محمد الولي
لا شك أننا اليوم، نعيش في عالم، لم تعد فيه المسافات تعني الكثير كما كانت في السابق. إننا نجد أنفسنا اليوم معرضين، بسبب التقدم المذهل للتكنولوجيا، لكل التأثيرات التي تأتينا من عوالم بعيدة. إن توحيد العملة: (الدولار)، واللغة: (الإنجليزية) والقوانين الدولية، والفنون والتخييل، وأغلب وسائل العيش من فناجين القهوة إلى تصميم المدن والأحياء، من ملامح هذا العالم الذي أصبح قرية صغيرة. لقد أصبح فضاء الذات والخصوصية الثقافية يتقلص يوماً بعد يوم. بل يمكن الحديث عن “ثقافة كونية”، رغم ما في هذه العبارة من تناقض. ورغم ذلك ففي مجال المعرفة أصبح استكشاف ثقافات الأخر مغرياً، كما أصبح التلاقح الثقافي مثيراً.
في هذا السياق يبدو لي التفكير في العلاقات بين البلاغتين العربية والغربية، أقصد اللاتينية، موضوعاً جذاباً. ولم يحظ إلى الآن بالعناية المستحقة. ولأجل هذه الغاية فإذا كان عندنا إلمام ما هام بالبلاغة العربية، فإن إلمامنا بالبلاغة اللاتينية ما يزال في أطواره الجنينية. وإذا كان تيار البلاغة الغربية يكاد يجرفنا فمن النزاهة العلمية مقاومة هذا التيار الذي يسعى إلى فرض نظام أحادي في علم البلاغة. لا يمكن بل لا يجب أن نغض الطرف عن بلاغات الأمم الأخرى. إن ذلك هو السبيل الذي يمكن أن يهدينا إلى بناء بلاغة عامة عبر مسالك المقارنة. يقول جَان مُولِينُو: “نعتقد أنه لم يعد مقبولاً في مجالي الشعرية والبلاغة، الوقوف عند المركزية الأوروبية التي تسجننا في التقاليد الكلاسيكية أو الكلاسيكية الجديدة. إن المعرفة بالتراثات الأخرى البلاغية لهي الوسيلة الوحيدة لإنشاء بلاغة مقارنة. نستطيع أن نفهم بشكل أفضل، اعتماداً على نظام من التشابهات والاختلافات، المشاكل التي يطرحها تراثنا نفسه”(1) .
وهكذا فإن اختيار البلاغة اللاتينية كطرف ثان في هذه المقارنة يقتضي بالضرورة ربطها بسوابقها عند اليونان. لقد اخترت البلاغة اللاتينية لسبب بسيط، ألا وهو أنها البلاغة التي استلمت نظيرتها من أرسطو بالشرح والتلخيص والتدقيق والتوسيع. إنها وريث فعَّال وغير خامل. وأهم ملامح تطورها هو أنها تحولت من بلاغة الإقناع إلى بلاغة الأسلوب، وإذا شئتم فقولوا تحولت البلاغة من وظيفة الإقناع اليونانية إلى وظيفة الإمتاع اللاتينية. هذا الأمر يعتبر من أهم إنجازات البلاغة أو الخطابة اللاتينية.
أعتقد من الضروري أن أضع بين أيديكم البناية الكاملة التي سنشتغل فيها. مع تعيين بعض أجنحتها. وعلى الرغم من ابتذال هذه المعلومات التي لا يخلو منها بحث في البلاغة الغربية فمن الضروري الاستئناس بها هنا لكي تكون الرحلة واضحة المعالم ما أمكن. يتعلق الأمر بالمراحل التي يقطعها الخطيب في تشييد خطابته. هذه المراحل هي:
1. الإيجاد inventio (2) أي إعداد مادة الخطبة، والحجج التي نعتزم استعمالها للدفاع أو التفنيد. إن لكل جنس من الخطاب جنس خاص من الحجج.
2. الترتيب dispositio بعد هذا نعمد إلى إفراغ تلك المادة الجاهزة في هيكل أو مخطط plan.
أ. التقديم.
ب. العرض أو السرد.
ج. الحجج.
د. الخاتمة
3. الأسلوب elocutio، بعد إعداد هيكل الخطبة أو plan يأتي طور الكساء اللغوي واللفظي لكل ذلك. إنها من أخطر الأطوار في الإنجاز الخطابي. إنه الأسلوب. وهو الذي سيتم التركيز عليه هنا.
4. التذكر. لم يحظ بالاهتمام في البلاغتين اليونانية ولا اللاتينية. لقد ظل مهملا إلى الآن.
5. الإلقاء. أو الأداء. يكاد يهمله أرسطو. بل كان متوجساً من أدواره المؤذية. وهو نظير الأسلوب الذي يمكن أن يُخفي ضعف الأفكار متى كان قوياً، وقد يزري بالقوية، إذا كان ضعيفا.
إنما الأسلوب والأداء حظيا بعناية بالغة في العصر اللاتيني مع خطيب روما الأشهر: شِيشْرُونْ.
فلنبدأ من البدايات. إن الجذر التي تفرعت عنه كل البلاغات الغربية القديمة والحديثة هو كتاب الخطابة لأرسطو. فهذا الكتاب الذي ألف في القرن الرابع قبل الميلاد في أثينا كانت غايته عملية. أي بكل بساطة كيف نبني خطبتنا التي نلقيها في السياقات السياسية المعروفة، أي في التجمعات الشعبية المخططة لبرامج أثينا، وفي المحاكم التي تعرض عليها قضايا الفساد السياسي. وفي التجمهرات العمومية التي تعقد لتمجيد المناسبات الوطنية. وعلى الرغم من:
1. الطابع العملي والسياسي لهذه الخطابة ذات القصد الإقناعي عموماً،
2. وحرج أرسطو من “شعبوية” الأسلوب ذي الصلة بـ “فساد نظم الحكم” و”السامع”، وباحتياله على “إثارة الألم أو اللذة”، و “اجتذاب السامع وإبهاجه”. وازدرائه للحقيقة.
3. ومن كون الخطابة ينبغي أن ترتكز على عرض للملف وعلى الحجاج، وتفادي الزخرف الأسلوبي.
فقد خصص للأسلوب الكتاب الثالث من خطابته. الذي تعرض فيه لعدد كبير من المقومات الأسلوبية من قبيل التوازي والسجع والإيقاع والمقابلة والجناس والتشبيه والاستعارة والكناية الخ.
وكما كان أرسطو متوجساً من الأسلوب فقد كان متوجساً أيضاً من الإلقاء، الذي لم يعن به في الخطابة رغم إقراره بأهميته. وفي العصر اللاتيني تم قلب هرم أرسطو الذي وضع الأسلوب أسفل السلم. وأبعد الإلقاء نهائياً من مركز الاهتمام. لأنه قد يكون خادعاً بحيث تنال نصوص ضعيفة الحظوةَ عند الجمهور. وأنزل في قمة الهرم المكونات الإقناعية اللوغوسية والإيتوسية والباتوسية، أي الحجج التي تعتمد على الوقائع والمنطق والحجج التي تستند إلى المتلقي أو إلى الباث. يقول شِيشْرُونْ في عن الخطيب:”فلنستعرض نموذج الخطيب الكامل والعبارة الأرفع. إن الاسم نفسه يدل على أن الخطيب الكامل يتفوق بهذا فقط، أي بالعبارة أو الأسلوب، في حين أن الأشياء الأخرى تحتجب في الظل؛ وفي الحقيقة، فإن هذا الخطيب لا يُدْعَى لا “مُوجِداً” inventor ولا “مُرَتِّباً” compositorأي dispositio ولا “مُلقِياً” actor […] إنما يدعى “rétor خطيباً” في اليونانية وelocuente (3) في اللاتينية أي “فصيحاً”[أو صاحب كفاءة أسلوبية] . وذلك لأن الوظائف الأخرى التي يتمكن منها الخطيب، كل الناس يدَّعون التمكن من جزء منها، إلا أن التمكن الأسمى من الكلمة، أي من العبارة، لا يُخوَّلُ إلا للخطيب”(4) .
كأنَّ شِيشْرونْ ينقض رأي أرسطو الذي يضع في القمة inventio أي الإيجاد، أي الدعوى والحجج. شيشرون يكشف من خلال النص السابق عن إحلاله الأسلوب في القمة، مزيحاً بذلك الإيجاد والترتيب من مكانتهما التي كانا يتمتعان بها مع أرسطو. بل ويؤكد في نص آخر أهمية الأداء أو الإلقاء. والواقع، وها نحن نذكر بما تقدم، أن من أهم التحولات التي عرفتها الخطابة أو البلاغة في العصر اللاتيني هي هذه الحظوة التي اختصت بها عناصر الأسلوب elocutio وعناصر الإلقاء actio وذلك تم، بالخصوص، على حساب مبحثي inventio و dispositio. يقول شِيشْرُونْ:”إن الخطيب يتوفر على وسيلتين للتعبير: الأداء والأسلوب. إن الأداء هو بشكل ما فصاحة الجسد، لأنه يقوم على الصوت والحركة. إن الصوت يتغير مثل تغير الإحساسات، وهي نفسها خاصةً يوقدها الصوت. وهكذا فإن الخطيب الكامل الذي أهتم به منذ أمد سيعكس في خطابه النبرة المناسبة للإحساس الذي يريد إظهاره أو الانفعال الذي يشتهي إثارته في المستمع [..]
وفي الحقيقة فجمال الأداء وحده قد سمح في الكثير للرجال الذين لا يتقنون العبارة من جني ثمار الفصاحة، في حين أن قبح الأداء قد جعل أكثر من خطيب جيد خطيباً فاشلاً. ولهذا فمن المعقول أن ينسب دِيمُوسْتِينْ إلى الأداء المرتبة الأولى والمرتبة الثانية والمرتبة الثالثة”(5) .
هكذا إذن أعاد شِيشْرُونْ ترتيب مكونات الخطابة. فقد كان مبحث الإيجاد inventio يحتل في الخطابة الأرسطية المكانة الأولى، والحال أن هذه المكانة الأولى يحتلها الآن عند شِيشْرُونْ الأسلوب elocutio والأداء action . أما مكون التذكر أو الحفظ memoria فقد كان موضوع اتفاق بين هرمي البلاغة الغربية: أرسطو وشِيشْرُونْ باعتباره غيرَ جدير بحمل تسمية صناعة techné أو arte . إنه مجرد ملكة أو موهبة ولكنه لا يرقى إلى مستوى صناعة تقوم على قواعد مستخلصة من التمرين المتواصل. قواعد تقبل التطبيق المتكرر. تلك هي صفة الصناعة التي حُرمَها التذكر أو memoria.
وهكذا فإذا كان ترتيب مراحل الخطابة بحسب الأهمية هو عند أرسطو بالشكل التالي:
1. الإيجاد
2. الترتيب
3. الأسلوب
4. الأداء
5. التذكر.
فإن ترتيبها عند شيشرون هي
1. الأسلوب.
2. الأداء
3. الإيجاد.
4. الترتيب.
5. التذكر.
ولأجل تزكية هذا الترتيب الصريح عند شيشْرُونْ، يقول سَالَافاسْتْرُو: “إن الإثارة [الانفعالية] هي أن نغرس في ذهن المستمعين الإحساسات والأهواء القوية. إننا نتوفر لأجل ذلك على مسلكين: أولا بالاستعانة بالكلمة (بناء الجمل، واستعمال محسنات الأسلوب، والكلام الحامل للأهواء) أو بواسطة إشارات عبارات الوجه والوضع الجسدي وحركة الجسد)”(6).
وفي النهاية ما الأسلوب elocutio؟ يقول شيشرون في الخطيب: “إن جمال أسلوب الخطيب يكمن في الإضافات المزيِّنة سواءٌ أكانت محسنات أفكار أم محسنات كلمات”(7) .
إن هذا يعطينا صورة عن الحيز الذي أصبحت تحتله المحسنات عند علماء الخطابة في العصر اللاتيني. ويؤكد في نفس الكتاب على اعتبار الأسلوب elocutio الخاصية التي يتألق بها الخطيب أكثر من غيرها.
بطبيعة الحال فإن الأسلوب ينشأ عن استخدامات خاصة للغة يمكن أن نميز فيها بين شقين هما السلامة اللغوية puritas والسلامة المقامية perspicuitas ثم المزينات. وهذه تصنف بالشكل الآتي:
1. المجاز tropes ،
2. المحسنات figures :
أ. محسنات الكلمات المفردة
ب. ومحسنات الكلمات المركبة
ج. ومحسنات الأفكار.
يقول شِيشْرُونْ : “تنقسم محسنات الكلمات إلى نمطين: يتعلق أحدها بالكلمات مستقلة، ويتعلق الآخر بالكلمات مؤتلفة. فيما يتعلق بالكلمات مستقلة تقبل تلك الدالة على معانيها الحرفية والمتداولة، سواء تلك التي يكون وقعها أفضل، أو التي تؤدي المعنى بشكل أفضل؛ وفي ما يتعلق بالكلمات التي تدل على معنى غير حرفي، تستحسن الاستعارة المجلوبة من مفهوم آخر على سبيل الاقتراض، أو تلك التي يبتكرها المؤلف نفسه والتي تكون جديدة، أو القديمة وغير المتداولة يمكن أن تندرج ضمن الكلمات ذات الدلالة الحرفية، مع أنها نادرة الاستعمال.
وفي ما يتعلق بالكلمات مركبة، فإنها هي كذلك تساهم في تزيين الخطاب، ما دامت متمتعة بتناظر ما، يختفي حال تغيير ترتيب الكلمات مع الاحتفاظ بنفس المعنى.
أما بالنسبة إلى محسنات الفكر فإنها تظل هي هي ولا تتغير مع تغيير ترتيبها؛ إنها كثيرة الاستعمال ما في ذلك شك، إلا أن القليل منها ما يتمتع بالتألق”(8) .
يقول كِينتِيليَانْ: “هناك الكثير ممن يخصون المجازات tropos باسم محسنات […] ففي المجازات توضع بعض الكلمات محل أخرى، كما يحدث في الاستعارة والكناية والإرداف والمجاز المرسل والاستعارة غير المفيدة والتمثيل والمبالغة (9) كما هي متداولة”؛ إذ تضبط بواسطة المحتويات أو بواسطة الكلمات” (10).
وهكذا أبطلت مباحث المجاز المستقلة، وأدرجت في خانة مستقلة ضمن المحسنات التي اتخذت الصيغة الآتية:”محسنات الكلمات، المتعلقة بالإيقاع وأصوات الخطاب، محسنات المعنى المتعلقة بمعاني الكلمات، محسنات التركيب، الخاصة بالجمل، ومحسنات الفكر التي تتعلق بمجوع الخطاب”(11) . محسنات التركيب هي كل ما يتعلق بالتقديم والتأخير والحذف والحشو والاعتراض الخ. محسنات الفكر هي كل ما يخل بعلاقة النص بالمقام. من قبيل السخرية ومخاطبة الأشياء أو الحيونات أو المجردات أو الموتى أو الغائبين، ومخاطبة الحاضر غير المعني. وهنا تندرج أيضاً الاستعارة الأليغورية والوصف الفني النصي أو الوصف الحي.
والحقيقة أننا عندما نصل إلى هذا الحد تكون البلاغة قد فقدت ذاكرتها عندما كانت بلاغة حجاج وإقناع، وعندما كانت المحسنات بأجناسها الأربعة الدعامة اللفظية فقط التي تسند الحجاج أو الإقناع. هناك كانت المحسنات وسيلة مدعمة للإقناع، أي إنها لم تكن مقصودة في ذاتها بل كانت مقصودة لغيرها بما تبعثه من إقناع المستمع. وربما تغيير السلوك. ولكن هذا لم يمنع أن تنمو هذه المحسنات وأن تتطور لكي تستقل عن الأغراض الخارجية وتتحول إلى الالتفات إلى ذاتها بل إلى جمالها المحايث والداخلي. لقد بدأت تتبرج. فعلى سبيل المثال فإذا كانت الاستعارة تحظى بالاستحسان في الخطابة أو البلاغة التقليدية باعتبارها أداة تغيير رأي المتلقي فإنها في المقاربة المحسناتية الأخيرة تتنصل من هذه المهمة وتعود مقصودة في ذاتها.
في العصر الأرسطي تم التشديد على الأدوات الإقناعية لأن المناخ الديموقراطي كان يتيح المشاركة الجماهيرية في كل محافل الحاضرة. في تجمعات الجمعية العامة l’assemblée وفي المجالس les conseils المدبرة لتنفيذ مشاريع الحاضرة، وفي التجمعات الحرة لكل الشعب المحتفل بالمناسبات القومية في الانتصار في الحروب وتأبين الشهداء والأبطال والاحتفاء بالأبطال الرياضيين القوميين. لقد مضى عند اللاتين ذلك العهد حيث لا يسمع إلا هدير الخطابة الملتزمة بالمشاريع والاختيارات التي يشارك فيها كل المواطنين. أما الآن فإن الإمبراطور هو من يشرع ويخطط وينفذ ويصدر الأحكام ويعين المسؤولين. لقد فقدت الخطابة حريتها في الحجاج والإقناع لقد انتهي النقاش والصراع. فلا نقاش مع غياب الحرية. لم يعد أمام الخطباء إلا أن يقولوا الموسم جميل! ويحيى الإمبراطور!. هكذا انقلبت الخطابة فأصبح ما كان جزءاً أي الأسلوب سيدَ الموقف. لقد استوى الأسلوب elocutio على عرش الخطابة أو البلاغة منتزعاً السلطة من يدي الحجاج أي inventio وقلبه الحجاج argumentatio.
يقول شِيشرون:«إن شيوع اللجوء إلى المقوِّم القائم على جلب الكلمات من أماكن أخرى دفعت إليه الحاجة الناشئة عن ضيق اللغة عن تلبية كل الحاجات الجديدة التي يُراد التعبير عنها. وبعد ذلك كان الذوق الرفيع وداعي الإمتاع ما دفع إليه. شأن ذلك شأن اللباس الذي ابتكر تحت ضغط الحاجة لحماية الجسد من البرد، قد تحول فيما بعد إلى أداة زينة. كذلك استعارة الكلمة دعا إليها، في البداية، انعدام لفظ حقيقي لتوصيل الفكرة إلا أنها تحولت فيما بعد لكي تصبح مادة تزيينية.
هنا أدارت الخطابة ظهرها للفكر والحجاج والصراع، والتجأت إلى تعهد الكلام الجميل النائي عن صهد السياقات السياسية حيث تكتسب الأفكار قوتها بالصراع لا بالامتثال لهذا الأمير أو ذالك. هنا أصبحت الخطابة تزيينية، وبعبارة أدق أصبحت الخطابة بلاغة، أو حتى بلاغة محسنات.
إلا أن إضافات البلاغة اللاتينية لا تقتصر على هذا الإعلاء من شأن الأسلوب وتمييز تفريعاته وحسب، وتقديم الصيغة شبه النهائية لبلاغة المحسنات كما نجدها عن أغلب علماء الشعرية المعاصرة، بل والبلاغة الجديدة. فهذه جماعة لْيِيجْ في كتابها بلاغة عامة التزمت بهذا التقسيم الرباعي للمحسنات. واضعةً مقابل محسنات التلفظ ومحسنات الكلمات ومحسنات التركيب ومحسنات الفكر، المقابلات الجديدة الآتية. 1. الميتابلازم 2. والمياتاسميم 3. والميتاتاكس 4, والميتالوجيزم.
إنما ميزة جماعة ليِيجْ هي أنها ضربت صفحاً وبالكامل عن كل ما له علاقة بالخطابة. لقد التحقت هذه البلاغة عند جماعة ليِيج بالشعرية بصفة نهائية. هكذا أصبحت الخطابة بلاغة. بل شعرية.
لا بد من توضيح أمر هنا، وهو أن أرسطو خصص للمقومات الأسلوبية اللغوية جزءاً كاملا من كتاب الخطابة، وهو الجزء الثالث. ولم يفعل ذلك في كتاب الشعرية حيث أفرد للجانب اللغوي بضعة صفحات لا غير. هذا الجانب اللفظي بل الأسلوب في الخطابة هو الذي عرف نمواً مطرداً على امتداد التاريخ. بل وحدث أمر طريف وهو استقلال هذا المبحث الأسلوبي في الكتاب الثالث على حساب الكتابين الأول والثاني من الخطابة. هذا الاستقلال هو الذي استأثر بكل الخطابة rhétorique حيث أصبحت بلاغةrhétorique ، أي بلاغة محسنات، بعد تخلصها من كل الأمور المتعلقة بالحجاج والترتيب. وعلى الرغم من ذلك التغير والانتقال بالخطابة من الحجاج إلى المحسن، أي من الاقناع إلى الإمتاع فقد تم الاحتفاظ بالتسمية rhétorique ولم تتغير؛ وذلك من مصادر التباس هذا المفهوم. هذا المبحث المستقل يستقطب كل المحسنات التي اعتبرها جَانْ كُوهِن تصل في عددها إلى مائتين وخمسين محسناً(12) .
اللافت للنظر هو أن مفهوم الشعرية قد طرأ عليه تحول نوعي مع الحركة الرومانسية. “إن كلمة الشعر التي تعني في مفهومها الحديث صنفاً محدداً من الجمال إنما ظهرت بظهور الرومانسية بالضبط. إن الرومانسية لم تبتدع الشعر، ولكن يمكن القول بأنها اكتشفته، فالشعر (كما كتب جان والْ) قد وعى نفسه وجوهره بالتدريج. ويمكن القول بأن الحركة الرومانسية تكون اللحظة التي نما فيها، لأول مرة، بصفة عامة هذا الوعي بالذات، فالكلاسيكية هي الشعر الذي لم يعِ ذاتَه، أما الشعر الرومانسي فقد تعرف على نفسه كشعر، ومن ذلك الحين الذي اكتشف فيه الغرض الجمالي الخاص للفن الشعري صار من العادي أن توجه الوسيلة أكثر فأكثر إلى الوظيفة. وابتداء من الرومانسية تطور الشعر في اتجاه ما أسماه فَالِيرِي وبرُومُونْ “الشعر الخالص”. والحق أن كلمة شاعر ترتبط في ذوقنا الحديث ارتباطاً وثيقاً برامبُو أو مالارمي أكثر من ارتباطها بكوني أو مولْيِيرْ”(13) .
مع الحركة الرومانسية حدث تغير في مفهوم الشعر. لقد أصبح النص مقصوداً لذاته وليس ظلا للأشياء. هذا التشديد على النص في النقد الرومانسي هو عينه الذي ورثه الشكلانيون الروس وعلى رأسهم رُومَانْ جَاكُبْسُونْ. الذي يذهب إلى “أن التشديد على الرسالة باعتبارها رسالة والتشديد على الرسالة لحسابها الخاص، هو ما يميز الوظيفة الشعريةللغة”(14) . وحين أدرك الشعر هذه الغاية وتم تركيب الشعرية poétique على مقاسه، لم تجد الشعرية مناصاً من الاستمداد بإرث بلاغة المحسنات التي وفرت ما نعدمه في الشعرية الأرسطية القديمة التي كانت مكرسة للنص التراجيدي الحكائي. البلاغة هي التي تقدم السجل المستفيض للمحسنات البلاغية، التي وجدت فيها الشعرية الحديثة ضالتها. هنا حصل التطابق بين الشعرية وبلاغة المحسنات، بوصفها توفر لعالم الشعرية الشبكة المستقصية لوصف المقومات الشعرية، بل وتطابق المصطلحات محسن figure، الذي كان ملازماً للبلاغة ومقوم procédé الذي كان ملازما للشعرية .
والواقع أن هذا التطابق لا يستقطب في باقة واحدة الشعرية وبلاغة المحسنات فقط بل استقطب أيضا البلاغة العربية التقليدية. هنا وعلى هذا الصعيد تصبح المقارنة ممكنة.
الحقيقة هي أن اللاتين لم يعيدوا ترتيب هرم المكونات الخطابية فقط، وذلك بانتزاع القيادة من عنصر الإيجاد والحجاج inventio et argumentation وتفويت القيادة لأخرى الأسلوب elocutio . لم تقف البلاغة اللاتينية عند هذه الحدود بل اقترحت تصنيفاً آخر لأجناس الأسلوب. بحيث أنها جعلت لكل جنس من الخطاب جنساً من الأسلوب. بل ولكل طور وحلقة في الخطبة أسلوباً خاصاً.
لقد ميز علماء الخطابة اللاتين بين ثلاثة أجناس من الأسلوب: الأسلوب البسيط والأسلوب المتوسط والأسلوب السامي. يقول يِرْتْرَاندْ بِيفُونْ في وصف هذه الأساليب الثلاثة:
“يميِّزُ شِيشْرُون ثلاثة أساليب، وهو يربط كل واحد منها بأحد الأغراض التي تقصد إليها الخطابة، التي تحيل هي بدورها، على جزء محصور من الخطبة. إن الأسلوب البسيط المجرد من المحسن الواضح والدقيق، يستعمل للبرهنة (docere)؛ وهو يستعمل في السرد أو العرض وفي الحجاج. والأسلوب المتوسط أو الممتع، هو أوفر زخرفة، يستهدف الإمتاع (delectare)، وهو يناسب الافتتاح والاختتام. والأسلوب السامي أو الشديد أو الباذخ والقوي، مكرس للإثارة (movere)، وهو يستعمل خاصة في الاختمام
إن الخطيب الجيد [أو الكامل] يرتب بشكل تعاقبي هذه الأساليب الثلاثة، لأن “الفصاحة المتصلة تحدث الملل”، حسب عبارة بَاسْكالْ. إنه يستعملها بالمقادير المناسبة للموضوع المطروح، إن موضوعاً يغلب عليه الطابع الفكري يتطلب قبل كل شيء أسلوباً بسيطاً. وبالنسبة إلى مسألة خفيفة، نستعمل أسلوباً ممتعاً ومستحباً، في حين أن خطاباً يدعو إلى الفعل، يتطلب أسلوبا سامياً [أو رائعاً]”(15) .
باختصار يمكن القول: إن الأسلوب البسيط هو الذي يناسب تقديم المعلومات الأساسية في الموضوع. إن المدرس الذي يلقي درساً في القسم لا يطلب منه أن يستعمل أي محسن من المحسنات. لأن ذلك قد يلهي السامع فينشغل بتلك المحسنات لا الأفكار المعروضة. بل إن تلك المحسنات قد تجعل الأفكار غامضة أو قابلة لتأويلات عديدة. هذا الأسلوب هو عينه المعتمد في الحجج التي نسوقها في الدفاع أو النقض. وبعبارة أخرى فإذا كان الخطبة تتألف من أربع حلقات هي التقديم والعرض والحجاج والخاتمة، فإن الأسلوب البسيط يستأثر بالحلقتين الوسيطتين أي العرض والحجاج أي ما يدعي بالفرنسية narration و argumentation
وهنا يفرض العقل سلطته ويستبعد كل المؤثرات العاطفية والأسلوبية. ويحيط بهاتين الحلقتين الوسطيتين في قلب الخطبة الافتتاح والخاتمة اللذان يكون أسلوبهما مختلفاً كما أنهما من طبيعة غير عقلية بل عاطفية.
يصِف بَارطْ هاتين الحلقتين الوسطيتين بأنهما عقليتين ويصف الأولى أي الافتتاح والخاتمة بالعاطفيتين(16) .
أما الأسلوب المتوسط فهو الذي يطبع الحلقة الأولى أي الافتتاح. إن الغاية هي بالنسبة إلى الخطيب كسب القبول عند المتلقي. فإذا كانت الغاية في الحلقة السابقة هي الإفادة وتقديم المعلومات بشأن الموضوع والإدلاء بالحجج، فإن الغاية هنا هي مجرد جذب انتباه المتلقي إلى شخص الخطيب، إنه كسب القبول. وهنا في الحقيقة كثيراً ما أشار علماء الخطابة إلى الوظائف الثلاثة التي يتكفل بها الخطيب في هذه الحلقة. ألا وهي القدرة على كسب تعاطف الجمهور إذا كان نافراً منه، وجعله مستعداً للاستفادة إذا كان الموضوع معقداً ويتطلب تليين المادة أو التبسيط، إنه البعد البيداغوجي أو التربوي، هي الكفاءة المطلوبة بقوة في المدرس. وأخيرا إثارة انتباه المتلقي إذا كان متعباً أو خاملا.
أما الأسلوب السامي أو الرائع فإن مكان اللجوء إليه هو خاتمة الخطبة. إن الخاتمة تتطلب أسلوباً مغايراً عن السابقين، إذ الغاية هنا هي التأثير القوي وربما الصادم. الأسلوب هنا يحدث هديراً، ويأتي مشحوناً بكل المحسنات القوية التي تحدث الدهشة. إن الغاية هنا هي دفع المتلقي ليس إلى الاقتناع فقط، بل إلى الفعل الذي هو الغاية النهائية لكل خطبة فعالة وناجعة. إن الفعل الذي يعقب الخطبة برهانٌ على فوز الخطيب. في الحقيقة الخاتمة هي القلب النابض للخطابة. لأن فيه يتقرر فوز الخطبة أو فشلها. يقول شِيشْرون:
“وفي الحقيقة لا شيء يعتبر أهم بالنسبة إلي فى الخطيب، ياكاتُولُوسْ، من كسب تعاطف ذلك الذي يستمع بحيث أنه يتأثر أكثر باندفاع النفس وباضطرابها أكثر مما يتحرك بالحكم والسداد، إذ إن الرجال يستجيبون أكثر في قراراتهم للكراهية أو للحب، وللشهوة أو للغضب، وللأمل أو للخوف، وللخطأ، إنهم باختصار يستجيبون لاهتزاز أعصابهم. أكثر مما يستجيبون في الغالب للحقيقة، أو لأحكام القضاء، أو لقواعد الحقوق، أو للأعراف القائمة، أو لنص القوانين” (17). ويؤكد كَاسْيُوسْ لُنْجِينوس في مصنف الأسلوب السامي، هذا الأمر بقوله:”إن الرائع [le sublime] هو ما يمثل امتياز الخطاب وسيادة اكتماله: به فاز الشعراء العظام وأشهر الكتاب بالجوائز، وملأوا كل العهود اللاحقة بدوي مجدهم.
إن الرائع لا يقنع بالمعنى الحصري، إنه يَفتِن، ويرفع ويُحدِث فينا ضرباً من الإعجاب المختلط بالتغريب والدهشة، الذي هو شيء آخر غير الإمتاع فقط، أو الإقناع. إننا نستطيع أن نقول بصدد الإقناع، إنه في العادة لا سلطة له علينا إلا ما نريده. ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الرائع. إنه يكسب الخطاب ضرباً من القوة النبيلة، قوةٍ لا تقهر، تهزُّ نفس من يستمع إلينا. لا يكفي مكان واحد أو اثنين في أثر ما، لأجل أن نتصف بدقة الإيجاد وجمال النظام والترتيب؛ فبصعوبة يلاحظ هذا الإتقان بكل متوالية الخطاب نفسها. إلا أن الرائع حينما يندلع حيث ينبغي، يقلب كل شيءٍ مثل البرق، ويطلق بدءاً كل قوى الخطيب المترابطة جميعاً”(18) . وكما يقول دِيمِيترْيُوسْ: “إن قوة الأسلوب الرائع تشبه النِّزال باشتباك جسد بآخر”(19) .
التغير المثير الذي طرأ على فن الخطابة، في هذا المصنف لِكَاسْيُوسْ لُونْجِينُوسْ، هو الانتقال من سيادة الحجة الإقناعية المندرجة في خطاب متماسك تتوالى على طوله العناصر الإقناعية، إلى خطاب يُتَّخَذ ذريعة لاغتنام الفرص في لحظة معينة لتفجير الطاقات الخطابية الكامنة دفعة واحدة ومباغتة المتلقي لإطلاق انفعاله وتعطيل كل ملكاته العقلية وجعله يستسلم للهدير الانفعالي الباتُوسِي. هذا الإحساس هو المعنى الجديد الذي اكتسبه البَاتوسْ. مصنف الرائع هو إعلان القطيعة مع الخطابة الأهوائية الأرسطية. هذا من التعديلات الهامة للخطابة الأرسطية التي كانت السيادة فيها من حظ اللوغوس في كل الحالات. ولكن المسألة ليست مجرد إثارة الانفعال السامي والمتدفق، إنه الأسلوب الرائع الذي ينجز هذا الأمر. لقد تم تعديل مفهومي الإيطوس والباطوس الأرسطيين تعديلا بارزا. لقد حصر اللاتين الإيطوس في الافتتاح والباطوس في الخاتمة.
وبعد هذا، أين نحن من البلاغة العربية وتقاطعاتها مع البلاغة اللاتينية أو الغربية إجمالاً.
يذهب البلاغي الدانماركي أُوغيستْ فيردِينَاندْ مِيشِيلْ فُونْ مِيهْرِينْ : “إلى أن صروح البلاغة على الصعيد العالمي ثلاثة هي بلاغة الهند وبلاغة اليونان وبلاغة العرب […] وبعد أن أكد وجود تأثيرات الحضارة اليونانية بكل فروعها في صميم الحضارة العربية، يخلص إلى القول: “ولكنا لا نستطيع أن نجد في المؤلفات العربية التي تتناول البلاغة بالدراسة أي أثر لأرسطو” وبؤكد كْرَاتْشْكُوفسْكِي “من الصعب إيجاد أثر للنفوذ اليوناني في نشوء البديع العربي… فقد ولد هذا الأخير في بيئة تختلف عن البيئة التي نشأت فيه البلاغة العربية كل الاختلاف. إذ نشأ في أوساط اللغويين العرب الذين لم يستندوا في أبحاثهم إلى نظرية أجنبية ، بل إلى استقصاء لغتهم الأم “(20) .
ويذهب العلامة جَانْ مُولِينُو إلى أن البلاغة العربية قد اطلعت على البلاغة اليونانية، إلا أنها قد تشكلت خاصة انطلاقاً من التأمل في جنسين من النصوص وفي المشاكل التي يطرحها تأويلهما: إنهما نص القرآن المقدس والمعجز وشعراء العرب في العصر الجاهلي. وكذلك فإن تنظيم البلاغة العربية قد كشف عن مظاهر، تعبيرية تركها في الظل التراث الغربي: تنقسم البلاغة العربية إلى ثلاثة أقسام، هي علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع. فإذا كان علم البديع يضم محسنات الكلمات والفكر التي يستعان بها لتزيين الخطاب ويقترب بهذا من الأسلوب elocutio كما تتصوره التقاليد الغربية، فإن علم البيان يعالج “الطرق الممكنة للتعبير عن نفس الفكرة بشكل متفاوت من حيث المباشرة والوضوح”: وهنا تندرج عموماً الاستعارة والكناية عن صفة وعن موصوف (Encyclopédie, 1960, 1150) […] ومن الناحية النمطية، فإن البلاغة الأوروبية في العصر الوسيط هي أقرب من البلاغة العربية منها بالبلاغة اليونانية اللاتينية أو بالبلاغة الكلاسيكية الجديدة”(21) .
أما وقد اخترنا البلاغة العربية ذات الفروع الثلاث، أي علوم المعاني والبيان والبديع، فعلينا أن نسجل منذ البداية ملاحظتين أساسيتين.
الأولى هي أننا بصدد نسقين بلاغيين مختلفين. البلاغة اللاتينية سليلة خطابة أرسطو موضوع بحثها أو مدونتها هو الخطابة. ولهذا ففي حالة خطابة أرسطو كانت المقومات الحجاجية هي النقطة المركزية. وفي حالة بلاغة اللاتين تحول تركيز الاهمام من الحجاج إلى الأسلوب. ولكن حذار. إنه ا أسلوب الخاص بالخطابة وليس الشعر.
الثانية أن البلاغة العربية في نشأتها وتطورها كانت الخطابة في هامش اهتمامها. لقد اتخذت هذه البلاغة مدونتها من القرآن الكريم والشعر من جاهليه إلى اليوم. يقول العلامة جَانْ مُولِينُو: “إن الشعر المنشود والمغنى، كما الموسيقى والرقص لم تكف عن احتلال المكانة المركزية في حياة رجال ونساء مختلف مناطق العالم الإسلامي، وهذا من عهد ما قبل الإسلام إلى العصر الحديث. إن أشكالها وأدوارها قد تغيرت بالتأكيد من مكان إلى آخر ومن عصر إلى آخر، إلا أن حضورها ظل ثابتاً”(22) .
هما إذن بلاغتان: بلاغة الخطابة وبلاغة الشعر. وبهذا فإن البلاغتين لم تصبحا قابلتين للمقارنة إلا حينما تحولت البلاغة الخطابية إلى بلاغة شعرية أو شبه شعرية. أي من الخطابة إلتي تقلل من شأن الأداة اللفظية اللغوية إلى البلاغة التي تعتبر الأداة اللفظية هي مركز العناية والاهتمام. هنا جازت المقارنة بين البلاغة العربية واللاتينية. هذا على أن بعض الاحتياطات المنهجية والنظرية واجبة. إذ على الرغم من احتفاظ كل من البلاغتين العربية واللاتينية بسحنة الأسلوبية، وهي تسمية أخرى للبلاغة، فإننا ندرك في النهاية أن بلاغة اللاتين موضوعة للخطابة رغم كل شيء، والبلاغة العربية موضوعة عموما للشعر والقرآن الكريم. لذلك وكما سبق أن عرضنا فإن الأجناس الأسلوبية الثلاثة يناسب كل واحد منها جنساً أو طورا في الخطبة عامة: فلكل من هذه الأطوار، التقديم أو العرض أو الحجاج أو الخاتمة أسلوب خاص. إنها إذن أسلوبية الخطابة. وليس الأمر كذلك بالنسبة للبلاغة العربية التي استاثر باهتمامها فن الشعر بالأساس.
ومع هذا فلا شك أننا نقع على تشابهات بين البلاغتين لأنهما معا تهتمان بالمادة اللفظية أو اللغوية للخطاب. ويمكن أن نجازف أكثر لكي نقول إنهما تهتمان بالجانب اللفظي الجمالي للخطاب. وكما تقوم جُوئِيلْ تَامِينْ في سياق مختلف: “إن غايات الكلام الجميل هي نفسها في الحالتين، كما هي كذلك الأداة، أي اللغة التي هي واحدة”(23) . إن هناك تشابهات كبيره وتقاطعات بين النسقين على صعيد الوحدات المفردة. لا التصور الكلي للخطاب. من قبيل المجاز والاستعارة والتوازي والتمثيل والكناية والتشبيه والإرداف والجناس والتقديم والـتأخير والحذف ورد الأعجاز عن الصدور والعكس والمبالغة والسخرية والطباق والالتفات والمقابلة والسجع. الخ. وهكذا فعلى صعيد الوحدات المفردة قد نصادف تشابهات مثيرة. من قبيل هذا الأوصاف التي تقدم للاستعارة والتقديم والتأخير والتوازي والمقابلة والإنشاء والخبر والجناس والسجع الخ الخ.
لكن هناك مقومات تحضر في إحدى البلاغتين وتغيب في أخرى. إن مباحث المجاز العقلي تحتل موقعا هاماً في علم المعاني. ولا أعرف مقابلا له اصطلاحياً أو غير اصطلاحي في البلاغة الغربية. كما لا أجد في البلاغة الغربية العناية الكافية لتحليل القرينة لفظية أو حالية. ولا أجد هناك تحليلا بدقة تحليل الهياكل التركيبية للاستعارة والتشبيه البليغ. بل لا أجد تصوراً واضحاً ودقيقاً بدقة عبد القاهر الجرجاني لها. وكذلك لم تعن البلاغة العربية بالتمثيل الأليغوري والسخرية الأيرونية والوصف الخ .
وأعتقد أخيراً أنه على الرغم من أننا نتحدث عادة عن البلاغة باعتبارها مجموع علوم المعاني والبيان والبديع، في صيغتها السكاكية حيث يتربع علم المعاني على عرش هذه العلوم محولا البيان والبديع إلى خدم لأغراضه ومقاصده، وهو المنتحل لهوية بلاغة الشعر التي أجد أن علم البيان أجدر بتقلد هذه المهمة النبيلة. ولتكن هذه مناسبة للتنويه بعمل علي الجارم ومصطفى أمين في كتابهما الذي طالما تعرض للسخرية الظالمة والمتنطعة. البلاغة الواضحة، حيث نصب علم البيان باعتبار الأول في كتابه الذي أعاد تشكيل الحاكمية البلاغية حيث أسند الرئاسة إلى علم البيان الذي عوض علم المعاني الذي احتل هنا المرتية الثانية.
eloualimoh2000@yahoo.com
ــــــــــــــ
1 ـ J.Molino, F. Soublin et J. Gardes-Tamine, ” Problèmes de la métaphore” in, Langages, n. 54, Didier Larousse, Paris,1979, p. 19.
2 ـ الإيجاد. يمثل المادة الخام لنص الخطبة. بما في ذلك المعلومات أي ما يسميه بارط “الملف” “dossier”. أو التقرير أو التغطية. ويكون في الخطابة مرفقاً بالحجج المعتمد للدفاع أو التفنيد عن دعوى ما. فإذا نشب شجار بين الجيران والتجأوا إلى القضاء فأول ما ينبغي إعداده هو عرض تفاصيل الحدث وبعده، ننتقل إلى الحكم أي الاتهام والتبرئة. هنا نستعين بالحجج القانونية وغير القانونية.
3 ـ “تحيل مُوجِد inventorعلى الإيجاد أي inventio وتحيل compositor على الترتيب compositio وتحيل actor ملقِي الخطبة على actio كما ترادف rétor اليونانية الكلمة اللاتينيىة elocutio والكلمتان اليونانية واللاتينية مشتقتان من الكلام. ولهذا تدعو اللاتينية الخطيب بالفصيح. أي متمكناً من صناعة تقوم على الكلمة لا على إيجاد موضوعات الخطابة أو ترتيبها أو إلقائها”.
4 ـ Cicéron, De L’Orateur, Livre Deuxième , éd . Les Belles Lettres, Paris, 1966 , p. 54.
5 ـ Cicéron, L’orateur idéal, ed. Payot-Rivage, Paris, 2009, pp. 41-42
El orador, ed. Alianza editorial, Madrid, 2001. p. 52.
6 ـ Constantin Salavastru, Cinq etudes sur la rhétorique cicéronienne, L’harmatan , Paris, 2013, p. 48.
7 ـ Ciceron, El orador, Alianza editorial, Madrid, 2001, p. 63
8 ـ Ciceron, El orador, Alianza editorial, Madrid, 2001, p. 63
9 ـ هناك من يرفع هذا العدد إلى عشرة هي: الكناية والتفسير والمجاز المرسل ومجاز العلمية والتفخيم والتلطيف والمالغة والإرداف والاستعارة والسخرية.
Heinrich Lausberg, Elementos de retorica Literaria, ed. Gredos, Madrid, 1975. p. 119.
10 ـ Quintiliano de Calahorra, Obra completa, Tomo III, Libros VII – IX, ed. Publicaciones Universidad Pontifica de Salamanca, Caja Duero, 1999, pp. 277 – 279.
11 ـ Bertrand Buffon, La parole persuasive, éd. PUF, (interrogation philosophique), Paris, 2002. p. 218.
12 ـ جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، منشورات توبقال، البيضاء، 1986، ص. 48.
13 ـ جانْ كُوهنْ، بنية اللغة الشعرية، ص. ص. 21-22
14 ـ In Todorov, Critique de la critique, éd. Le Seuil, Paris, 1984. p. 24.
15 ـ Bertrand Buffon, La parole persuasive, éd. PUF, (interrogation philosophique), Paris, 2002. p. 112.
16 ـ Roland Barthes, L’ancienne rhétorique, in Communication, n. 16, 1970. p. 214.
17 ـ Cicéron, De l’orateur, Livre ii, éd. Les Belles Lettres, Paris, 2009. p. 78.
18 ـ Longin, Traité du sublime, éd. Librairie générale de France, Livre de Poche, 1995, p. 74.
19 ـ Démétrios, Du style, Les belles Lettres, Paris, 2002, p.75.
20 ـ إ. ز كْرَاتْشْكُوفسْكِي، علم البديع، إعداد محمد الحجيري، دار الكلمة للنشر، بيروت، لبنان. ص. 23.
21 ـ Jean Molino, Joëlle Tamine et Françoise Soublin, “ Prblemes de la métaphore”, in. Langages, (La métaphore), Juin, n. 54, Didier, Larousse, pp. 20-21.
22 ـ Jean Molino, « Deux sources de la culture arabo-islamique », in. Esprit, Juin, 2013.
23 ـ Joëlle Gardes Tamine, Poétique et rhétorique, éd. Honoré Champion, Paris, 2015 , p. 10.
Source : https://dinpresse.net/?p=19323