دين بريس ـ سعيد الزياني
يمثل توسع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في إفريقيا حدثا بارزا يعكس تداخل الأبعاد الدينية والسياسية في آن واحد.
فقد أعلن عن إنشاء بطريركية جديدة تضم أبرشيات في شمال القارة وجنوبها، وهو ما اعتبره ثيودوروس الإسكندري، زعيم الكنيسة الأرثوذكسية في أفريقيا، في تصريحات إعلامية، تحديا تاريخيا يمس شرعية البطريركية الإسكندرانية ويهدد وحدة الكنيسة الأرثوذكسية.
ويعكس هذا الموقف إدراكا عميقا لخطورة الخطوة الروسية على النظام الكنسي التقليدي الذي رسخ منذ قرون ولاية الإسكندرية على القارة الإفريقية.
ويتجلى البعد الكنسي في القضية في ما اعتبرته عدة بطريركيات أخرى، وعلى رأسها القسطنطينية، خرقا غير قانوني للأعراف الأرثوذكسية.
لقد كانت إفريقيا دائما تحت الرعاية الروحية لبطريركية الإسكندرية، وأي تدخل خارجي يُنظر إليه كمساس بالنظام القانوني الداخلي للكنيسة، لذلك فإن التحرك الروسي لا يُفهم فقط كتوسع كنسي، بل كخطوة قد تؤسس لانقسام طويل الأمد داخل الأرثوذكسية العالمية، على غرار ما حدث سابقا في الأزمة الأوكرانية.
أما البعد السياسي فلا يقل أهمية، إذ يرى مراقبون أن التحرك الروسي يدخل ضمن أدوات “القوة الناعمة” التي توظفها موسكو في إفريقيا إلى جانب حضورها العسكري والاقتصادي.
فالكنيسة هنا تقدم نفسها كجسر روحي واجتماعي عبر برامج إنسانية وصحية وخدمات اجتماعية، وهو ما يعزز صورة روسيا كقوة بديلة تسعى إلى بناء نفوذها في القارة، وبذلك تتحول المؤسسة الدينية إلى أداة موازية للدبلوماسية التقليدية، وتفتح مجالا جديدا للتنافس بين القوى الكبرى على النفوذ في إفريقيا.
إلى جانب ذلك، يثير التوسع الروسي تحديا مباشرا أمام بطريركية الإسكندرية، فهي مطالبة بالحفاظ على ولاء رعاياها في ظل محاولات موسكو استقطاب الكهنة والمؤمنين المحليين.
وتشير بعض التقديرات إلى أن مئات الكهنة الأفارقة قد انضموا بالفعل إلى البطريركية الجديدة، وهو ما يضع الكنيسة الإسكندرانية أمام خطر تآكل حضورها التاريخي في القارة.
والتحدي هنا ليس دينيا فقط بل أيضا اجتماعيا، لأنه يتعلق بعلاقة الكنيسة بالمجتمعات الإفريقية التي اعتادت على مرجعية واحدة لعقود طويلة.
كما لا يمكن إغفال البعد الأيديولوجي الذي يسكن الرؤية الروسية، فموسكو تقدم نفسها كمدافع عن التقاليد الأرثوذكسية في مواجهة ما تصفه بالهيمنة الغربية داخل المؤسسات الدينية.
وفي هذا السياق تصبح إفريقيا ساحة لإبراز هذه الهوية، خاصة في ظل هشاشة البنى الكنسية المحلية ورغبة بعض الجماعات في الحصول على دعم خارجي يحقق لها نوعا من الاستقلالية أو النفوذ.
وتضع هذه التطورات مستقبل الأرثوذكسية في إفريقيا أمام مفترق طرق، فإما أن تُحتوى الخلافات عبر حوار كنسي يعيد التأكيد على النظام التقليدي، وإما أن تنفتح الساحة الإفريقية على مرحلة جديدة من الانقسامات التي ستعمق تسييس الدين وتزيد من استخدامه كأداة نفوذ.
وبينما تسعى بطريركية الإسكندرية إلى حماية ولايتها التاريخية، تستمر موسكو في توسيع حضورها الروحي بما يتماشى مع استراتيجيتها الجيوسياسية الأوسع.
ويبقى مستقبل الكنيسة الأرثوذكسية مرهونا بقدرتها على صون تماسكها الداخلي في زمن تتقاطع فيه الاعتبارات الروحية مع رهانات النفوذ الدولي، حيث يتحول الدين إلى إحدى أدوات الصراع على الخرائط الجيوسياسية لإفريقيا.