27 أكتوبر 2025 / 21:57

الهوية الدينية المغربية وسؤال التجديد

الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
تعيش الهوية الدينية المغربية في الزمن الراهن مرحلة دقيقة تتطلب قدرًا عاليًا من الوعي والمسؤولية، إذ لم تعد التحديات التي تواجهها مقتصرة على الخطابات الوافدة أو التيارات المتشددة فحسب؛ بل أصبحت تتعلق بقدرتنا نحن — كمجتمع ومؤسسات — على مواكبة التحولات العميقة التي يعرفها العالم، ثقافيا وفكريًا وقيميًا، فالنموذج المغربي في التدين، القائم على العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي، والتصوف السني السلوكي، شكّل على امتداد قرون أساسًا متينًا للأمن الروحي، والتوازن المجتمعي، والانسجام بين الدين والدولة، غير أن هذا النموذج، على رسوخه التاريخي، لم يعد بمنأى عن خطر الذوبان في محيط عالمي سريع التغير، تتقاذفه الموجات الفكرية المتطرفة حينًا، والنزعات الفردية المنفلتة حينًا آخر .

لقد كان هذا النموذج المغربي في التدين ثمرة اجتهاد متواصل، وحصيلة تفاعل خصب بين العلماء والفقهاء والأئمة والمجتمع، بما جعله قادرًا على استيعاب التحولات الكبرى دون أن يفقد جوهره؛ لكنه اليوم يواجه تحديات غير مسبوقة بفعل الانفتاح الإعلامي والرقمي الذي جعل من كل شاب مغربي متصلًا بآلاف المرجعيات في لحظة واحدة.

هذا الوضع أفرز ظواهر متعددة قد تشوش على الخصوصية الدينية للمملكة المغربية؛ حيث أصبحت بعض الخطابات الدينية الوافدة تُقدَّم للشباب المغربي باعتبارها “الدين الصحيح”، فيما تُتهم المرجعية المغربية الرسمية بأنها “تقليدية” أو “بدعية”، وهو اتهام يخفي وراءه مشروعًا لتقويض الخصوصية المذهبية والروحية التي حافظت على استقرار المغرب لقرون طويلة .

أمام هذا التحول المتسارع، لم تقف الدولة المغربية ومؤسساتها الدينية موقف المتفرج؛ بل بادرت، بقيادة إمارة المؤمنين، إلى إطلاق سلسلة من المشاريع الإصلاحية والدعوية التي تجسد روح الاجتهاد والتجديد المؤسسي .

ولعل من أبرز هذه الجهود ما قامت به وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من مبادرات نوعية تهدف إلى إعادة وصل الدين بحياة الناس، وتجديد أدوات التبليغ والتأطير الديني بما يتناسب مع تحديات العصر.

فمن بين هذه المشاريع الرائدة، تبرز خطة التبليغ من أجل حياة طيبة، وهي مشروع ديني وطني كبير يهدف إلى نشر تعاليم الإسلام في بعدها العملي والإنساني، وتشجيع الناس على تطبيقها ليعيشوا حياة سعيدة في الدنيا والآخرة، تسعى هذه الخطة إلى سد الفجوة بين الفضائل الدينية وممارسات الناس اليومية، وذلك من خلال تفعيل منظومة القيم والأخلاق الإسلامية في مختلف مجالات الحياة: في الأسرة، والعمل، والتعليم، والإعلام، وفي العلاقات الاجتماعية.

إن ما يميز هذه الخطة أنها لا تكتفي بالدعوة إلى التذكير بالمبادئ العامة؛ بل تعمل على ترجمة الدين إلى سلوك ومعاملة، في انسجام تام مع المقاصد الكبرى للشريعة، ومع الرؤية المغربية في التدين التي تجمع بين الإيمان والعمل، وبين النص والواقع .

كما يُعتبر نظام الخطبة الموحدة الذي تعتمده الوزارة مثالًا آخر على هذا الاجتهاد العملي في تنظيم الحقل الديني وضمان وحدة الكلمة والمضمون. فالخطب الأسبوعية التي تُبث على منابر المملكة ليست مجرد نصوص وعظية؛ بل أدوات تأطيرية تهدف إلى توجيه الوعي الجمعي للمجتمع نحو القيم الجامعة، وتعزيز الأمن الروحي، والتصدي للانحرافات الفكرية والتأويلات المتطرفة.

ومن خلال هذا النظام الموحد، استطاعت وزارة الأوقاف أن تجعل من المنبر أداة تواصل فعالة بين العلماء والناس، وأن تحول الخطبة من فضاء تلقيني إلى رسالة توجيهية تؤسس لرؤية وطنية موحدة للدين والحياة.

هذه الجهود المؤسسية لا يمكن النظر إليها بمعزل عن مشروع إمارة المؤمنين، الذي يشكل الإطار الدستوري والروحي الناظم لكل السياسات الدينية في المغرب. فإمارة المؤمنين ليست مجرد رمزية دينية؛ بل منظومة قيادية قائمة على الاجتهاد المتجدد؛ حيث يضطلع أمير المؤمنين بدور الحامي للدين، والساهر على توجيه الحقل الديني بما يحفظ الثوابت ويعزز الوحدة المذهبية، ويمنع تسرب التيارات المتشددة أو التكفيرية التي تهدد السلم الاجتماعي.

لقد استطاع هذا النظام الفريد أن يُبقي الدين في المغرب بمنأى عن الصراع السياسي والمذهبي، وأن يجعل منه عنصر استقرار بدل أن يكون سببًا في التوتر والانقسام كما هو الحال في بلدان أخرى .

ومع ذلك، فإن هذه الجهود العظيمة، على أهميتها، تحتاج إلى تغذية فكرية متواصلة من طرف النخب والعلماء والباحثين . فالمؤسسات الدينية الرسمية، مهما بلغت من الكفاءة والتنظيم، لا تستطيع وحدها مواجهة التحولات العميقة في البنية الفكرية للمجتمع ما لم تجد دعمًا من الفاعلين الثقافيين والإعلاميين والتربويين.

إن الحفاظ على الهوية الدينية المغربية يتطلب تضافر كل القوى الحية في المجتمع، ضمن رؤية شمولية تتعامل مع الدين باعتباره مكونًا ثقافيًا وإنسانيًا جامعًا، لا مجرد منظومة من الشعائر والأحكام .

إن التحدي الأكبر اليوم يتمثل في نقل هذه الجهود المؤسسية إلى الفضاء الرقمي والفكري؛ حيث يتشكل وعي الأجيال الجديدة. فالمعركة لم تعد فقط في المنبر أو المدرسة؛ بل في المنصة والمحتوى والمعلومة.

يجب أن يمتلك الخطاب الديني المغربي حضورًا وازنًا في العالم الافتراضي، بخطاب عقلاني مؤثر، ولغة رصينة تجمع بين الأصالة والجاذبية، تُخاطب العقل والوجدان معًا، وتقدّم الدين في صورته الراقية كما عرفه المغاربة عبر تاريخهم الطويل.

إن الاجتهاد والتجديد اللذين تبنتهما وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في مشاريعها الكبرى هما الطريق الصحيح للحفاظ على توازن الهوية المغربية؛ لأن الدين الذي لا يتفاعل مع الواقع يُصبح معزولًا، والهوية التي لا تتجدد تذوب تدريجيًا في محيطها.

ومن ثَمَّ، فإن توسيع هذا النفس الاجتهادي ليشمل مجالات التعليم والإعلام والفكر يُعد واجبًا ملحًّا لضمان استمرارية هذا النموذج الفريد في التدين المغربي .

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن كل هذه المبادرات، من خطة التبليغ إلى الخطبة الموحدة، تعكس رؤية متكاملة في تدبير الحقل الديني المغربي، رؤية تعتبر أن الدين ليس عنصر تقييد؛ بل مصدر تحفيز أخلاقي وحضاري، وأن الاجتهاد ليس خروجًا عن الثوابت؛ بل تأكيد على حيويتها وقدرتها على التكيّف مع مستجدات العصر.

ومن خلال هذا المنظور، تُبرز التجربة المغربية تفردها بين دول العالم الإسلامي، إذ نجحت في الجمع بين حماية المرجعية الدينية، والانفتاح على متطلبات الحداثة، دون أن تقع في فخ التناقض أو الانقسام.

إن الدفاع عن الهوية الدينية المغربية اليوم لا يكون فقط بالشعارات أو الخطابات؛ بل بالفعل المؤسساتي والاجتهاد الفكري والميداني المستمر. فالزمن يتغير بسرعة، والجيل الجديد يُعيد طرح الأسئلة الكبرى حول الدين والحرية والمعنى والانتماء.

وإذا لم تجد هذه الأسئلة إجابات من داخل المرجعية المغربية نفسها، فإن البدائل الخارجية ستملأ الفراغ، وقد تكون بدائل متطرفة أو مشوهة؛ لذلك فإن الدعوة إلى التجديد ليست ترفًا فكريًا؛ بل ضرورة وجودية لضمان بقاء هذا النموذج المغربي في التدين حيًا وفاعلًا.

والمطلوب اليوم هو أن ننتقل من مرحلة الدفاع عن الهوية إلى مرحلة تطويرها، عبر إحياء روح الاجتهاد التي ميزت علماء المغرب منذ قرون، وعبر دعم الجهود المؤسسية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ومواكبتها بوعي علمي وثقافي منفتح.

فالهوية الدينية المغربية ليست إرثًا جامدًا، بل مشروعًا مستمرًا يتجدد مع كل جيل، ويحمل في جوهره رسالة الوسطية، وروح التسامح، وعمق العقلانية الإسلامية. وإذا كان المغرب قد نجح عبر التاريخ في أن يكون منارة دينية في الغرب الإسلامي، فإن التحدي اليوم هو أن يواصل هذا الدور في عالم مضطرب لا يعترف إلا بالخطاب القوي والواضح والمجدد.

ولعل أكبر ضمانة لذلك هي بقاء الاجتهاد حيًا، والتحديث مستمرًا، والوعي متيقظًا، حتى تبقى الهوية الدينية المغربية كما كانت دائمًا: سندًا للأمة، ودرعًا للأمن الروحي، وجسرًا بين الأصالة والمعاصرة .