تأملات في خطاب جلالة الملك محمد السادس
الصادق أحمد العثماني – البرازيل
في لحظة تاريخية فارقة، ألقى جلالة الملك محمد السادس خطاباً متميزاً بمناسبة اعتماد مجلس الأمن الدولي قراراً جديداً يؤكد دعمه الكامل للمقترح المغربي بشأن الحكم الذاتي كحلٍّ عادل وواقعي ودائم للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية؛ بحيث لم يكن الخطاب مجرّد تعليق على حدثٍ دبلوماسي؛ بل إعلاناً عن تحوّلٍ عميق في الوعي السياسي المغربي، وتجسيداً لفلسفة الحكم الراشد التي تجعل من الكلمة وسيلة للبناء لا للمواجهة، ومن النصر باباً للسلام لا ذريعة للغلبة.
فقد استهل جلالة الملك محمد السادس خطابه بآية قرآنية بليغة “إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً”، مما يعني أن الملك في هذه اللحظات لا يخاطب السياسة ؛ بل يخاطب القلب والروح، فالفتح الذي تحدّث عنه ليس فتح أرضٍ أو انتصاراً على خصم؛ بل فتح وعيٍ جديد يُعيد تعريف القوة، ويجعلها قرينة بالحكمة لا بالسطوة.
لقد ارتقى الخطاب فوق صخب الخلافات الإقليمية، ليحوّل لحظة الانتصار السياسي إلى دعوةٍ أخلاقية تتجاوز الجغرافيا نحو أفقٍ إنساني أرحب، أساسه الثقة والاحترام وحسن الجوار .
في كلمات خطابه، منح جلالته للسياسة معنى أعمق من إدارة الملفات والنزاعات، وجعلها ممارسةً أخلاقية تستمد شرعيتها من صدق النية وسموّ المقاصد. فقد دعا جلالة الملك، في لحظة تعبّر عن نضجٍ نادرٍ في العلاقات الدولية، الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى “حوارٍ أخوي صادق” من أجل تجاوز الخلافات وبناء علاقات جديدة تقوم على الأخوة والثقة.
كانت تلك الدعوة أكثر من مبادرة سياسية؛ كانت ترجمة عملية لأخلاق الملوك الذين لا يرون في الجار خصماً؛ بل شريكاً وصديقا حميما عزيزا .
لم يتحدث جلالة الملك من موقع المنتصر؛ بل من مقام القائد الذي يدرك أن النصر لا يُقاس بما نكسبه من ملفات؛ بل بما نزرعه من جسور بين الشعوب. وفي تلك اللحظة بالذات، انتصرت الأخلاق على الجغرافيا، والإنسان على السياسة، والمستقبل على الماضي..لغة الخطاب جاءت محمّلة برصانة البيان وصدق الشعور.
لم تكن زينة لفظية، بل بلاغة من نوعٍ نادر: بلاغة الحكمة. فتكرار عبارة “شعبي العزيز” كان أشبه بخيطٍ روحي يربط القائد بشعبه، يُشعر المتلقي أن الخطاب ليس موجهاً إلى الخارج فقط؛ بل إلى الضمير الجمعي المغربي، وإلى وجدان الأمة المغاربية التي تتوق إلى لقاءٍ مؤجل بين إخوتها.
في كل جملة، نلمس توازناً بين العقل والعاطفة، بين دقة الفكرة ودفء الإحساس، بين الإيمان بالمبدأ والتمسك بالكرامة الوطنية.
في الحقيقة لم يكن خطاب الملك محمد السادس دفاعاً عن موقفٍ أو تبريراً لقرارٍ أممي؛ بل بياناً فلسفياً في معنى الدولة الحديثة وقيادة شؤون الحياة المعاصرة؛ دولة لا تبني مجدها على الصراع؛ بل على قيم العدالة والتعايش، وقيادة تعتبر الحوار امتداداً للقوة لا نقيضاً لها.
إن ما عبّر عنه جلالة الملك هو رؤية لمستقبلٍ مغاربيٍّ موحّد، يتجاوز الانغلاق التاريخي نحو التكامل والازدهار المشترك، حيث تصبح السياسة علماً للأمل، والأخلاق طريقاً للمصالحة، والإنسان هو الغاية الأولى والأخيرة.
لقد جمع الخطاب بين الواقعية والسموّ، بين الإقناع والوجدان، بين الفعل السياسي والنَفَس الإنساني، ليُثبت أن القيادة الحقيقية ليست في إعلان الانتصارات؛ بل في القدرة على تحويلها إلى فرص للسلام.
وهكذا، قدّم جلالة الملك محمد السادس في خطابه يوم أمس درساً بليغاً في الحكمة السياسية المتخلقة، مُجسِّداً بأفعاله قبل كلماته روح الحديث النبوي الشريف: “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده”.
إنها أخلاق الملوك حين تلتقي بأخلاق النبوة، فتتحول القيادة إلى رسالة، والسياسة إلى عبادة في خدمة السلام والإنسان .