حال محاولة أي سلطة التدخل في وظائف سلطة أخرى، فيرفع المنفذ يد المشرع عن تطبيق القوانين باعتبارها صلاحية خاصة ، ويدعي المشرع حقا شاملا في مراقبة تنفيذ التشريعات التي وضعها – في حالة الأنظمة الوضعية طبعا- غير متسامح مع الاجتهادات الخاصة المراعية للظروف والأحوال ، ويتملص القاضي من حق المعين له في عزله عن انحرافه استقلالا بمنصبه عما يعتبره وصاية مرفوضة.
ولهذا أثار موضوع كيفية ممارسة السلطة جدلا فقهيا واسعا عبر كل مراحل تطورها ، باعتباره المحدد للعلاقات القائمة بين مختلف هيئات الدولة، والمحور الأساسي في تصنيف الأنظمة استنادا لنوعية العلاقة القائمة بين السلطات ، من حيث حصر أو تركيز الوظائف بيد شخص واحد ، أو هيئة واحدة ، أو توزيعها ، أو الفصل بينها ، حيث يصب مفهوم تركيز السلطة في حصر جميع وظائف السلطة التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية في يد واحدة ،أو هيئة واحدة ، ونجد هذه الظاهرة في الدول القائمة على نظام الحزب الواحد على غرار النموذج الماركسي ، ودول العالم الثالث، فالماركسية تعني إزالة الفوارق بين الطبقات ، ووحدة المؤسسة التي تمارس السلطة ، وقد رفضت الماركسية فكرة تعدد السلطات ثم توزيعها لتعارضها مع أساسياتها ومبادئها.
وختاما:
إن مبدأ الفصل بين السلطات سيؤدي إلى توزيع الوظائف و المهام في الدولة سيؤدي من الوظائف التشريعية والوظيفة التنفيدية والقضائية على السلطات الثلاث فتمارس الأولى مهمة التشريع وتمارس الثانية مهمة التنفيذ وتمارس الثالثة مهمة القضاء، وهذا سوف يؤدي إلى تنفيذ و تخصيص كل سلطة من هذه السلطات كل حسب عمله وبالمهام الموكلة إليها، وبالتالي تعمل كل سلطة على إتقان أعمالها، وهذا هو المقصود بمبدأ الفصل بين السلطات ، وذلك كما حدده مونتيسكيو حيث قال: ”أن في كل دولة ثلاث أنواع من السلطة، التشريعية والتنفيدية المنفدة للأمور التي توقف عليها حقوق الإنسان” و أيضا هو عدم تركيز و جميع وظائف الدولة في يد واحدة، بل توزيعه على هيئات مختلفة، بحيث تختص كل سلطة بعملها و لذلك قيل بهذا الخصوص: ”بأن مبدأ الفصل بين السلطات لا يعد في الديمقراطيات الغربية، مبدأ قانونيا بالمعنى الصحيح، و إنما يعد مبدأ و قاعدة من قواعد فن السياسة ”.
و بصرف النظر عن مدى التطبيق الفعلي للفصل بين السلطات، بمعناه الكامل ، أنه بلا شك عرفت الدولة الإسلامية الإتجاه العام نحو الفصل التدريجي بين السلطات، و إذا كان الهدف من مبدأ الفصل بين السلطات هو حماية و ضمان حرية الأفراد ضد الإستبداد اللذي يلازم جمع وتركيز السلطات، فإن مبادىء الإسلام و روحه لا تنكر الأخذ بهذا المبدأ لأن الإسلام أعلى الحريات الفردية والإنسانية وهو ضد الإستبداد والظلم، وهو مع احترام حرية الرأي ويحفز على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يوجبه.
ـــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1): الفصل بين السلطات ، مقاربة تأصيلية شرعية ، إعداد د. سهام داوي ، إصدارات منتدى العلماء الطبعة الأولى 2019.
(2): د. باسم صبحي بشناق، الفصل بين السلطات في النظام السياسي الإسلامي- دراسة تحليلية في ضوء نظرية الفصل بين السلطات في القانون الوضعي-، مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات الإسلامية، العدد الأول يناير 2013.
Source : https://dinpresse.net/?p=13744