ادريس عدار
مرت ثلاثون سنة على انهيار جدار برلين. في ألمانيا، التي كانت غربية، احتفالات متواصلة بالحدث. برامج في القنوات في مختلف عواصم أوروبا. وثائقيات عن أوروبا الشرقية.
من بنا الجدار هو من هدمه. من خلط الألوان هو من يرسم اليوم جداريات 9 نونبر 1989. تم استدعاء شخصيات من عالم الفكر والسياسة في ذلك العهد للحديث عن العالم الشيوعي.
انهيار جدار برلين مرحلة فاصلة. لكن من تحكم في الجغرافية هو من تحكم في التاريخ. من فرض تقسيم أوروبا بعنوان رئيسي تقسيم برلين إلى شرقية وغربية هو من كتب فصول التاريخ. غيّر الجغرافية، ورسم حدودها ووضع الأسلاك الشائعة حيث توضع.
اليوم أراد أن يصور انهيار جدار برلين بداية تحقيق حلم الديمقراطية. لا أحد كان يعرف ما يدور خلف الجدار. كانت هناك قناة واحدة لتلقي المعلومات. قناة الغرب الذي كان يمتلك وسائل الإعلام القوية في العالم. الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب. لم نكن حينها دخلنا عصر السوشيال ميديا، ولم يكن هناك فيسبوك ولا تويتر ولا فيديوهات مباشرة. من ينقل المعلومة كان هو الغرب.
كانت كل المعلومات المنقولة عن المعسكر الاشتراكي تأتي من الغرب. أي من العدو. كشفت كتابات ومعلومات أفرجتها عن المخابرات الأمريكية أن هذه الأخيرة صرفت الملايير من خلال مكتب الشؤون الثقافية لشراء كبار المثقفين والفنانين والفرق الموسيقية، بغرض تشويه صورة الجهة الأخرى.
لست هنا في وارد تبرئة الطرف الآخر، ولكن لست مستعدا لتصديق ما ورد عنه. لست مستعدا لتصديق قصة المنشقين والجولاج وما كتبه سولجستين عن السجون في سيبريا..قد تكون وقد لا تكون..
الحاضر خير دليل على تزوير التاريخ..أمام عيون الأحياء، بل أمام مشاركين في صناعة الأحداث، يتم الترويج للكذب..هذا الأخير أصبح صناعة كاملة الأركان..إذا لم نكن قادرين على مواجهة هذا السيل الجارف من الأخبار الكاذبة، فهل يمكن أن نثق في تاريخ صنعته المخابرات…أصبح اليوم معروفا أن المخابرات الأمريكية جندت آلاف المثقفين والفنانين والسياسيين والإعلاميين لصناعة صورة متحيزة حول المعسكر الاشتراكي…كان الغرض شيطنة الشيوعية باعتبارها العدو الأول للنظام الرأسمالي..
الذي أبدع اليوم قصة براميل البارود المتفجرة في سوريا…وأبدع قصة السلاح الكيماوي من أجل التدخل العسكري..ألم يكن قادرا على تصوير القادة الشيوعيين بأنهم مجرد مهووسين بالدم…لماذا لا يتحدث أحد عن صورة ستالين المختلفة…صورة القائد الشيوعي الذي صنع صمود ستالين غراد الذي غير وجه العالم والمعركة..الذي هزم النازية وهتلر هي قوة الشيوعيين…لكن لأن الذي يملك الإعلام هو الغرب…فصور نفسه أنه وحده المنتصر…أمريكا اليوم هي التي صنعت الحركات الإرهابية..دعمتهم بالمال والسلاح والخبرة والمعلومات النوعية..لكن بعد هزيمة الإرهابيين من قبل الجيش العربي السوري وحلفائه ظهر الصانع بحلفه الدولي ليزعم أنه هو من هزم الإرهاب.
سيستشكل البعض علينا بالواقع المادي والمعيشي لهذه الدول..لقد عاش المعسكر الاشتراكي تحت الحصار..حصار جهنمي..طبعا ما قلناه لا يبرر أخطاء البيروقراطية..لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال تصديق ما تم ترويجه عن الآخر…الوسيلة الوحيدة هي هذا الجهاز الاستخباراتي الكبير، الذي خصص أموالا ضخمة لنشر المغالطات..أنشأ المحطات التلفزية والإذاعية..أسس المنتديات الفكرية والثقافية..موّل المجلات ليست السياسية فقط بل حتى الفكرية والأدبية والفلسفية بل صناع فلاسفة..
كيف إذن نثق في هذا التاريخ؟
للأسف الشديد أن حيل الغرب انطلت حتى على المثقف اليساري..بعد سقوط الجدار أبدعت أمريكا تيار السياسة العالمي بعنوان “الديمقراطية وحقوق الإنسان”..شعاران مغريان..لكن ظاهرهما الرحمة وباطنهما العذاب..عن طريق هذا التيار تمت الهمينة لأمريكا على العالم…انخرط اليسار في هذا التيار برسم المراجعات..هنا وقع في الفخ.. فتحولت المراجعات إلى تراجعات.
جدار الكذب، الذي بناه الغرب الرأسمالي، نجح في تعميم التسطيح بعد تعميم الرفاهية الكاذبة. بلغ التسطيح حد تبني اليسار لأطروحات ظل يحاربها عقودا طويلة..ومن عجائب الزمن الجديد أن “الثوار” كانوا مع أمريكا والأنظمة مع روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي والصين الشيوعية..ودعم بعض اليساريين “ثورة حلف الناتو” بليبيا…وأسس يساريون لجانا لدعم الشعب السوري يعني التنظيمات المسلحة…واستمروا في ذلك حتى بعد ظهور جبهة النصرة بأسمائها المعلنة.
وروج الغرب لمفهوم ميكانيكي للديمقراطية تسطيحي الغرض منه صناعة الفوضى في العالم العربي..كل ذلك جاء نتيجة لجدار الكذب..لكن خيار المقاومة ضرورة تاريخية لردع الهيمنة الناتجة عن القوة العسكرية والمالية والإعلامية..وتبدأ المقاومة من الحرب على مستوى المفاهيم..
كان الغرب يصور المعسكر الاشتراكي بأنه مكان للجوع..اليوم تقول ميركل، التي ترعرعت في ألمانيا الديمقراطية “إن الحياة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي ترعرعت فيها، كانت بسيطة وأحيانا “مريحة بطريقة معينة”.
وفي حديث لصحيفة “سيودويتشه تسايتونغ” الألمانية عشية الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين، قالت ميركل إن ألمانيا الغربية كانت لديها “فكرة نمطية إلى حد ما” عن الشرق.
طبعا الشرق كان تحت الحصار..لكنه كان يقاوم المنع..وبالتالي لم تكن فيه رفاهية..لكن كانت الدولة توفر أساسيات الحياة..لست في وارد الدفاع عن هذا النمط..لكن أردت القول إن ما قرأناه عنه ليس صحيحا على سبيل الشبهة لأن من أنجزه هو العدو..
Source : https://dinpresse.net/?p=5151