تحرير: يسار عارف
يشهد المشهد السياسي الأوروبي في السنوات الأخيرة تحولات عميقة أبرز ملامحها صعود اليمين المتطرف من الهامش إلى قلب الساحة، فبعد أن كان هذا التيار موضع رفض واسع عقب الحرب العالمية الثانية بسبب ارتباطه بالفاشية والنازية، عاد اليوم ليطرح نفسه بديلاً شعبياً في مواجهة الأزمات المتراكمة التي تعصف بالقارة.
ويجد هذا الصعود جذوره في حالة القلق التي تسود قطاعات واسعة من المجتمعات الأوروبية إزاء الهجرة، البطالة، العولمة، وتراجع الثقة بالمؤسسات التقليدية، حيث يقدم اليمين المتطرف نفسه كصوت “الأمة المهددة” وحامي الهوية الأوروبية من التغيير الديموغرافي والثقافي.
لقد لعبت موجات الهجرة واللجوء من الشرق الأوسط وإفريقيا دوراً محورياً في تغذية الخطاب اليميني، حيث يتم تصوير المهاجرين باعتبارهم عبئاً على الاقتصاد ومصدراً للجريمة والإرهاب، في ظل استغلال أحداث دموية مثل هجمات باريس وبروكسل لتأجيج المخاوف من الإسلام والمسلمين.
إلى جانب ذلك، ساهمت الأزمات الاقتصادية التي تفاقمت بعد أزمة 2008 في دفع فئات شعبية، خاصة في جنوب أوروبا وشرقها، نحو البحث عن خطاب سياسي يَعِدُ بالحماية والقطيعة مع السياسات الليبرالية.
أما الاتحاد الأوروبي، الذي كان يمثل في نظر الكثيرين مشروع الوحدة والاستقرار، فقد تحول إلى هدف مباشر لنيران الشعبويين الذين يرونه رمزاً للبيروقراطية البعيدة عن هموم الناس.
وتختلف مظاهر اليمين المتطرف من بلد إلى آخر، ففي فرنسا يتقدم “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان بثبات نحو المراتب الأولى في الاستحقاقات الانتخابية، وفي إيطاليا أصبحت جورجيا ميلوني، زعيمة حزب “إخوة إيطاليا”، على رأس الحكومة، بينما يحقق حزب “البديل من أجل ألمانيا” اختراقات كبيرة داخل المشهد السياسي الألماني.
وفي أوروبا الشرقية، تترسخ حكومات ذات نزعة قومية محافظة كما في المجر بقيادة فيكتور أوربان وبولندا مع حزب القانون والعدالة.
هذا التنوع في السياقات لا يلغي وجود قاسم مشترك يوحد هذه القوى، وهو خطاب الهوية المغلق، ومعاداة المهاجرين، ورفض التعددية الثقافية.
ولا يقتصر أثر هذا الصعود على الداخل الأوروبي، بل يمتد ليؤثر في سياسات القارة الخارجية، فمع تصاعد النزعة القومية، تتجه بعض الحكومات إلى إعادة غلق الحدود وتقليص التزاماتها الدولية، مع تعزيز خطاب “أوروبا الحصن” في مواجهة موجات النزوح القادمة من الجنوب.
كما ينعكس ذلك على علاقة أوروبا بمحيطها، خاصة مع إفريقيا والشرق الأوسط، حيث يغلب منطق الردع الأمني على منطق الشراكة والتنمية.
ورغم هذه المخاطر، فإن مستقبل اليمين المتطرف في أوروبا ليس محسوماً، إذ يظل رهناً بقدرة الأحزاب الوسطية على تجديد خطابها وتقديم حلول عملية للأزمات البنيوية التي تستغلها الحركات الشعبوية.
أن المسألة لا تتعلق فقط بمواجهة انتخابية، بل بمعالجة جذور القلق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي يدفع قطاعات متزايدة من الأوروبيين نحو أحزاب الهوية والانغلاق.
ومن هنا يمكن القول إن اليمين المتطرف ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل انعكاس لأزمة أعمق يعيشها المشروع الأوروبي ذاته، أزمة قد تحدد ملامح مستقبل القارة في العقود المقبلة.