17 أكتوبر 2025 / 00:25

الوحدة النسقية في الآيات القرآنية

أشرف الحزرمي

الوحدة النسقية في السورة من سور القرآن ليست من طبيعة منطقية أو رياضية، أي لا تتولد فيها الأشياء عن بعضها البعض في متوالية على خط زمني تعاقبي مستقيم، بل الكلي في السورة يطرح نفسه إطارا جامعا يسبح فيه ما تحته من آيات تتصل وتنفصل، وترجع فيه الأشياء على بعضها البعض، فهو يتحدث عن موضوع معين ثم يليه الثاني الآخر المرتبط به ثم الثالث ثم الرابع، ثم يرجع إلى الثاني لأن فيه معنى الثالث والرابع، ثم يأخذ في الخامس، ثم يرجع إلى الثالث لأن فيه معنى الخامس، وكلها موضوعات ترجع إلى حقيقة واحدة تتمحور حولها آيات السورة القرآنية. والسور نفسها هي عدة حقائق تعبر عن حقيقة كبرى هي روح القرآن، وتتصف بما تتصف به الآيات، أي إنها كذلك لا تخضع لهذه المتوالية المنطقية.

فإذا عزمت على السفر في سورة البقرة ستلتقي ـ مثلا ـ بالنبي إبراهيم في الآيات (124-140)، ثم ستفارقه وتلتقي بموضوعات أخرى، ثم ستلتقيه في الآية (258) ثم ستفارقه وتلتقيه في الآية (260)، إنك في الحقيقة لم تسافر على خط مكاني، بل في دائرة زمنية ترجع فيها الأشياء على بعضها لأنها متشابكة، فإبراهيم يرتبط بآيات بني إسرائيل، ويرتبط بآيات المسجد الحرام.

ولو أنك تمعنت في هذه السورة (=البقرة) ستجد أن حل معضلة الارتياب ـ في رأيي ـ هي روح السورة، حبكة إلهية للدراما الإنسانية، امتزاج الخير بالشر، ومشكلة الإنسان مع الالتباس وعدم تمحض الحقيقة، واختلاط مسالكها القيمية بأضداها، العدل بالظلم، الحسن بالقبيح، لهذا كان مطلعها دالّا دلالة جوهرية، (ذلك الكتاب لا ريب فيه)، والكتاب هو مرجع الحقيقة، الحقيقة في مستوييها الوجودي والوجوبي، أي ما هو كائن حقا وما ينبغي أن يكون حقا، والحقيقة في القرآن من طبيعة روحية لا ينفع معها الارتياب، لا بد فيها من يقين (هم يوقنون).

ستجد ما ذكرته لك من بداية السورة إلى نهايتها، من شروع عرضها للمواقف الثلاثة من الحقيقة: أي الإيمان، والكفر، والنفاق بوصفه اشتباها بين الكفر والإيمـان (كفر يتظاهر بالإيمـان) وهذا الاشتباه هو المعضلة التي جاءت السورة كي تحلّهـا، لهذا توقفت السورة معهم لأنهم الموضوع، مرورا بالصورتين التمثيليتين لهما (استوقد نارا) و(كصيب من السماء) واختيار الاشتباه قرينة لبناء الصورتين، لأن الأولى تمثل بالفرد الذي يبصر ولا يبصر بين الضياء والظلام، والثانية تمثل بالجماعة التي تمشي ولا تمشي، ثم ارتباطا بعدها بعرض الحقيقة والتأكيد على عدم الريب فيها، ثم مشهد الحضرة الإلهية في نشأة آدم (الإنسان) وبيان سر خلقه بين الملائكة والشيطان، ثم مخاطبة بني إسرائيل أهم من يمثل الحقيقة التي لم تعد حقيقة، دين لم يعد دينا، وموقفهم من الكتاب (مصدر الحقيقة) وما قاموا به تجاهه، مرورا بالأحكام والمعاني الحافة بها لرفع الارتياب، ولم يكن اعتباطيا أن يكون عنوان السورة هو البقرة التي طُلب من بني إسرائيل ذبحها، فكانت رمزاً للتشابه والاشتباه والالتباس المولد للارتياب، ولولا مخافة الإطالة لربطت بين كل الآيات ومحاورها ضمن وحدة (حل معضلة الارتياب).

ويبدو لي ـ والله أعلم ـ أن القرآن يحاكي في نسقيته معنى التوحيد، علاقة الله بمخلوقاته، كما نجده مصورا في بعض أشكال الفنون الإسلامية، أي الأشكال المدارية التي تتمحور حول نقطة مركزية، لا أقصد به توحيد المتعدد الذي تضحي فيه الجزئيات بنفسها وتذوب في معنى الكلي الذي تنضوي تحته كما هو الأمر في الميتافيزيقيات الأخرى التي رأت في الإنسان أو الطبيعة وحدتها المطلقة، وتحاكي التجريد المنطقي للطبيعة، بل الأشياء الجزئية (المخلوقات اللامتناهية) تستمد فرادتها من الواحد (الله) الذي ترجع إليه رجوعـاً لأنه هو من شاء كيفية تصويرهـا، لذلك تحافظ على فرادتها بوصفها معبرة عن الله وليس هي هو.