ذ. محمد جناي
تتفاوت مراتب الأدب بحسب المتأدَّب معه، فليس الأدب مع الله كالأدب مع أنبيائه، وليس الأدب مع رسول الله، كالأدب مع سائر الناس، وليس للتعامل مع الناس أدب واحد، بل للوالدين أدب خاص، وللعلماء والكبار أدبٌ خاص، وهكذا.
ويعتبر بر الوالدين من أعظم القربات وأجل الطاعات التي رغب فيها الإسلام،ولعظم شأن الوالدين فقد قرن الله عز وجل بين الأمر بتوحيده، والأمر بالإحسان إليهما في أكثر من موضع في كتابه الكريم، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الإسراء:27).
ولهذا تعتبر الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع الإسلامي، وهي المحضن الدافئ للأطفال، والمرتع الهادئ للشباب، والمأوى الأمين للمسنات والمسنين، وإذا كان الإسلام يحرص على صون كرامة الإنسان في كل مراحل عمره، فقد عني عناية خاصة بتوقير الكبار واحترامهم، وخاصة الوالدين.
تدور معاملة الإنسان لوالدَيه على ثلاث مراتب:المرتبة الأولى: العقوق والعياذ بالله، بأن يقطعَ حقَّهما، ولا يفي لهما بما أوجبَه الله. فهذا عليه إثم العاق.المرتبة الثانية: البِرّ بهما، ببذل المعروف والبِرّ. فهذا في الدرجة العُليا، وله أجر البارّ. المرتبة الثالثة: بَيْنَ بَيْن، لا يكون بارًّا ولا يكون عاقًّا، فهذا لا يُقال: إنَّه بار فلا يناله ثواب البِرّ، ولا يُقال: إنَّه قاطع فلا يناله إثم القطيعة، لكنها حالة رديئة.
بر الوالدين
البِرّ في اللغة: الإحسان والإكرام، والخير والفَضْل، وهو ضدُّ العقوق، فبِرُّ الوالدَين معناه: الإحسان إليهما، وفِعل الجميل معهما، بالقول والفعل، تقرُّبًا إلى الله تعالى، ويعتبر برُّ الوالدَين من أعظم شعائر الدِّين ومن أجلِّ الطاعات، فقد عطفَه الله تعالى على عبادته وتوحيده، فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
وهو وصيَّة الله تعالى لعباده: قال سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ}. أي: ” عهدنا إليه، وجعلناه وصيَّة عنده، سنسأله عن القيام بها، وهل حَفِظَها أم لا؟ “. تفسير السعدي صــ 648، وأمرَ الله سبحانه بخَفْض الجَناح لهما: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. قال عُرْوة: ” إِنَّ أغضباك فلا تنظر إليهما شَزَرًا، فإنَّه أول مَا يُعرَف غضب المرء بشِدَّة نظره إلى مَن غَضِبَ عليه “. تفسير ابن أبي حاتم (13239)، وقرنَ الله تعالى شُكرَه بشُكر الوالدَين: فقال: {أنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
وبرُّ الوالدَين أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى بعد الصلاة: فقد سُئِلَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – : أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:((الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا))، قيل: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:((ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ))، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). رواه البخاري ومسلم .
وبرُّ الوالدَين سببٌ لإجابة الدعاء وتفريج الكُرُبات: كما في حديث الثلاثة الذين انطبقَت عليهم الصخرة، وتوسَّل كلُّ واحدٍ منهم بعملٍ صالحٍ له، وقد بوَّب عليه البخاري: ” باب: إجابة دعاء مَن برَّ والدَيه “.رواه البخاري.
فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين في آيات كثيرة، وقرنها بطاعته وعبادته، فقال عز وجل في محكم تنزيله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..} [الإسراء: 23]، ودواعي ذلك الإحسان وأسبابه ظاهرة بينةقال ابن باديس رحمه الله: “وفي تعليق الحكم- وهو الأمر بالإحسان- بلفظ الوالدين المشتق من الولادة، إيذان بعليتها في الحكم، فيستحقان الإحسان بالوالدية سواء أكانا مؤمنين أم كافرين، بارين أو فاجرين، محسنين إليه أو مسيئين.” [تفسير ابن باديس، ص:67].
الأمور المعينة على بر الوالدين
بر الوالدين نعمة من الله عز وجل يمن بها على من يشاء من عباده، وهناك أمور تعين الإنسان على بر والديه، إذا أخذ بها، وسعى إليها، فمن ذلك ما يلي:
1) الاستعانة بالله عز وجل وذلك بإحسان الصلة به؛ عبادة ودعاءً والتزامًا بما شرع، عسى أن يوفقك ويعينك على برهما.
2) استحضار فضائل البر وعواقب العقوق: فإن معرفة ثمرات البر واستحضار حسن عواقبه من أكبر الدواعي إلى فعله وتمثله والسعي إليه. كذلك النظر في عواقب العقوق، وما يجلبه من هم وغم وحسرة وندامة، كل ذلك مما يعين على البر ويقصر عن العقوق.
3) استحضار فضل الوالدين على الإنسان: فهما سبب وجوده في هذه الدنيا، وهما اللذان تعبا من أجله، وأولياه خالص الحنان والمودة، وربياه حتى كبر؛ فمهما فعل الولد معهما فلن يستطيع أن يوفيهما حقهما، فاستحضار هذا الأمر مدعاة للبر.
4) توطين النفس على البر: فينبغي للمرء أن يوطن نفسه على بر والديه، وأن يتكلف ذلك ويجاهد نفسه عليه؛ حتى يصبح سجية له وطبعا.
5) صلاح الآباء: فصلاحهم سبب لصلاح أبنائهم وبرهم بهم.
6) التواصي بالبر: وذلك بتشجيع البررة وتذكيرهم بفضائل البر، ونصح العاقين وتذكيرهم بعواقب العقوق.
7) إعانة الأولاد على البر: وذلك بأن ينبعث الآباء إلى إعانة أولادهم على البر، وذلك بتشجيعهم وشكرهم والدعاء لهم.
8) أن يضع الولد نفسه موضع الوالدين: فهل يسرك أيها الولد غدا إذا أصابك الكِبَر ووهن العظم منك واشتعل الرأس شيبا وعجزت عن الحراك – أن تلقى من أولادك المعاملة السيئة والإهمال القاسي والتنكر المحض؟ !
9) قراءة سير البارين والعاقين: فسير البارين مما يشحذ الهمة، ويذكي العزيمة، ويبعث على البر. وقراءة سير العاقين وما نالهم من سوء المصير، تنفر عن العقوق، وتبغض فيه، وتدعو إلى البر وترغب فيه.
10)استشعار فرح الوالدين بالبر وحزنهما من العقوق: فلو استشعر الإنسان ذلك الأمر لانبعث إلى البر، ولانزجر عن العقوق.
الآباء والمسنون في حضارة الغرب المادية
إن إهتمام الإسلام بالمسنين عموماً وبالوالدين خصوصاً، كان من أهم ما تباهي به الأسرة المسلمة، وهو يعد من استقرارها وتوازنها، وتعاطفها وتعاونها، وأما حضارة الغرب المادية فلها شأن مخالف، ففي زمن طغيان المادة، تحتاج البشرية إلى من يذكرها بالمعاني الإنسانية السامية، والقيم الإسلامية الرفيعة.
حتى أصبحت الحيوانات في تلك الحضارة تتفوق أحياناً على رعاية المسنين، ولاسيما المرضى والعجزة، فقد انتهت صلاحياتهم، ولم يعدلهم ما يقدمونه لبلادهم، ولذلك أهملوا ورمي بهم في زوايا قديمة بانتظار أن يأخذهم الموت.
وهذا ما جعل النائب الديمقراطي الأمريكي كلودبير يقول: “إن وضع المسنين فيأمريكا عارٌ وطني مرعب”،وأضاف قائلاً: “لا أحد يدرك حتى الآن أبعاد هذه المشكلة المرعبة، ولا يرى أحد أن يعترف بما يجري، لقد تجاهلنا المشكلة لأنها مخيفة، لدرجة تمنعنا من الاعتراف بوجودها، ولا نريد أن نصدق أن مثل هذه الأشياء، يمكن أن تحدث في دولة متحضرة.
وتضيف الدكتورة “سوزان ستايتمتر” أستاذة الدراسات العائلية في جامعة “ملاوير” تقول: “لقد تعودنا طوال تاريخنا على الإساءة للمسنين، إننا نميل إلى العنف البدني، وقد أصبح هذا جزءاً ثابتاً من طبيعة عائلات كثيرة تسيء للمسنين، بالعنف والاضطهاد، وأصبح إهمالهم وعدم الرفق بهم، أو حتى نجدتهم من الأمور الشائعة في المجتمعات الأوربية”.
وأخيراَ:
الحياةَ في رحاب الإسلام ما أجملها ،حيث الطريق الصحيح الذي يُنير للمسلم دُنياه، ويَحفظه مِن عذاب النار في أُخراه، هذا الطريق يَسلكه مَن عَمَّر الإيمانُ قلبَه؛ فإن الإيمان هو جوهرُ الدِّين، والعقيدةُ الصحيحة هي قاعدتُه السليمة التي يَنهض عليها، وهي الدافع القوي إلى العمل الصالح، والانحرافُ عن العقيدة الصحيحة مَهْلكة وضَياع، والفردُ بلا عقيدة ربَّانيَّة يكُون فريسةً للأوهام والشكوك، التي ربَّما تتراكم فتحجُب عنه الرؤية الصحيحة لدُروب الحياة ورسالتِه فيها، والمجتمعُ الذي لا تَسُوده عقيدةٌ ربَّانيَّة هو مجتمع بهيميٌّ وَحْشيٌّ هَمِجيٌّ، يَفقد كلَّ مقوِّمات السعادة والطمأنينة، وإنْ كان يملكُ كلَّ مقومات الحياة المادِّيَّة، والتي كثيرًا ما تقودُه إلى الدَّمار والانحلال الاجتماعي والأخلاقي، كما هو مُشاهَد في بعض المجتمعات الغربيَّة، التي تملك قوة مادِّيَّة ولا تملك عقيدة إيمانيَّة صحيحة.
لقد وَفَّرَتِ المجتمعاتُ الغربيَّة لأصحابها الرفاهيةَ والمتعة والطعامَ والشراب، ولكنها دمَّرت الإنسانيَّة والطمأنينة الاجتماعيَّة والأمان وسائر القِيَم الأخلاقيَّة، فقد قَطعَت الأرحامَ، وما عَرفَت للوالدين حقًّا ولا فضلاً، بل سنَّتْ لهم سُنَّة أن يُلقَوا في دُور المسنِّين حتى يتوفَّاهم الله، ولا مانع مِن أن يتَّصل بهم أبناؤهم في المناسبات، أو يُرسلوا إليهم برقيَّات تهنئة!
من هنا، وفي صراعات هذا العصر الذي يُغرق حياةَ المسلم بالمسائل التافهة: مِن لهوِ الحياة ولغْوها، ليس هناك مِن عمل أنفعَ وأشرَف مِن أن يتعلَّم الإنسانُ أمورَ دِينه، وأركان إيمانه ومقتضياته، وأن يَتعرَّف على معاني ومَزالق التيه والضلال، ويحترس منها، ويُعلِّمها غيرَه مِن إخوانه المسلمين.
ــــــــــــــ
*برنامج رخصة قيادة الحياة الأسرية (المساق رقم 1 “التعامل مع الوالدين آداب وأحكام ” تقدم من طرف منصة زادي للعلوم الشرعية” ، تقديم الشيخ محمد صالح المنجد).
Source : https://dinpresse.net/?p=11818