منير بوحوت ـ ماجستير من جامعة كوبنهاغن، طالب دكتوراه وباحث في قضايا المسلمين بالغرب
أدت الهجرة الواسعة النطاق للمسلمين إلى أوروبا وأمريكا الشمالية وما تلاها من نقاشات حول الهوية والإندماج… واستصدار قوانين حول حظر هجرة المسلمين وتقييدها، وفرض ميثاق مبادئ لمحاربة البناء العشوائي في الحقل الديني…، إلى تسليط الضوء على حدة الإشكالات التي لم يتم حلها داخل نظام حقوق الإنسان المعاصر..، باعتباره إرثا حداثيا ودعامة أساسية لقيام معمار العولمة الذي لا يبدو في نظرنا مؤهلا أخلاقيا للتعامل مع الحريات الدينية للمهاجرين المسلمين، بل يساهم في الاضطرابات السياسية المحيطة بهم وبطالبي اللجوء في أوروبا وأمريكا الشمالية، ويبلغ هذا التوتر ذروته حين تعمم صفة المهاجر انتقاصا لتشمل حتى المواطنين المسلمين من الجيل الثالث والرابع تشكيكا في اندماجهم وإمعانا في الإنتقاص بهويتهم كمكون أساس لمجتمعات متعددة.
تهدف هذه المقالة إلى إثارة مجموعة من الأسئلة الهامة من قبيل:
ألا يعتبر جفاء الحداثة الأخلاقي، نداء لجعل الأخلاقي النطاق المركزي بدل النطاق الثانوي في السياسات الغربية تجاه الهجرة؟ إلى أي حد تشكل موجة أدلجة الإسلام بالغرب، بما ينطوي عليه من تزييف وتضييق رسالته الكونية، سببا في تعاظم الكراهية ضد المسلمين وتقييد قوانين الهجرة ؟ إلى أي مدى تكشف هجرة المسلمين الجماعية إلى الغرب عن ثغرات في حماية الحرية الدينية والإقرار بالتعددية الثقافية في ظل نظام حقوق الإنسان الدولي المعاصر؟
هذه الأسئلة وغيرها تجعلنا نطرح سؤالا استشرافيا نعدل فيه عن السؤال التقليدي الذي لطالما انشغل به الفقه التقليدي: هل يجوز العيش في الغرب و الهجرة إليه؟ إلى سؤال راهني: هل يمكن للوجود المسلم الإستمرار في العيش بالغرب أمام حملات اقتلاع الوجود المسلم ؟
محاولة فهم تجارب الهجرة و تأطيرها من خلال السردية الدينية
يأتي هذا المحور من هذه المقالة محاولة منا لمقاربة ظاهرة الهجرة المسلمة إلى الغرب في ضوء السردية الدينية في مقابل سردية الحداثة بتحيزاتها المعرفية المتمركزة حول الذات الغربية.
غالبا ما تشكل القصص، النصوص والروايات الدينية خزانات مركزية لتجارب العديد من المهاجرين، حيث توفر وسيلة لفهم وإعادة سرد تجاربهم المعيشية. والمهاجرون وفق هذا المنطق لا يفسرون مآزقهم وتجاربهم فحسب ، بل يفسرون أيضا النصوص الدينية نفسها.
وبالفعل، فإن إعادة القراءات التي أُنجزت من خلال عدسة الهجرة غالبا ما تلقي ضوءًا جديدًا على النصوص القديمة، مما يؤدي إلى فهمها بطرق جديدة نتيجة لتجارب الهجرة على وجه التحديد، حيث يمكن للمهاجرين ، أن يميزوا المقدس في رحلاتهم وتجاربهم الخاصة.
يحدثنا القرآن الكريم عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وقبل ذلك هجرة المسلمين إلى الحبشة، حيث تسنى للمسلمين على إثرهما أن يعيشوا في مجتمعات آمنة متعددة دينيا وثقافيا سواء تحت حكم الإسلام بموجب الدستور الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما عرف بوثيقة المدينة، أو تحت حكم النصرانية في ظل حكم ملك عادل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ بأرضِ الحَبَشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عندَه؛ فالحَقوا ببِلادِه حتى يَجعَلَ اللهُ لكم فَرَجًا ومَخرجًا. فخرَجْنا إليه أرسالًا، حتى اجتَمَعْنا، فنزَلْنا بخيرِ دارٍ إلى خيرِ جارٍ، أمِنَّا على دِينِنا).
ويحدثنا القرآن الكريم والكتب السماوية عموما عن هجرة يوسف عليه السلام وهي هجرة اضطرارية قسرية، تظل خزانا معرفيا إنسانيا وأيقونة لكل المهجرين تهجيرا لاإراديا تحت صنوف العبودية والعذاب والسجن والتنكيل؛ كتهجير الأفرو أمريكيين إلى العالم الجديد. وثمة ملحظ آخر في هجرة يوسف يحيلنا على شيئ مما يروج في قاموس الهجرة المعاصر ألا وهو “لمُّ الشمل العائلي”، لا سيما حينما استقدم يوسف والديه وإخوته إلى مصر ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)
ومن هذا المنطلق يمكن قراءة يوسف عليه السلام في العالم المعاصر باعتبارها مرجعية رمزية لملايين البشر الذين يهربون من الإضطهاد والمشقة في جميع أنحاء العالم ويصلون إلى بلاد جديدة ثم يعملون بجد لجلب ولم الشمل بأسرهم وأحبائهم من أراضي بعيدة.
ولقد هاجر كذلك إبراهيم ولوط عليهما السلام. ( فَآمَنَ لَهُ لُوط وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِر إِلَى رَبِّي).
وفي هذا المقام يحتفظ لنا التاريخ الحديث بلوحة فنية للفنان التشكيلي Rembrandt استوحاها من النص المقدس الذي تأتلف فيه الديانات السماوية الثلاث، وتعتبر ملهما في التأسيس لخطاب معاصر للهجرة يكشف زيف الخطابات السياسية والسسيلوجية المعاصرة التي تخلقت في رحم الحداثة حتى فاحت عنصرية تزكم الأنوف.
اللوحة الفنية تظهر حول النبي إبراهيم كل من هاجر الخادمة الشابة الخصبة الولود وبجانبها ابنها إسماعيل، حيث تم إرسالهما إلى البراري لاجئين، أما سارة الأصلية العبرية فقد تم تصويرها على أنها امرأة عجوز عقيمة تنظر إلى اللاجئ المغادر من نافذة علوية.
ومن القراءات المعاصرة التي وقفت عليها للوحة المذكورة ولعلها مما يثير هلع الغرب، هي تشبيه الغرب ب”مكة الجديدة” حيث سارة تبدو عجوزة عقيمة مرة أخرى وهي صورة لأوروبا القارة العجوز ذات التركيبة السكانية المنهكة المتعبة تحت جراح الحداثة، وسارة شابة خصبة مرة أخرى، إلا أن السؤال الوجيه الذي يبدو راهنيا بعيدا عن منطق الإحتراب والهويات القاتلة هو: ماذا استلهم اللاجئون الذين وفدوا على بلاد أوروبا من منهج إسماعيل وأبيه إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم من أجل إعادة تعريف هوية أوروبا أخلاقيا وروحيا، وانتشالها من سكرة الحداثة؟
الهجرة المسلمة إلى الغرب ظاهرة سياقية
لقد أصبح موضوع الهجرة من البلدان الإسلامية إلى الغرب كابوسا مؤرقا للمجتمعات الغربية إن لم نقل اختبارا عسيرا يعكس مصداقية انطباق المبادئ الغربية في موضوعات التعددية، التسامح، الديمقراطية، حقوق الإنسان على ساحة أراضيها، والتي لطالما قامت بالتبشير بها خارج بلدانها مدعية كونيتها، عالميتها ومركزيتها، بل وشرعت لنفسها حق التدخل في بلدان كثيرة لحملها على الإلتزام بهذه المبادئ وتنزيلها.
و بالموازاة تعتبر التحديات الأوروبية للوجود المسلم بالغرب على مستوى سياسات فرض الإندماج بالقوة وقوانين تقييد الهجرة وسياسات مكافحة الإرهاب وتأطير الشأن الديني الإسلامي بما يناسب قوانين البلاد الأوروبية، مهمازا للفقهاء والمفكرين لتطوير فقه جديد يضع في الحسبان تغير المناطات وتبدل السياقات والمآلات.
إن المتتبع لحجم النقاشات السياسية والفكرية في الغرب حول قضايا الهجرة ليسجل ذلك التضخم الحاصل في هذا الخطاب؛ فبدلا من أن يتمحور حول العائدات الاقتصادية و إمكانيات الإستفادة من هذه التدفقات في التأسيس لمجتمعات تحمل صبغة التعددية الثقافية والدينية، يتركز النقاش بدلاً من ذلك على مخاطر هذه التعددية في القضاء على الهوية القومية الأوروبية.
إن التضخم في الخطاب الغربي على المستويات السياسية الأكاديمية، والفكرية حول هجرة المسلمين إلى الغرب، إنما يعكس غالبا إخفاقات هذا الخطاب للخروج من أزماته ومآزقه، وإن شئت قلت يجسد آلية سيكولوجية تعويضية هدفها التمويه وصرف النظر عن الواقع الذي يتصادم مع هذا الخطاب.
إن مكمن الإشكال في الأمر هو أن كثيرا من الدول الغربية (فرنسا، بلجيكا، هولاندا، إسبانيا، الدنمارك، أمريكا… ) أصبحت تستفيق عل إيقاع واقع جديد يحبل بمجموعة من المتغيرات العالمية التي تشير فيها أصابع الإتهام إلى أن المهاجرين المسلمين عبر محطات مختلفة من أعمال الشغب والتطرف، ليس لديهم القدرة ولا الرغبة على الإندماج في المجتمعات الغربية، وزاد في تعميق مشاعر العداء ضد الهجرة الإسلامية طلب الكنيسة الكاثوليكية أن يعتبر الدستور الأوروبي المسيحية الدين الرسمي ذي المرجعية التأسيسية لأوروبا، هذا فضلاً عن المعارضة الواسعة لقبول تركيا للإنضمام في الإتحاد الأوروبي.
إن الصورة التي تكونت في المخيال الغربي عن الهجرة في ستينات وسبعينات القرن الماضي لم تعد هي نفس الصورة في العقود اللاحقة، فمع تزايد وتيرة الهجرة عن طريق سلسىة الهجرة، أو التجمع العائلي، واللجوء السياسي، تنامت المطالب الهوياتية للوجود المسلم بالغرب، وبخاصة بعد أن دخل العمل الإسلامي مرحلة من المأسسة لا سيما مع موجة الأسلمة التي طالت هذه المجتمعات.
لم يعد الغرب خلافا لنظرته بالأمس ينظر إلى الهجرة باعتبارها مصدرا للوفرة الإقتصادية، وأن وجود هؤلاء المهاجرين هو مجرد وجود عارض ليس أبدي، وأن هجرتهم محكومة بأسطورة العودة… إنما أصبح يتنامى توجس لدى الدوائر الرسمية الغربية من أن خطرا يداهم هويتها القومية، لذلك عرفت المجتمعات الغربية مقاومة من حركات مختلفة كجيل الهوية، وحركة الأورابيا وحركات الإسلاموفوبيا ، معبرة ليس فحسب عن انتقادها للإسلام، بل عن خوفها وكراهيتها، وعدائها للإسلام والمسلمين ، فلا غرو لذلك أننا نجد في الوقت الراهن تطابقا في المواقف وحزمة التدابير بين المسؤولين الغربيين على اختلاف مستوياتهم تجاه الإسلام والمسلمين، ففي الوقت الذي تعهد فيها زعيم حزب “من أجل الحرية” اليميني المتطرف في هولندا، خيرت فيلدرز بإنشاء وزارة للهجرة وإعادة اللاجئين و”نزع الأسلمة والحد من انتشار الأيديولوجيا الإسلامية” عن طريق حظر المساجد والمدارس الإسلامية وارتداء الحجاب، وإغلاق الحدود أمام “الباحثين عن الحظ” والمهاجرين من الدول الإسلامية، نجد في الدنمارك شبه تطابق بين عقيدة اليمين المتطرف وغيره من الأحزاب، فمنذ شهور ووزير الهجرة والإندماج ” ماتياس تيسفاي” لا يفتر له عزم في التوعد بمعاقبة كل الجهات التي تسهر على إنتاج إسلام يعادي القيم الدنماركية لا سيما في مجال مساواة المرأة بالرجل، كما توعد بمحاربة “الإيديلوجيا الإسلامية” التي أكد على أنها تستفرد بتسيير شؤون قطاع واسع من المسلمين بهذا البلد، هذا ولم يكن نشازا في قراراته المنمطة سائرا على نهج أسلافه ومعاصريه في الحكومة الدنماركية حيث اعتبر المهاجرين من بلاد شمال إفريقيا والشرق الأوسط في طليعة الجاليات التي ليس لها القدرة ولا الرغبة في الإندماج، ..و للإشارة تُعرف الدنمارك بكونها البلد الوحيد على المستوى الأوروبي الذي أصدر قوانين صارمة للحد من وتيرة الهجرة واستقبال اللاجئين من بلدان مسلمة.
وبكل حزم واستباقية يصدر ماكرون ميثاق مبادئ لتنظيم البناء العشوائي في الحقل الديني بفرنسا بالشكل الذي لا يتصادم مع قيم الجمهورية… ورغم أننا نتحدث عن الجيل الرابع وربما الخامس من المسلمين بالغرب و بفرنسا، لا تتوانى الأحزاب الفرنسية أو غيرها في دول أخرى – بعد الفوز في الإنتخابات والإستفادة من أصواتها- بتبخيس وتجاهل مكانتهم بوصفهم بالمهاجرين بدل المواطنين.
وقبل هذه الفترة وخلال السنوات الأربع الماضية كان ترامب رائدا في سن قوانين صارمة ضد مختلف أشكال الهجرة التي تهم المسلمين. ولا يقل أهمية عن مواقف وتدابير السياسيين الغربيين، مباركة رجال الدين والقساوسة من خلال تصريحات خطيرة ضد الإسلام والمسلمين، مثال ذلك ما صدر مؤخرا عن رئيس أساقفة اليونان بأن الإسلام وأتباعه حزب توسعي وليس دينا، وتعاليم محمد تدعو إلى ذلك.
إن التأمل في هذه الأحداث في علاقة بموضوع الهجرة، لتثور معها أسئلة كثيرة يتقاطع فيها الديني، الفلسفي، الإيديلوجي والسياسي، ولعلنا نخرج في مقاربة هذا الموضوع بخلاصات أساسية:
إن السياسات الغربية في علاقة بموضوع الهجرة و من ثم ما يستتبعه من ضرورة اعتبار الوجود المسلم بالغرب كرافد في التعددية الثقافية للمجتمعات الغربية، تفتقد بتعبير د. وائل حلاق إلى “جعل الأخلاقي النطاق المركزي بدل النطاق الثانوي” ، وهنا يستوجب الأمر مساءلة موضوعة حقوق الإنسان بمفهومها الإستثنائي الذي آلت إليه، فادِّعاء مركزية الخطاب غالبا ما يحيلنا على أدلجته ليخدم مصالح الغرب الغالب الذي نحت المفهوم وأنتجه في ضوء تصوراته وأغراضه، مقصيا إمكانيات تطعيم هذا الخطاب ليسع المشترك الإنساني فيصبح أفقا ممتدا للإنسانيةجمعاء؛ بصفته خطابا لمطلق الإنسان لا لجنس على حساب آخر، و لا لدين دون آخر.
إن توسيع دائرة التفاكر في مسألة حقوق الإنسان بات أمرا لازبا مادام الأمر يتعلق بالإنسان مطلق الإنسان، و باعتبار أن الإنسان كائن أخلاقي فمن الضروري من أجل صياغة خطاب كوني لحقوق الإنسان أن يلتفت إلى روح هذا الخطاب و مراعاة المقاصد التي من أجلها خلق هذا الإنسان وهذا يحيلنا على حلقة مفقودة في الخطاب المعاصر لحقوق الإنسان الذي تخلق في رحم سردية الحداثة (التي تقوم على استبدال الأخلاق المتعالية بأخلاق نقدية وعقلانية) بعد أن أعلن انفصاله عن السردية الدينية.ا
إن التفكير في موضوعة الهجرة بأدوات النطاق المركزي؛ أي من داخل سرديات المركزية الغربية والحداثة يترتب عنه تكريس سرديات هذه المركزية التي ترى في التعددية الثقافية والدينية في مجتمعاتها خطرا على هويتها القومية، وبالتالي تقوم بتقييد قوانين الهجرة، وطرد المهاجرين.. ، ولا تعترف بالإرث الكولونيالي الإبادي الذي كان سببا في هذه الهجرات أو ذلك التهجير.
الهجرة إلى الغرب بين السردية الصدامية وسردية المشترك الديني
شكل إصدار الكاتب الفرنسي Renault Camus لكتابه: Le Grand Remplacement مرجعا لعقيدة اليمين المتطرف ومن سار على دربه، لقد عد بحق اكتشافا بارعا في مجاله، حيث أصبح ليس فحسب مصدر إلهام لليمين المتطرف على الصعيد الأوروبي، بل ومدرسة فكرية لجيل الهوية Generation identitaire” وتشترك عقيدة
الفريقين في رفض تحول المجتمعات الغربية إلى مجتمعات ذات طبيعة تعددية ثقافية ودينية، لأن ذلك يشكل خطرا على هويتها القومية؛ فتعاظم الهجرة المسلمة إلى الغرب بفعل الحروب والفتن القائمة بالبلدان الإسلامية، وارتفاع معدل الخصوبة لدى الوجود المسلم بالغرب، أسهما في تطوير السياسات المناهضة للهجرة، و الإسراع بسن قوانين تهم هوية واندماج المسلمين لاتخلو من هلعية، تنميط وتعميم، وتبسيط مفاده تأكيد وجود هوية واحدة للمسلمين، واعتبار المسلمين طابورا أصوليا خامسا.
إذا كان الخطاب الإسلامي المتطرف يوصف في عمومه باعتباره بناء جدليا يرفض الغرب ويدعو إلى اعتزاله ومحاربته ، فحتى في حالات اعتداله لا تنفك خطاباته أن تكون في حاجة إلى إعادة نظر لا سيما حينما تجعل الغاية القصوى للوجود المسلم بالغرب هي التبشير بالإسلام و التمكين لتوسعه وانتشاره (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار …)، تنفيذا لشعار “الإسلام هو الحل” دون استيعاب للمناطات والسياقات والمآلات الجديدة، ففي الأدبيات التنظيرية لفقه الأقليات المسلمة (د. يوسف القرضاوي ود. عبد المجيد النجار) مثلا يتم وصف الوجود المسلم بأنه وجود ضرورة تحت المغلوبية الحضارية، والإلزام القانوني، والدونية الحضارية، والضغط الثقافي، و يهدف هذا الوجود إلى التبشير برسالة الإسلام و مزاحمة نفوذ و ضغط اللوبي اليهودي في الغرب.
إن مثل هذا الخطاب بقدر الهلع الذي يبثه في نفوس الغربيين ينبئ بلا شك عن خلل في فهم علاقة المسلمين (وهم جزء من هذا الغرب) بالغرب، إنه خطاب لايحرر المسلمين من غيتوهات الدين والنفس والعقل والمجتمع، بقدر ما يصنع حواجز نفسية سميكة تفصلهم عن التعاطي الحقيقي والحقوقي كمواطنين في المجتمعات الغربية مما يكرس عقدة الضحية ويستديم حالة الأقلية وصفة المهاجر والإستضعاف والإندماج المغشوش.
إن حيزا واسعا من الخطاب الإسلامي الذي بصم فقه الأقليات المسلمة بالغرب يستمد لاشعوريا مقومات تفكيره من ثنائية “الإسلام والغرب” وهي ثنائية متجاوزة تعتبر الغرب مفهوما إستاتيكيا جامدا، جوهرانيا لا سياقيا، و شرا مطلقا، ولا تلتفت إلى عنصر المشترك الإنساني فيه، بل إنها تلتقي و تقتات على ثنائية مهترئة أضحت جزء من التاريخ وهي “دار الإسلام ودار الحرب”.
إن المخيال الجمعي الغربي في علاقته بالإسلام والمسلمين تحكمه مجموعة من المحطات المأساوية التي رسخها التداول التاريخي، مما أنتج لنا خطابا سياسيا انتقائيا و مؤدلجا في مجال الهجرة يستهدف وجود المسلمين بالغرب دون غيرهم. يتخوف الغربيون أمام تدفق هجرات المسلمين إليه مما يمكن أن نسميه بالغزوة الثالثة بأسلوب القوة المرنة Soft Power envasion، فعموما يمكن في إطار رصد دورات التحدي الإستجابة بتعبير أرنولد توينبي بين المسلمين والأوروبيين على أراضي أوروبا، الوقوف على غزوتين أولاهما كانت أيام الفتح الأموي من جنوب غرب أوروبا (الأندلس) والتي انتهت بسقوط غرناطة 1492م، وثانيهما كانت تحت التدخل العثماني العسكري وحصار فيينا 1683م.
إن الغرب في الوقت الراهن بدراساته الإستشرافية والإستراتيجية يدرك تمام الإدراك أبعاد هذه الغزوة الثالثة، ويتحرك على مستويات مختلفة لتفريغ هذه الغزوة من محتواها؛ إنها في نظرنا بداية نفاذ صبر الحداثة والعلمانية، حيث يتم استصدار القوانين لتقييد الهجرة المسلمة بكافة أشكالها، وفرض قوانين صارمة لمحاربة كل تعارض متوهم بين الهوية الدينية وموقعها في المجال العام أو المجال الخاص وفق شروط العلمانيات الأوروبية، والتي يعتبر النموذج الفرنسي أكثرها تطرفاLa laïcité falsifiée,Jean Baubérot.
إن الظرفية الدولية المتوترة الناجمة عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما تمخضت عنه من قرارات سيادية عليا لتأطير الشأن الديني العالمي (تقرير راند الشهير)، علاوة على الأدبيات التي تنفي إمكانيات التعايش المشترك والوئام الإجتماعي في مجتمعات متعددة دينيا، سواء مع برنارد لويس في كتابه “الإسلام والغرب” أو صامويل هونتينتونغ في كتابه “صدام الحضارات” … ، كل ذلك أثر ولا يزال على المدركات المتبادلة بين المسلمين في الغرب ومجتمعاتهم المضيفة، ويزيد في صلاحية السردية الصدامية عند كلا الفسطاطين.
إن واقع المسلمين بالغرب يقع بين طرفي نقيض ففي الوقت الذي نجد فيه القادة السياسيون الغربيون يعبرون عن قلقهم حيث يصورون الإسلام على أنه “دين” يختطفه الأصوليون، ويستخدمونه لأغراض سياسية وخبيثة، وهو ما تم تحليله من قبل مؤلفين مثل Mahmood Mamdani و Rapahël Liogier، نجد نظيرا لهذا القلق عندجون John Baubérot وهو مؤسس سسيلوجية العلمانية، حيث يؤكد أن المحافظين الفرنسيين واليمين المتطرف قد اختطفوا العلمانية؛ لقد تمكنوا من تحريف “العلمانية” إلى شيء معادٍ للإسلام والمسلمين ، بما يتعارض مع معناها الأصلي، حيث تمت بتعبير د. علي حرب، مصادرة المفهوم مصادرة إقطاعية.
أمام الأحداث المتسارعة والسياسات التي تستهدف المسلمين بمجموعة من الدول الغربية، والتي مدارها الحسم في جدل ثنائيات الإسلام والعلمانية، الهوية والمواطنة، الشريعة والقوانين الوضعية، والتي كشف ميثاق المبادئ الأخير بفرنسا عن أبرز تجلياتها، نؤكد على أن هذه التحديات بقدر ما تفتح أفاقا للتجديد الديني، فإنها في الوقت ذاته ومن حيث المنهج، تفرض على الفقهاء والمفكرين والعلماء المختصين دراسة خريطة هذه التحديات مزودين بنتائج التحليلات الإمبريقية ودراسات الحالات المحددة من أجل الإقتراب من مناطق السياسات التي لا تستهدف المتأسلمين(الأسلمة) فحسب بل تشمل المسلمين جميعا .
ولنتساءل على سبيل المثال هل هذه القوانين والقيود تستهدف فعلا موجة الأسلمة في الغرب أم الإسلام والمسلمين بالدرجة الأولى؟
إن الفقه الإسلامي في الغرب وبعد استدخال المعادلة الغربية ل”ما بعد الحداثة” إلى الإطار الإسلامي أصبح يشهد اضطرارا او اختيارا، عبورا تحت الإكراه إلى “الأسلمة السائلة” يتحول فيها إلى أداة طيعة للإقتراب من القيم الحداثية، حيث يعاد تشكيل التقليد الإسلامي على شاكلة المسيحية البروتستانية الليبرالية في أشكال من الفردنة والخصخصة (طلال أسد، أوليفيه روا)
مما لا شك فيه أننا نعيش اليوم مرحلة «ما بعد الأسلمة» التي تواكب “مرحلة ما بعد الحداثة” ولقد تركت أبرز بصماتها (السيولة) واضحة على مستوى الإجتهاد الفقهي أو المقاصدي الذي فقد خاصيته الصلبة من أجل مكاسب براغماتية.
وفي هذا المقام بالذات، إذا كنا نسلم ابتداء بما ذهب إليه إدوارد سعيد في مقولته:Traveling islam becomes travel within islam على أن الهجرة المسلمة إلى الغرب غالبا ما تكون حافزا مهما لتجديد ومراجعة المهاجرين لأنماط تدينهم وتمثلهم لإسلامهم، فإننا لا نسلم بصحة أشكال ومخرجات التجديد التي تخلقت في رحم الحداثة والتي لا يستطيع إدوارد سعيد أن يخالف نموذجها المعرفي، فهذا الأخير وكما يؤاخذ عليه وائل حلاق يعتبر الحداثة الغربية وانجازاتها المعيار الحصري لفهم الآخر بل فهم الشرق/ الإسلام الذي يدافع عنه.
إن عملية الإنتقال بالإسلام من سياق إلى آخر، تفرض حتما على المسلمين بالغرب القيام بعملية إعادة التفكير في الإسلام Rethinking islam من أجل إنتاج “إسلام جديد” يجعل من أولوياته كيف يمكن تفعيل دور الدين ليضطلع بمهمة رأب الصدع الأخلاقي للحداثة الغربية، وتحرير العلاقات الإنسانية من عوائق التواصل والإستئسار لرواسب الماضي، و تسليع الإنسانية.. ، لجمعها تحت سقف منظومة القيم المشتركة التي تأتلف فيها الأديان في مشهد تعددي متراحم ولا تختلف في مشهد أناني مميت و قاتل. ا
و تظل محاولات المفكر و الفيلسوف المغربي د. طه عبد الرحمن رائدة في ترشيح الإسلام للعب هذا الدور، فيما يسميه ب”الكونية المشتركة” ، وهي تطبيقات أخلاقية إسلامية لروح الحداثة بأفق كوني، تضع حدا لأعطاب الحداثة الغربية، التي لا تصلح تطبيقاتها اللأخلاقية أن تكون كونية لطبيعتها اللائكية وقصور العقل الذي تقوم عليه، والإسلام على العكس من ذلك مؤهل لتدبير المشترك الإنساني ومزود بكل الخصائص التي تجعل منه بديلا متوازنا روحيا وماديا، باعتباره دينا عالميا، ويؤكد طه عبد الرحمن أن التأويل الأخلاقي لروح الإسلام قادر على المساهمة في الحوار العالمي حول مستقبل الإنسان عامة، حيث يدعو في هذا الإطار إلى تجاوز مرحلة التنافسية الضيقة بين الدول، أو الديانات لإحتكار الهيمنة إلى مرحلة من التعاون والتضامن تتحقق به تعددية أخلاقية تتحول إلى أخلاق مشتركة، حيث تنفتح الذات على الآخر، حتى يصبح الإنسان ذاتا يعتز بموروثه الثقافي، العقدي والحضاري وآخر في الوقت ذاته ينعم بالمشترك الإنساني.
وللإشارة فلقد صدر للدكتور محمد حصحاص في هذا المجال كتابا جديدا باللغة الإنجليزية بعنوان”الأخلاق الإسلامية ونسق الائتمانية” يعرف فيه بفكر طه عبد الرحمان الفلسفي لترميم الشرخ الأخلاقي للحداثة الغربية.
خاتمة
يجري في التنظير لأنماط التواجد الإنساني داخل المجتمعات الإنسانية التفريق بين نظريتين: أولاهما تقوم على الذوبان في بوتقة الصهر حيث يلزم الغرب – وهو المركز- الهوامش بتقليده والإنصهار فيه وهذا ما يسمى Melting Pot theory أما الشكل الثاني فيسمى Salade Bowl Theory، حيث يجري التمثيل له بصحن سَلَطة تتعدد الأنواع المكونة له، حيث يستقل كل نوع بلونه واسمه ومذاقه دون أن يؤثر ذلك في تشكيل لوحة فسيفسائية جميلة ومذاق لذيذ.
إن التعددية التي يتوق إليها المسلمون في المجتمعات الغربية ينبغي أن تتأسس على النموذج الثاني، الذي يتكئ على القبول بمبدأ الإختلاف. والإنفراد بالهوية وما يميزها من خصائص هو شرط أساسي لكل حوار بين الذات والآخر، بما يستتبع ذلك من اعتراف وتعارف بعيدا عن التنميط والتبخيس في رحلة للبحث عن هوية أخرى مشتركة تجمعه بالآخر، ليتحول المسلم في مجتمع متعدد إلى أن يكون ذاتا وآخر في الآن ذاته يعيش في تناغم وانسجام.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13445