الشيخ الصادق العثماني – أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
تُعدّ الهوية الدينية المغربية من أبرز السمات التي ميّزت المجتمع المغربي عبر قرون من التفاعل بين الدين والتقاليد والثقافة.. فالمغرب، بخصوصيته الجغرافية والتاريخية، استطاع أن يبني نموذجًا دينيًا متفردًا يقوم على الاعتدال والوسطية، من خلال اعتماد المذهب المالكي في الفقه، والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني السلوكي، تحت مظلة إمارة المؤمنين التي تؤمّن المرجعية الدينية وتحمي وحدة المذهب واختيارات الأمة؛ غير أن هذا النموذج، رغم صلابته وعمقه، بات اليوم يواجه جملة من التحديات المعقدة التي تفرض مقاربة جديدة للحفاظ عليه وتجديده في آنٍ واحد.
لقد أصبح من الواضح أن التحولات العالمية، بما تحمله من تقلبات فكرية وأيديولوجية، بدأت تنعكس على البنية الدينية والاجتماعية داخل المغرب، خاصة مع صعود تيارات “الإسلام السياسي” التي تطرح تصورات تتجاوز الثوابت المغربية، وتسعى إلى ربط الدين بمشاريع سياسية ظرفية.
هذه التيارات كثيرًا ما تقدم نفسها على أنها الممثل الحقيقي والوحيد للإسلام، مما يخلق نوعًا من الشك أو الاضطراب لدى بعض الشباب، ويضعهم في مواجهة حادة مع المرجعية الرسمية، التي طالما كانت حامية للتوازن الروحي والسلم المجتمعي .
إلى جانب ذلك، شهدت الساحة المغربية والعربية عمومًا بروز تيارات متشددة ومتطرفة، تتغذى من أيديولوجيات وافدة وشبكات رقمية غير خاضعة لأي ضوابط علمية أو فقهية، وقد نجحت هذه التيارات في بعض الحالات في استقطاب فئات من الشباب المغربي، خاصة في الفترات التي عرفت ضعفًا في التأطير الديني أو فراغًا معرفيًا، ونتيجة لذلك، تم تسجيل انزلاقات خطيرة نحو التطرف والعنف، لا تمت بصلة إلى الهوية الدينية المغربية الأصيلة.
وفي مقابل هذا التوجه المتطرف، بدأنا نلاحظ تصاعدًا لخطاب الإلحاد أو التشكيك في الدين، لا سيما بين بعض الفئات التي تربّت على ثقافات غربية أو استهلكت كمًّا هائلًا من المحتوى الرقمي دون أي مرجعية، هذا الخطاب، وإن لم يكن سائدًا، إلا أنه يشكل تحديًا حقيقيًا للهوية الدينية اليوم؛ لأنه يعتمد على الطعن في المسلمات والنقاش الساخر من الدين والعلماء، مما يربك مفاهيم الكثير من الشباب، خاصة في غياب نقاش علمي رصين يجيب على الشبهات ويقدم الدين في صورة عقلانية منفتحة.
إن العالم اليوم يعيش في ظل تطور تكنولوجي متسارع، وتحوّل رقمي هائل، فرض أنماطًا جديدة من التفكير والتلقي، وفتح أبوابًا غير مسبوقة للوصول إلى المعلومة – الصحيحة والمضللة على حد سواء. فمنصات التواصل الاجتماعي باتت المصدر الأول للمعرفة لدى ملايين الناس، وأصبحت “المرجعية” الدينية في كثير من الحالات تُختزل في فيديو أو منشور أو تعليق من داعية غير متخصص.
واليوم، مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى الساحة، ومع قدرته على توليد محتويات دينية آلية، أصبحنا أمام تحدٍ جديد تمامًا؛ حيث بات من الصعب التمييز بين ما هو علمي وما هو ملفق، ما يفتح الباب واسعًا أمام التلاعب بالعقول والتشويش على المعتقدات.
وفي هذا السياق، يُعدّ التحول الذهني والمعرفي لدى جيل Z في المغرب من بين أبرز التحديات التي تفرض نفسها بقوة. هذا الجيل، الذي نشأ في قلب الثورة الرقمية، وتشكل وعيه داخل فضاء مفتوح وغير مضبوط، يعيد اليوم طرح أسئلة جذرية حول الدين، والهوية، والسلطة، والقيم.
لم يعد يقبل الخطاب الديني التقليدي القائم على التلقين؛ بل يبحث عن خطاب عقلاني، تفاعلي، ومبني على الحجة والبرهان . إنه جيل يُريد فهم الدين في علاقته بالحياة اليومية، وبالأسئلة الأخلاقية والوجودية المعاصرة.
لا يعني ذلك أن هذا الجيل يرفض الدين؛ بل إنه في كثير من الأحيان يرفض طريقة تقديمه. لذلك، فإن التعامل مع هذه التحولات لا يجب أن يكون بمنطق التخويف أو الإنكار؛ بل بمنطق الاحتضان والتجديد. إن تجديد الخطاب الديني لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة حتمية، تقتضي منا إعادة صياغة مضاميننا ومناهجنا وأساليبنا بما ينسجم مع لغة العصر، ويعيد الثقة بين الشباب ومؤسساتهم الدينية.
علينا أن ننظر إلى جيل Z لا كمشكلة، بل كشريك في صياغة مستقبل الهوية، يملك من الطاقات ما يكفي لإحياء الدين من الداخل، إذا ما وجد من يُصغي له ويفهمه ويخاطبه بلغته.
ولا يمكن إغفال تأثير الهجرة، خاصة إلى الدول الغربية، حيث يعيش ملايين المغاربة في بيئات ثقافية وقانونية مختلفة. أبناؤهم، الذين وُلدوا هناك، يجدون أنفسهم أمام خطاب مزدوج: من جهة، يُطلب منهم الاندماج في مجتمعات تتبنى رؤى مختلفة حول الدين والهوية، ومن جهة أخرى، يُواجهون بخطاب “الإسلاموفوبيا”والتمييز، الذي يُصورهم كغرباء أو حتى كخطر على تلك المجتمعات، في هذا المناخ، تصبح الهوية الدينية عرضة للتآكل أو الاضطراب، إذا لم تحظَ بمرافقة فكرية وتربوية قوية ومتوازنة.
كل هذه التحديات – الفكرية، الاقتصادية، التكنولوجية، الاجتماعية والسياسية – تجعل من الضروري إعادة النظر في طريقة تعاطينا مع مسألة الهوية الدينية، لهذا نحن بحاجة إلى خطاب ديني جديد، لا يتخلى عن ثوابته، لكنه يُعيد صياغتها بلغة العصر، ويفتح باب الحوار مع الشباب، لا بوصفهم “مشكلة”، بل بوصفهم “شركاء” في بناء المستقبل.
نحتاج إلى تأهيل العلماء والدعاة لتوظيف أدوات العصر والتفاعل مع واقعه، كما نحتاج إلى مؤسسات تعليمية وثقافية تدمج الدين في الحياة اليومية بطريقة طبيعية، بعيدًا عن التوتر والجمود.
كما ينبغي أن يتحول الإعلام الديني إلى إعلام معرفي وتفاعلي، لا يكتفي بإعادة بث الخطب والمحاضرات، بل يواكب الأسئلة الجديدة التي يطرحها الشباب حول الدين والعالم والقيم. الهوية لا تُصان فقط بالخطب أو النصوص، بل بالممارسة الواعية، وبالحضور الفعّال في قلب المجتمع.
ختاما، إن مستقبل الهوية الدينية في المغرب ليس أمرًا حتميًا، بل هو خيار يتطلب الوعي، والتخطيط، والاستثمار في الإنسان. وإذا كنا نريد أن نرى أبناءنا يحملون هذه الهوية بإيمان واعتزاز، فعلينا أن نبدأ اليوم في فهم التحديات لا إنكارها، ودراستها لا الخوف منها، والتفاعل معها لا الهروب منها .