الوطنية المغربية الجديدة
بومدين عبد الصادقي
أظن أن وطنية مغربية جديدة هي قصد التبلور أو قل إن الوطنية المغربية في طور التجدد والترسخ. لقد تمحورت الوطنية المغربية في العصر الحديث حول الاستقلال الوطني وارتبط أي حديث عن الوطنية بهذا المحور الأساس وأي شعور بالانتماء للوطن والارتباط به يقاس بمدى الارتباط بفكرة الاستقلال.
غير إنه بعد الاستقلال وخفوت وهج فكرة الاستقلال، بعد ان تم بالفعل، تم الباس او إدراج الوطنية المغربية، في ظروف سياسية وإيديولوجية تاريخية خاصة ضمن كل وهمي أو ضمن وطن أكبر وأوسع (ميتافيزيقي) هو ما سُمي بالوطن العربي…مع طغيان مفهوم القومية العربية (التي لا وجود فعلي لها).
الوطنية المغربية أصبحت، في الخطاب السياسي والايديولوجي لدى النخب السياسية والثقافية والاعلامية (ليس لدى الدولة في العمق) جزء وليس كلا متكاملا متميزا.
لم يصل الأمر إلى فكرة القُطر كما ساد في شرق المتوسط والتي تعني، عمليا، جزء من امة وليس امة كما هو حال الأمة التركية أو الروسية أو الفارسية…وكما يجدر بأي أمة عريقة.
المغرب رغم إنه أمة عريقة ومتميزة وذات جذور تاريخية وحظور قوي عبر التاريخ فإنه تم ربطه، عنوة، بشرق المتوسط كجزء وليس ككل.
كل الأمم الكبرى حافظت، بل وبلورت وجددت فكرة الوطنية…الامة الروسية لم تكن جزء من الاتحاد السوفييتي بل محوره، وفي عمق هذا الاتحاد كانت الوطنية الروسية اولا …وهي الوطنية التي جددها وجسدها بوتين.
الامة التركية والوطنية التركية كانت محور الدولة العثمانية وليست مجرد جزء وجدد كمال اتاتورك هذه الوطنية. ثم رجع أردوغان بشكل ملفت الى مجدها التاريخي ليبحث لها عن مكانة قوية وفاعلة في هذا العصر من منطلق الوطنية التركية وليس كجزء من أمة أو أي فضاء آخر.
حتى الإيرانيين، بخطابهم الديني القاصد لبناء “أمة شيعية” بأجزاء و”أقطار” في المنطقة، فإنهم في العمق يجددون الوطنية الفارسية والأمة الفارسية العريقة.
واظن ان حتى جمال عبد الناصر وهو يضخم من الخطاب، والممارسة ايضا، حول الامة العربية فانه لم يكن في العمق يعمل سوى على تجديد وتقوية الوطنية المصرية، لأن الأمة المصرية هي المحور وباقي بلدان الأمة الوهمية أجزاء واقطار في خدمة المحور والأمة العظيمة: مصر “ام الدنيا”!
هي لعبة الأمم، كل أمة تريد أن تخلق لنفسها فضاء أوسع تكون هي محوره لخدمتها وخدمة مصالحها أولا.
من غير المفيد، في تقديري، طلق اوصاف من قبيل الشوفينية او العنصرية او ما شابه لادانة او رفض هذا النزوع نحو الوطنية والسمو بالشعور الوطني والارتباط بالوطن كالوية في عصر..العولمة، بقدر ما هو مفيد فهم الدواعي والاهداف ضمن صراع دولي شرس حول المواقع والمصالح الوطنية في نهاية المطاف…وليس غريبا ان يتم هذا النزوع حتى في البلدان الاوربية التي خفت فيها الشعور الوطني ” الضيق ” لصالح هوية أوسع، أوربا…وليس غريبا أن بتم كل هذا في عصر …العولمة ! وفي تقديري أن العولمة نفسها هي تحويل أمم الى أجزاء وأفلاك للأمة أكبر: أمريكا، الوطن الأمريكي! وليس غريبا أن يرفع ترامب شعار أمريكا أولا.
لعبة الأمم!
لنعد إلى منطلق هذا المقال وفكرته الأساس: الوطنية المغربية الجديدة أو المُجددة.
فمنذ سنوات ظهرت إرهاصات هذا التجديد والترسيخ للوطنية المغربية…وأظن أن فكرة “تمغرببت” تدخل ضمن هذه الإرهاصات. ثم ما لاحظناه من تطور إجماع حول النظام السياسي (الملكية) والدفاع عن هذا النظام المجسد للهوية المغربية المتميزة من طرف نخب سياسية وفكرية وثقافية بوضوح وبدون حرج كما كان الامر في الماضي القريب.
كما اظن ان شعار ” تازة قبل غزة” الذي كان يُردد بخفوت واحتشام أصبح يُردد بقوة وجهر بل باعتزاز، وأصبحنا نسمع بصوت مكبر: المغرب أولا ومصالح المغرب اولا، والمغرب محورا وليس جزء من محور، المغرب أمة وليس جزء من أمة.
ضمن إطار عملية البلورة للوطنية المغربية الجديدة، وهي عملية تاريخية وليست قرارا إداريا او سياسيا، كانت مسالة الامازيغية كبعد محوري للهوية الوطنية المغربية وليس مجرد مكون من ضمن مكونات اخرى، فجاء الاعتراف الرسمي ثم الدستوري، ثم كان هذا التوجه للتاريخ!
التاريخ جزء أساس في هوية أي أمة ومرتكزها، وطمس تاريخها هو تشويش وتضبيب الهوية الخاصة المتميزة …فكان أن ظهر مثقفون وباحثون مغاربة يقدمون للامة قراءة أخرى لتاريخ المغرب او قل التاريخ الحقيقي للمغرب الذي تم طمسه، عمدا، لترسيخ فكرة المغرب جزء من امة او هي امة مرتبطة بشرق المتوسط وليس كيانا متميزا وعريقا ومحوريا.
ظروف تاريخية سياسية وايديولوجية وثقافية ساعدت فيما مضى على هذا الطمس، وهو ما لم يعد قائما اليوم بنفس القوة والتأثير.
معرفة التاريخ الحقيقي للمغرب يبين انه لم يكن مرتبطا بشرق المتوسط الا على المستوى الديني (وأمم أخرى لها نفس الارتباط مثل تركيا وإيران..) وحتى الارتباط على مستوى اللغة لا يعني اطلاقا اندماج في امة لغتها العربية، فقد ارتبطت تركيا لغويا بالعربية لقرون عديدة دون ان تنسلخ من هويتها الوطنية التركية…
وأعتبر أن ما يجري اليوم من وعي اولا بان التاريخ المدرسي هو تاريخ ايديولوجي وسياسي وليس حقيقيا ثم إشاعة، بالتدريج، ونشر المعرفة بتاريخ المغرب الحقيقي، يندرج ضمن هذه العملية التاريخية الكبرى: بلورة وطنية مغربية جديدة…
قد يتطلب الامر في وقت لاحق أو زمن لاحق جرأة أكبر من قبيل تغيير كلمة ” الفتح ” العربي بالكلمة المعبرة فعلا عما جرى في التاريخ الحقيقي وهي كلمة الغزو العربي!
لتفهم الأجيال اللاحقة أن تأسيس دول وامبراطوريات مغربية غير خاضعة للشرق ” العربي ” هي عملية مقاومة للغزو في جوهرها.
كلمة الفتح تترتب عنها مقاربة وتصور، وكلمة غزو تترتب عنها مقاربة اخرى وتصور آخر للتاريخ، الهوية، الوطنية.
التعليقات