
بقلم: عبد الخالق حسين – رئيس المجلس العلمي لطانطان
1- يوم السبت 15 فبراير 2025، كان يوما تكاد تنعدم فيه الرؤية بسبب رياح شرقية محملة بالغبار، نطلق عليها رياح الشرقي أو لعجاج. لكن الرؤية نوعان: رؤية بالعين، وهي الحاسة المادية في الرأس، ورؤية عقلية وقلبية وروحية يُطلق عليها البصيرة… وقد كان يوم السبت ذاك يوم انفتاح بصيرتنا نحن أبناء الطنطان.
2- دعوني أُبسط إليكم تفاصيل مجريات يوم ليس كالأيام… بعد أن وضعنا آخر اللمسات للحفل التربوي والترفيهي الذي سيقيمه المجلس العلمي بالمركب الاجتماعي الأميرة الجليلة لالة أمينة، والمتواجد ببناية مقر القيادة الاستعمارية الإسبانية سابقا، والتي يُطلق عليها أهل الطنطان صبيطار الصغير، وبعد أن اشتغل فريق من خيرة أطر وعالمات وعلماء المجلس العلمي، وهم: مريم العلاوي، فاتحة لشكر، فاطمة الزهراء بومهدي، وفاء قادم، عبد المالك الرقيبي، والغالية سالكي، طيلة أيام للتحضير لهذا الحفل البهيج، حيث اتُّفق على تنويع الأنشطة بين السمعية، مثل الأناشيد، والمديح، والقراءات القرآنية، والمسابقات، والمهارية، مثل الرسم والتلوين، و”حس-حركية”، مثل ألعاب تسديد الكرات والتدريب على التركيز، وكذا التدرب على مهارات التسوق. كما استهدف المجلس العلمي الجانب الوجداني بالاهتمام بخلق الفرجة، وتقديم الحلويات والهدايا، التي كانت عبارة عن لوازم النظافة والعناية بالأناقة الشخصية من خلال باقة كاملة للوازم الحمام.
3- عند الساعة الثالثة والنصف بعد زوال يوم السبت، كان بهو المركب الاجتماعي الفسيح والجميل مُؤثثا بأنواع الحلويات والهدايا ومعدات التباري والمسابقات. جلس أطفال المركز بشكل دائري على أربع طاولات، كل طاولة تحمل اسم فريق، وفي الجهة المقابلة جلست ضيفات الحفل، وهن أمهات مع أطفالهن. تُرك البهو فارغا لإجراء المسابقات، وصُفَّت كراسٍ على يمين الداخل إلى الفضاء، معدّة لجلوس طاقم المركز، وفضيلة رئيس المجلس العلمي، وأعضاء المجلس المرافقين له، الأستاذ الحنصالي والأستاذ سليمان لفقير. كان التقني المسؤول عن الصوتيات قد طلب إمهاله بعض الوقت لإصلاح عطب في جهاز الصوتيات، وكنا نسمع همساته المتقطعة وهو يجرب الميكروفون: (بسم الله.. بسم الله.. السلام.. السلام عليكم..) إلى هذه اللحظة، كانت الأمور تجري كما هو متفق عليه.
4- لكن فجأة، أُخبرنا من طرف السيد الباشا بهذا الخبر: “السيد عامل الإقليم يستأذنكم للمشاركة معكم في الحفل.” ثم أضاف: “المرجو التريث بضع دقائق حتى يلتحق بكم، فهو في الطريق إلى هنا.”
في الحقيقة، غمرني شعور بالبهجة ممزوجا بالصدمة؛ كيف لنا أن نستقبل السيد عامل الإقليم بدون حدٍّ أدنى من البروتوكول الذي يليق بضيف عزيز مثله؟ فنحن في الطنطان نعتبر الضيف أهلًا لكل مظاهر الترحيب، والكرم، والجمال، والجلال…
أنقذنا الموقف بجيرة من لبن، وطبق من ثمر صُفّف على عجل، وكنا قد ألبسنا بعض الأطفال لباس شرطي ودركي وفقيه وعروسة لفتاة من قبل، فجعلناهم في مقدمة المستقبلين للسيد العامل. وقد أُعجب عندما رفعوا له التحية الرسمية عند مدخل المركب التربوي، وانحنى مبتسما يقبّلهم، ويسألهم متفكهًا عن رُتبهم ومهامهم في الإدارة.
5- خرجنا لاستقبال السيد العامل، فكانت المفاجأة أنه قادم لوحده، بدون وفد ولا بروتوكول، وبلباس أنيق غير رسمي. كانت أولى كلماته: “اسمحوا لي أن أشارككم هذا الحفل، وأنا أزوركم بصفتي الشخصية.”
التحقنا بالكراسي، وافتُتح الحفل بتلاوة عطرة لآيات بينات تلتها إحدى المُقرئات المُحبرات، بعدها انتصبنا وقوفًا للاستماع للنشيد الوطني. بعد كلمة رئيس المجلس العلمي، وكلمة مدير المركب التربوي، انطلقت الأنشطة الترفيهية التي يشارك فيها أطفال المركز. وما إن بدأت المنافسات تحتدم بين الأطفال حتى وقف السيد العامل وأشار إليّ قائلا: “هيا نشارك الأطفال فرحتهم!!” ثم انحشر وسط الأطفال، يلاعب هذا، وينافس ذاك، ويناقش آخر، بشكل جعل الأطفال يتفاعلون معه ويدمجونه في اللعب.
6- ترددنا في البداية، ولكن عندما لاحظنا إعجاب الأطفال بسلوك السيد العامل وتفاعلهم معه بالابتسامة والتجاوب، قمنا جميعا وانخرطنا في الفرح والبهجة الجماعية. تذكرت قول سيدنا عمر بن الخطاب: (إذا خلونا إلى أبنائنا تصابينا)، أي: عندما نكون مع أبنائنا نلاعبهم لعب الصبيان.
جاءتنا مُنشطة الحفل، الأستاذة المرشدة التابعة للمجلس العلمي، بمدٍّ من الدراهم، ووزعت علينا بعضها، وطلبت منا أن نعطيها للأطفال ليتوجهوا إلى دكان بقالة هناك في زاوية بالمركب، لنعلمهم أدب التسوق. وزعنا الدراهم على الأطفال، فقام السيد العامل يمسك بيد هذا ليشتري حلوى، ويحمل آخر في حضنه ليختار بنفسه ما يحب من أنواع البسكويت… نعم، لقد قدم السيد العامل أنموذجا فريدا في القُرب والاندماج في عالم الطفولة البريء والفطري… وقد همس في أذني: “ينبغي الانتباه جيدا للصحة النفسية للطفل، فهي أساس بناء الشخصية.” وهذا كلام لا يصدر إلا عن خبير في علم النفس التربوي، وكنت أظن أنني بجانب رجل خبير في علم السياسة والتدبير المجالي!
7- بعد فقرات متنوعة، عبّر فيها أطفال المركز ومُربياته عن انسجام رائع وتناغم شيّق، قمنا مع السيد العامل بجولة حول مرافق المركب، قدم لنا خلالها الأستاذ زكريا الليلي شروحات وافية عن تاريخ المركب وخدماته المستهدفة للأطفال. وقد أبان السيد المدير عن خبرة وكفاءة عالية، ومسؤولية صارمة مبنية على حسٍّ أخلاقي راقٍ في إدارة مؤسسة تحتاج إلى توليفة من الشفافية الإيمانية، والحس الإنساني، والعمق الأخلاقي…
كنت أستمع بإمعان للمجهودات الجبارة التي تقدمها العصبة المغربية، وأقول في نفسي: “إذا أراد الله تصريف خير، يصطفي له من يحب من عباده، والقائمون على هذا المركب من هؤلاء المُصطفين، فهنيئا لهم.”
8- أعجبني سلوك السيد العامل؛ كلما ذُكر له إكراه أو عائق في مسيرة المؤسسة، يجيب: “اعتبروا هذا الأمر محلولًا في القريب.” سمعت المسؤول يقول: “نحتاج مشرفة على المطبخ.” فأجاب السيد العامل: “سوف تلتحق بكم إن شاء الله في القريب.”
9- بعد الاستمتاع بهذه الجولة وكأس شاي، قدمت له هدية عبارة عن مصاحف محمدية باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية، وحامل مصحف خشبي، وسجادة، وشكرته على تشريفه لنا وللمركز بزيارته المباركة المفاجئة. رفع الفقيه الطاهر الحنصالي الدعاء لمولانا أمير المؤمنين محمد السادس، أعزه الله.
10- وكان الختام هو المفاجأة الكبرى للجميع… فبينما كان الأطفال والأمهات والمُربيات والعالمات يشاهدون، انحنى السيد العامل بكل تواضع ليجمع من ساحة المركز المخلفات من أوراق وغيرها، وهو يبتسم قائلا: “ينبغي أن نعطي القدوة لهؤلاء الأطفال!”
صدقوني… شخصية انتظرناها طويلا، ويبدو أن الطنطان دخل زمن الزيارات المفاجئة… وما يليها من النهايات المفاجئة، نسأل الله حسن الخاتمة!
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23453