16 أغسطس 2025 / 19:04

“الهركاوي” كتجسيد لانهيار الذوق العام: مقاربة فلسفية سوسيولوجية

سليمة عبد الجليل بن جلون

1. مدخل إلى المفهوم

مفهوم “الهركاوي” كما يتداوله اللسان المغربي المعاصر ليس مجرد شتيمة عابرة أو تصنيف اجتماعي متعالي، بل هو توصيف لنمط سلوكي واجتماعي يتقاطع مع ما يسميه علماء الاجتماع الفرنسيون بـ Les Incivilités، أي المخالفات التي تمس الذوق العام والنظام الرمزي للفضاء المشترك. من مظاهر هذا النمط: الصراخ في الفضاء العام، التطفل على خصوصيات الآخرين، انعدام النظافة، عدم احترام القانون أو الأعراف المدنية، والسلوك العدواني تجاه الجيران والمارة.

هنا نستحضر تعريف ابن خلدون للحضارة والبداوة في المقدمة، حيث يميز بين أهل العمران البدوي وأهل العمران الحضري، مبينا أن البداوة تُنتج خشونة الطبع وقلّة الانقياد لقوانين المدينة، في حين أن الحضارة تُهذب الأخلاق وتفرض الامتثال للنظام العام. ظاهرة “الهركاوي” تمثل – في سياق المغرب الحديث – انتقال البداوة أو الهامش الريفي إلى قلب المدينة دون المرور بمرحلة التهذيب الحضري، مما يولد صدامًا بين منطق “الغابة” ومنطق “القانون”.

> “البداوة أصل العمران، والحضارة غاية له، فإذا تلاشت البداوة فقد تلاشت العصبية…” – ابن خلدون، المقدمة.

2. البعد الفلسفي والأخلاقي

كانط، في فلسفته الأخلاقية، يربط المواطنة الحقة بقدرة الفرد على احترام القانون باعتباره تعبيرًا عن العقل العملي الخالص. “الهركاوي” – وفق هذا الإطار – هو من يرفض إخضاع إرادته لقانون عام يمكن أن يُعمم على الجميع (المبدأ الكانطي للتشريع الذاتي). إن إلقاء القمامة في الشارع أو الصراخ في الحافلة ليس مجرد فعل عابر، بل هو إنكار ضمني لحق الآخرين في بيئة نظيفة وهادئة، وبالتالي هو خيانة لفكرة المواطنة الأخلاقية.

هيجل يرى أن الحرية لا تتحقق إلا داخل الدولة الأخلاقية (Sittlichkeit)، حيث يصبح السلوك الفردي مندمجًا في النظام الكلي للعرف والقانون. “الهركاوي” في هذا المنظور هو الذي يظل عالقًا في مرحلة “الذاتية الفارغة”، عاجزًا عن الارتقاء إلى مستوى الروح الموضوعية التي تدمج الفرد في المجتمع.

شوبنهاور، المتشائم الكبير، كان سيرى في “الهركاوي” دليلاً على انتصار “إرادة الحياة” العمياء على “تمثّل” العقل. النزعة العدوانية، الغريزية، والفوضوية ليست إلا تجليات لهذه الإرادة العمياء التي تدفع البشر إلى الصراع والاحتكاك بدل التعاون والتعايش.

3. التحليل الماركسي: البنية التحتية والبنية الفوقية

من منظور كارل ماركس، لا يمكن فصل السلوكيات “الهركاوية” عن الشروط المادية للإنتاج وإعادة الإنتاج الاجتماعي. “الهركاوي” ليس فقط نتاجًا لانهيار الذوق العام، بل هو انعكاس لواقع اقتصادي-اجتماعي متأزم:

بطالة مزمنة.

تعليم متردٍ.

تهميش مجالي.
هذه العوامل تنتج فئة مهمشة (Lumpenproletariat) – كما وصفها ماركس – تعيش على هامش الإنتاج، منخرطة في أنشطة غير قانونية، بلا وعي طبقي، وتصبح أحيانًا أداة في يد القوى الرجعية لتفتيت الحركة الاجتماعية.

4. التحليل النفسي: فرويد واللاشعور الجمعي

سيغموند فرويد كان سيفسر بعض مظاهر “التاهرگاويت” كتنفيس عن غرائز بدائية لم تخضع لعملية “التسامي” (Sublimation) التي تفرضها الحضارة. في كتابه الحضارة وسلبياتها، يشير إلى أن الحضارة تكبح الغرائز العدوانية والجنسية عبر مؤسسات القانون والتعليم والفن. “الهركاوي” هو مثال على فشل هذه العملية: الغرائز تنفلت في الفضاء العام عبر الصراخ، التحرش، اللباس الفاضح، أو العنف اللفظي والجسدي.

5. المقاربة السوسيولوجية المغربية: العروي والجابري

عبد الله العروي في تحليله لظاهرة التقليد والحداثة، يرى أن جزءًا من المجتمع المغربي يعيش “زمنًا ثقافيًا” مغايرًا للزمن العالمي، ما ينتج ازدواجية في السلوكيات: “الهركاوي” يعيش جسديًا في المدينة الحديثة لكنه ذهنيًا في بنية ما قبل-مدنية، حيث العلاقات يحكمها منطق العصبية والقوة لا منطق العقد الاجتماعي.

محمد عابد الجابري يربط هذه الظاهرة بالبنية الذهنية الموروثة عن “العقل المستقيل”، حيث تغيب المبادرة النقدية ويحل محلها التقليد والتواكل، ما يترك المجال للفوضوية واللامسؤولية في السلوك.

6. الهركاوي كجرح مديني

من منظور علم الاجتماع الحضري، “الهركاوي” هو مؤشر على خلل في سيرورة الإدماج الحضري (Urban Integration). نظريات إميل دوركهايم حول “الأنومي” (Anomie) – حالة اللامعيارية – تقدم تفسيرًا دقيقًا: حين تنهار القواعد أو تصبح غامضة، يفقد الأفراد بوصلة السلوك، فتسود الممارسات الفوضوية.

7. أمثلة تاريخية ومعاصرة

في التاريخ الإسلامي الوسيط، يشير ابن خلدون إلى أن المماليك أو القبائل الغازية حين تستقر في المدن، تحتاج أجيالاً حتى تتأقلم مع آداب العمران. فشل هذا التحول كان يؤدي إلى فوضى وعنف مشابهين.

في المغرب المعاصر، يمكن ملاحظة الظاهرة في أحياء التوسع الحضري الهامشي، حيث غياب البنية التحتية الثقافية والتربوية يؤدي إلى إنتاج سلوكيات “الهركاوية” كآلية تفاعل مع المدينة.

8. خاتمة: من التشخيص إلى المواجهة

مواجهة “التاهرگاويت” ليست مسألة شرطة وأمن فقط، بل مشروع تربوي-ثقافي طويل المدى:

إصلاح التعليم ليصبح أداة لإنتاج الذوق العام.

إدماج الهامش في الاقتصاد الرسمي.

تجريم المساس بالفضاء العام وتطبيق القانون بصرامة.

إعادة الاعتبار للفن والرياضة كمساحات للتسامي عن الغرائز العدوانية.

كما قال ماركس: “ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم”. وإذا كان الوجود الاجتماعي فاسدًا، فإن “الهركاوي” ليس إلا مرآة لهذا الفساد، وغيابه لن يتحقق إلا بإصلاح جذور الخلل