الوقوع في التهلكات: نموذج في المنهج والمضمون

13 نوفمبر 2025

د. صلاح الدين المراكشي

إمام وخطيب ومرشد ديني بالمستشفيات والسجون الفرنسية، ومبتعث سابق من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية

شاء الله تعالى أن أزور وطني المغرب مجددًا، وكانت آخر جمعة حضرتها هناك يوم 10 ربيع الآخر 1447هـ الموافق 3 أكتوبر 2025م، قبل مغادرتي في اليوم التالي إلى فرنسا. وفي تلك الجمعة المباركة، استمعتُ مع جموع المصلين إلى خطبة بعنوان: “الحرص على تجنب الوقوع في التهلكات” وبصفتي خطيبًا سابقًا بمساجد العدوتين الرباط وسلا، في كلٍّ من المساجد التالية بالنيابة: المحمدي بسلا، ومسجد الفتح بسلا، والمسجد الكبير بحي مولاي إسماعيل سلا ومسجد الشهداء بالرباط المطل على المحيط الأطلسي، فإنني أقف أمام هذه الخطبة موقف المقيّم المنصف، لا المتحيّز، بل من باب الخبرة والمسؤولية الدعوية فأقول : لقد كانت خطبة وافية استوفت أركان الخطبة الشرعية من حيث المنهج والمضمون، وأبانت عن عمق الفهم، وسلامة المقصد، حتى ليُخيَّل إلى السامع أنه أمام نصٍّ محررٍ بعناية علمية ومنهجية دقيقة، لا يقل شأنًا عن خطب كبار العلماء في تاريخ الأمة. وأول ما شدّني في الخطبة المذكورة براعة الاستهلال التي افتتحت بها؛ فلم تكن افتتاحًا تقليديًا يكرر خطبة الحاجة كما جرت عادة بعض الخطب، ممن ألِفَ أصحابها تَكرارها وكأنها لازمة لا تُستبدل ! وبالمناسبة، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يلتزم افتتاح جميع خطبه بخطبة الحاجة، بل علّمها لأصحابه، كما ورد في بعض روايات حديث ابن مسعود في صحيح مسلم وأصحاب السنن، مع وجود اختلاف بين العلماء في توجيهها : هل هي خاصة بالنكاح أم بمقام التعليم والمواعظ، أم عند كل حاجة ؟ وهي بذلك مشروعة على سبيل الاستحباب لا الوجوب.

أما خطبه الأخرى، سواء كانت على المنبر أو على الأرض، أو من جلوس أو قيام، فكان صلى الله عليه وسلم يفتتحها بطرق متنوعة بحسب المناسبة، غالبًا بالقول: “الحمد لله”، أو بالدعاء، وفي بعض الروايات بلفظ: “إن الحمد لله…” كما في خطبة الحاجة. مما يدل على أن التنوع في افتتاح الخطب كان من سنته صلى الله عليه وسلم دون التقيد بصيغة وحيدة وقد أوتي جوامع الكلِم وفصل الخطاب. ثم إن الخطبة المذكورة التي شهدتُها لم تتضمّن ذلك التمهيد المبتور الذي شاع على ألسنة بعض المبتدئين بقولهم:”عنوان خطبتنا لهذا اليوم كذا” بل كانت المقدمة تمهيدًا حيًا نابضًا، يجذب الأسماع ويهيّئ القلوب، ويدخل المصلين في جوٍّ روحانيٍّ عميق يقودهم بسلاسة إلى صلب الموضوع. وهذا الأسلوب هو نهج السلف الصالح والخطباء الأوائل في تآليفهم ومواعظهم؛ إذ كان السامع يدرك موضوع الخطبة أو الموضوع من خلال المقدمة المحكمة وبراعة استهلالها، لا من التصريح بعنوانها.

لذلك جاءت مقدمة خطبة “الحرص على تجنب الوقوع في التهلكات” روحانية محكمة السبك، تنقل المستمع من مشاغل الدنيا إلى أجواء الذكر والموعظة. أما من حيث الموضوع، فقد جاءت الخطبة متمحورة حول أصل قرآني راسخ هو قوله تعالى: ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]. وانطلقت من هذه الآية لتوضح معنى التهلكة، وما يدخل في مفهومها من صورٍ ومعانٍ تشمل الظلم، والفساد، والإدمان، والتهاون في أداء الأمانات، وأكل المال الحرام، والاعتداء على الحقوق، وغير ذلك من مظاهر الانحراف التي تودي بالأفراد والمجتمعات إلى الهلاك. وقد استندت الخطبة إلى الكتاب والسنة مما يجعلها خطابًا مؤصّلًا شرعيًا يعتمد على مصادر الوحي لا على الآراء الشخصية أو العواطف الوعظية. وهذا كافٍ لأن نعدّها نموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه خطبة الجمعة: دعوةٌ إلى الخير بأسلوب علمي منضبط، ومقاصدها التذكير لا الجدل.

لقد لمس السامع، ومنهم هذا العبد الفقير، في هذه الخطبة وحدة الموضوع والأسلوب، فلم تكن متفرقة الأفكار ولا متشعبة الاتجاهات كما يقع في بعض الخطب الفردية التي يحاول أصحابها التطرق إلى كل القضايا في ساعة واحدة.وهنا يبرز الفرق بين الخطبة المنهجية الموجهة والخطبة الارتجالية التي يسعى بعض الخطباء من خلالها إلى إرضاء الأذواق أو “إبراز العضلات” كما يقال! ولست أقلل من شأن الاجتهاد الفردي، فكلٌّ أدرى بوسيلته، لكن العبرة في النهاية ليست بطول الخطبة ولا بمستوى الإثارة فيها، بل بأثرها في النفوس. وقد تحقق هذا الأثر بوضوح في الخطبة التي حضرتها؛ إذ خرج المصلون منها بذكرى وموعظة، لا بمجرد إعجابٍ بصوت الخطيب أو أسلوبه البلاغي بل بمضمونها. حتى وإن فَرَضنا تكررتْ بعض المواضيع – كالتذكير بالبيئة، أو المحافظة على الماء، أو الإشادة ببعض المناسبات الوطنية – فإنها تُتناول من منظور شرعي ووطني، وفي التَّكرار فائدةً عظيمة، لأن الشيء إذا تكرر تقرر، ولأن ما هو معلوم اليوم لكثير من الناس قد يجهله الجيل الآتي.

وقد يكون التكرار أيضًا راجعًا إلى تجدّد الحاجة للحديث عنها وقيام موجبها. كما قد يكون تَكرار الموضوع؛ لأجل بقاء المخالفة واستمرار وجودها، فمتى وُجدت المخالفة وجب دوام التذكير بها وتنبيه المؤمنين عليها. وفي هذا المقام أستحضر مقولةً تتناقلها الألسنة بين الخطباء :” أن أحد الوعاظ كان يكرر خطبة واحدة كل جمعة، فقال له بعض الناس : “أما وجدت موضوعًا غيرها؟”، فأجابهم: “حتى أرى أثرها فيكم، حينها أنتقل إلى غيرها.” وهذا – في نظري – عين الحكمة في الخطبة، فالمقصود ليس أن يسمع الناس الجديد، بل أن يتأثروا بما يسمعون. فليس المطلوب من الخطيب أن يتقمص دور مذيع الأخبار، ولا أن يعيد على الناس ما يسمعونه يوميًا في وسائل الإعلام، بل أن يقوم بدوره الرباني في التذكير والهداية والإصلاح. وهذا ما جسدته خطبة “الحرص على تجنب الوقوع في التهلكات”، إذ جمعت بين التذكير والإصلاح والتوجيه الهادئ، بعيدًا عن الصخب والجدل والغوغائية. فالخطبة التي تُذكّر وتؤثر خيرٌ من مئة خطبة تُدهش وتُثير، والعبرة – كما قال الله تعالى –(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [ الذاريات، الآية 55]

وأختم قولي متعجبًا من بعض المتحمسين أو المتعاطفين الذين ينتقدون الخطب المقترحة الصادرة عن وزارة الأوقاف، بينما يستعينون هم أنفسهم بخطبٍ من دولٍ أخرى قد لا تمت بصلة إلى واقع المغرب وظروفه. بل رأيت بعضهم — ولا أبالغ — يلقي خطبةً سمعتها من قبل في بلدٍ شقيق، بنفس الألفاظ ونبرة الصوت، حتى كأنه يكررها تقليدًا لصاحبها حرفيًا! فكيف يُستنكر اعتماد خطبة وطنية تراعي واقع الناس واحتياجاتهم، ثم يُقبل في المقابل على خطب أجنبية بعيدة عن السياق المحلي؟! ولست أعيب الاستفادة من تجارب غيرنا، ولكن المعيب هو التناقض في الموقف؛ إذ الأَولى دعم الجهد العلمي الوطني وتشجيع العمل المؤسسي المحلي، لا التنكر له ولا الانتقاص منه.

والله تعالى أعلى وأعلم

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...