
عبد الخالق حسين: رئيس المجلس العلمي لطانطان
تشرفت في السنة الماضية كغيري من رؤساء المجالس العلمية الافاضل بالمملكة الشريفة بالمشاركة في احياء ليلة الترحم على مولانا امير المؤمنين الحسن الثاني طيب الله تراه..
خرجنا من الفندق بعد العصر راجلين باتجاه مسجد حسان حيث الضريح ذو القبة الخضراء المضلعة الجوانب؛ والتي تظلل القبور الشريفة؛ قبر مولانا محمدا الخامس وقبر مولانا الحسن الثاني طيب الله ثراهما.. كان يوما معتدل الطقس ؛ ساكن الريح ؛ مع شمس يكاد ضوؤها يضيء..
تشعر بأن المشي في الزقاق الموصل الى المسجد ليس كمشي في زقاق غيره؛ عبق تاريخ المملكة الشريفة يحفك من كل زاوية؛ و كأن جدران البنايات تكلمك و تهمس بك ” امش الهوينا فكل “سور” شاهد على ملحمة بطولية لأجدادك؛ وكل شبر من الارض مسقي بعرق جبهة ولي مجاهد سجد هنا؛ او نزل من صهوة فرسه ليعدل سرجه و يمشي متبخترا بعد الاتخان في العدو..”
تتزاحم صور تاريخ مدينة الرباط المجيد الذي درسناه في مدارسنا؛ او اطلعنا عليه شبابا في كتب الدكتور ابراهيم حركات؛ او كهولا في مدونات الدكتور محمد القبلي..
نسمات هواء الرباط موجات محملة بخواطر و لوائح و طوالع تحيي الذاكرة حينا و تنعش الوجدان الوطني أحيانا..
من هنا مر سلاطين العزة و الصولة و الهيبة؛ الذين كان عالم الشمال يهابهم؛ و يفرق لذكر أسمائهم.. من هنا مر امير المؤمنين ابن امير المؤمنين ابن امير المؤمنين ابن امير المؤمنين راجلا او فارسا ليتلقى البيعة او يؤدي صلاة الجمعة او العيد قرونا متطاولة.. من هنا مرت “الحركة” السلطانية لبسط الرحمة والأمن و حماية حمى الملة و الدين.. من هنا تدفقت الجموع هاتفة باسم السلطان؛ و لاعنة قوى الاستعمار؛ و منددة بمشاريع الظهير العنصري ..
من هنا هاج الناس و زلزلوا الارض تحت أقدام الإقامة العامة مطالبين بعودة سبط سيدنا رسول الله من منفاه..و هو المطلب الذي كان..
فجأة تراءت لي صومعة حسان شامخة في زينتها و بهائها وطاوسيتها؛ تطل على التاريخ السياسي و العسكري من شاهق؛ شاهدة على أن الحق يعلو ولا يعلى عليه؛ مكتنزة و مستجمعة لكلمات و وصايا السلطان “أن استمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم و طاعة سلطانكم ؛ فهنا سند الأذان بالايمان و التمسك بحبل الله موصول بأذان بلال من فوق الكعبة؛ سندا بسلسلة الذهب ؛ وبمتن: حي على الصلاة وراء السلطان إمامكم و أمير جهادكم؛ و حي على الفلاح بأخوتكم ووحدتكم و اجتماعكم وجماعتكم؛ وحذاري من فتن العدو الظاهر والباطن وآخرين لا تعلمونهم”
كلما اقتربت من الصومعة الشاهدة على تاريخ الشموخ و الدفاع عن الحق و التشبت بالارض ؛ سافرت في زمني و زمن أجدادي و أهلي ووطني و انفصلت عن تواريخ غيري ..
تتراءى لك جموع غفيرة تملأ الساحات الجميلة حول مسجد حسان ؛ الأب و الأم والأبناء؛ أطفال وشباب وشيوخ .. تخرج الأسر الرباطية لتستمتع برؤية جلالة الملك؛ إنها رؤية تبركية مكتنزة بالاسرار؛ فما يجمعنا بامير المؤمنين حارت فيها أقلام خبراء و فلاسفة الاستعمار؛ سؤال لا يملك أحد له جواب: ما الذي يجمع الشعب المغربي بالسلطان؟ ما السر وراء هذا التعلق بأمير المؤمنين الصادق و المتجدد عبر الزمان؟..
لقد اعفى مولانا الحسن الثاني رحمه الله ذكاء العالمين من تعب هذا السؤال؛ بقول جلالته في إجابته يوما : ” ما يجمعنا بشعبنا هو حب صوفي” .. وأجزم أنها اجابة تطوي الصحف و تجف معها الأقلام.. فابحث عميقا في مفهوم الحب و العشق عند اولياء الله اهل التزكية الصوفية؛ اهل الصفاء والصفو و الجلاء و الكشف والفتح؛ و المكابدة و العروج الروحي في مقامات الاصطفاء؛ ولسوف يأتيك الجواب عن سؤال حيرتك “يقظة او بوحي خفي”؛ سلاطين المملكة الشريفة يحكمون بإذن يسري عبر التاريخ الروحي وببيعة طلبها الناس من آل بيت رسول الله و هم فيها زاهدون..
نجتمع بباب الصور الخارجي للمسجد بلباسنا المغربي القومي الجلباب الابيض المسجى بسلهام بمثل بياضه و الطربوش الاحمر الناصع منتعلين البلغة الصفراء الفاقع لونها.. يؤذن لنا بالدخول الى ساحة المسجد التي تنتصب فيها بقايا سواري المسجد الذي أمر ببنائه السلطان يعقوب المنصور ؛ سلطان الامبراطورية الموحدية عام 593 للهجرة( 1197م)..
كل سارية تحكي صفحة من تاريخ البطولة و المجد الديني و العلمي .. أسفل كل سارية جلس ولي يزكي مريديه؛ و عالم يفقه طلبته؛ وهذه سارية استند اليها ذاكر لله مر من هنا جسدا وبقي روحا.. عندما تعد السواري التي تؤثت فناء المسجد الذي انهدم سقفه بعوادي الزمان؛ تدرك كم هو فسيح فضاء المسجد ..وكم هو العدد الهائل الذي كان يؤدي الصلاة.. فلا عجب ونحن في ” مملكة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة” ..
من أجمل المناظر التي رأت عيني و أروع المشاهد التي شاهدت وشهدت بنفسي منظر عبورنا من ساحة المسجد التي تنتصب عليها السواري الى داخل مسجد الصلاة؛ هنا تعيش لحظة تتفرد بها المملكة الشريفة؛ كل رجالات الدولة من اعلى درجات الشخصيات العسكرية و الامنية و الوزارية و المؤسسات السيادية و العلماء و اعضاء السلك الديبلوماسي ذكورا ام إناثا الجميع يقف بانتظام و مساواة و بدون تمييز لينتظر دوره للدخول الى المسجد؛ تلتفت لترى من اسند كتفه على كتفك لتجده رئيس الحكومة او رئيس البرلمان او رئيس مؤسسة كذا من المؤسسات السامية..
إنها لحظة التعبير عن “الأسرة المغربية” وهي تجتمع لتقابل الأب الروحي و الجامع للشمل و العاكف على روابط الرحم و الإخوة ..
ندلف الى داخل المسجد فنحس بالنفحات القدسية لبيت الله؛ أطيب البخور التي أنبتتها الارض و ازكى اللحظات التي يتمنى مسلم أن يقضيها خلال عمره كله؛ جلسة في بيت الله بين يدي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم..
أخذ كل منا مقعده الذي انتهى به في المجلس السلطاني المهيب؛ لا تسمع الا كلمات الترحيب و السلام و الدعاء ؛ هنا الجميع يعرف الجميع سواء حقيقة او افتراضا عبر الاعلام .. الم أقل لكم إن الامة المغربية على التحقيق أسرة روحية واحدة ؟
نلتقط “الكتب المعدودة الصفحات” التي رتبت قرب كل مقعد؛ تتقدم متن الكتاب عروس القرآن “سورة يس” ثم قصائد مديح نبوي و أشعار توسل؛ من أجمل و أبلغ ما انتج و ابدع العقل والوجدان المغربي..
بعد لحظات نسمع من بعيد النداء الجماعي: (الله يبارك فعمر سيدي)؛ و هو إشارة إيذان بحضور حضرة السلطان؛ و هي تقاليد مرعية منذ قرون خلت؛ تعبر عن عظيم التوقير و الإجلال و التعظيم لمقام أمير المؤمنين؛ فهو وارث السر المحمدي ؛ و قد أمرنا سبحانه بالتأدب مع حضرة سيدنا رسول الله كما أمرنا بالتأدب مع أهل بيته الأطهار..
يدخل أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله بخطوات مهيبة.. خطوات الملك المقام من ربه خليفة في الأرض ليقوم بالقسط ( إنا جعلناك خليفة في الارض)؛ يتلوه بكل تواضع وثقة ولي عهده مولاي الحسن و شقيقه مولاي رشيد حفظهما الله..
بعد إذن مولانا أمير المؤمنين تنطلق الحناجر الندية لأشهر القراء و المادحين بالمملكة بتلاوة سورة يس؛ ثم تحبير قصائد في مدح سيدنا رسول الله؛ و التوسل باسماء الله الحسنى؛ و التغني بقصيدة المنفرجة للإمام الصوفي سيدي النحوي ؛ بلحن جميل ومقامات اخاذة مؤثرة..
ثم يقوم أمير المؤمنين من وسط الجمع المبارك؛ ليدخل الى صحن الضريح حيث القبرين الشريفين قبر والده أمير المؤمنين الحسن الثاني؛ وقبر جده امير المؤمنين محمد الخامس طيب الله ثراهما؛ حيث يمكث وقتا للدعاء و التضرع..
إن لحظة اختراق أمير المؤمنين مع ولي عهده وشقيقه صفوف الحضور؛ للدخول الى الضريح لا تشبهها لحظة ؛ إنها لحظة شهدتها عن قرب؛ فلم يكن يفصلني عن أمير المؤمنين غير أمتار أقل من الثلاثة؛ ولو وصفت الشعور لخانتني الكلمات ؛ والقدر الذي استطيع اقتناص تعابيره هو : ” إن سلطان المغرب يمشي تلفه هيبة لافحة؛ و انوار كاشفة؛ و إنه لمتواضع في سمته؛ عليه حلية العارفين و جلال الصالحين؛ و إنه إذ يوزع نظراته و ابتساماته وترحيباته و تلويحات يده ؛ فكأنما هو جزء من ذاتك و فرد من هويتك؛ يكتنز حضوره روحانية تغمر المكان بسكون وسكينة ؛ تلمح في حضوره حضور الموكب الطاهر ؛ انطلاقا من حضرة سيدنا رسول الله ؛ مرورا بمولانا ادريس و حفذته من الشرفاء الأماجد..
و أما ولي العهد مولاي الحسن؛ فأمارات الشرف والوقار و الصلاح و خفظ الجناح للمؤمنين تكاد تنطق؛ رأيته هناك أول مرة بصورة مباشرة ؛ فكأني بشاب يسكننا و نسكنه؛ تعارفت أرواحنا قبل تعارف أشباحنا؛ وفي ذلك سر يعرفه كل مغربي من دون الخلق أجمعين ..
أدام الله علينا ظلال إمارة المؤمنين ؛ و سقانا من مددهم..
و زادهم هيبة إلى هيبتهم؛ و أسرارا إلى أسرارهم..
وأيدهم بجنوده التي لانرى؛ و بلطفه الذي عم الورى..آمين
المصدر : https://dinpresse.net/?p=24078