30 يوليو 2025 / 19:12

المناظرة الفكرية بين محمد طلال وأحمد عصيد: بين اشتباك التأويلات وصراع المرجعيات

حمزة مولخنيف

‏المناظرة الفكرية بين الدكتور محمد طلال لحلو والباحث أحمد عصيد: بين اشتباك التأويلات وصراع المرجعيات

‏في لحظة فكرية نادرة في الفضاء الإعلامي المغربي، اجتمع الباحثان محمد طلال لحلو وأحمد عصيد في مناظرة حية عبر قناة “ميدي1 تي في”، حملت في ظاهرها نقاشًا حول قضايا الهوية والحداثة والعلمانية، لكنها في جوهرها مثلت صدامًا عميقًا بين نموذجين من التفكير: عقل تأويلي ينهل من التراث الفقهي والتقليد الإسلامي بروح نقدية، وآخر عقلاني-حداثي يسائل البنية التراثية من خارجها، بل أحيانًا من موقع القطيعة معها.

‏هذا اللقاء لم يكن مجرد سجال بين متخاصمين على مفاهيم مجرّدة، بل تضمن طموحًا إلى إعادة بناء المشهد الثقافي المغربي، سواء عبر تخليصه من أشكال “الوثوقية الدينية” أو عبر تفكيك أُسس “العلمانية المستوردة” التي لا تستوعب خصوصية السياق المغربي الإسلامي-الأمازيغي. وهنا تنبع أهمية هذه المناظرة، لا فقط بما تضمنته من حِجاج وتلاسن، بل بما أثارته من أسئلة وجودية ومفاهيمية تتجاوز اللحظة التلفزية.

‏محمد طلال لحلو ظهر متسلحًا بمنهج تساؤلي جدلي، قوامه التشكيك في أطروحات الخصم ودفعه إلى البرهنة على مقولاته. وقد كان من الواضح أن لحلو لا يناقش أطروحات عصيد من داخل منظومتها، بل يسائل أسسها الفلسفية ومنطلقاتها المعرفية. بدا ذلك جليًا حين طالب عصيد بتعريفات دقيقة لمفاهيم مثل “العلمانية” و”الحداثة” و”الحرية الفردية”، منتقدًا الطابع الفضفاض الذي تُستخدم به هذه المصطلحات في الخطاب العام. هذه التقنية في المجادلة، رغم ما تمنحه من قوة خطابية، تنطوي على مآزق فلسفية، إذ أنها تتبنى من جهة أفقًا إبستيمولوجيًا مفرطًا في التشكيك، مما قد يعيق أي إمكان للحوار المنتج.

‏من جهته، قدّم أحمد عصيد مرافعة عقلانية تنهل من تراث الأنوار، وتتموقع ضد النزعات المحافظة التي يرى أنها تكبّل المجتمع وتمنع تحقّق قيم الحداثة. لقد دافع بشراسة عن مشروعه الفكري، الذي يقوم على اعتبار الدين ظاهرة اجتماعية وتاريخية يجب تأويلها في ضوء التحولات المجتمعية الحديثة. وهذا الموقف، وإن كان منسجمًا مع فكر الأنوار، فإنه كثيرًا ما يصطدم بثنائية الأصالة والمعاصرة التي تطبع الفكر المغربي منذ الاستقلال. ما يُضعف موقف عصيد أحيانًا ليس افتقاده إلى الحجاج، بل تغييبه لسؤال المعنى كما طُرح في الفلسفة التأويلية الحديثة، أي السؤال عن الكيفية التي يمكن أن تُفهم بها النصوص والمعتقدات من داخل التجربة الوجودية للناس، لا فقط عبر معايير العقلانية المجردة.

‏المناظرة، بهذا المعنى، لم تكن مواجهة بين شخصين، بل بين تصوّرين للعقل: أحدهما يُقيم داخل النص ويؤمن بإمكان تجديده من داخله، والآخر يتحرك من خارجه ويؤمن أن القطع مع بنيته هو السبيل إلى تحرر الإنسان. لحلو يمثّل في هذا السياق رؤية تتقاطع مع المدرسة المقاصدية، كما بلورها الطاهر بن عاشور أو فريد الأنصاري، من حيث السعي إلى تجديد الدين من داخله عبر مقاصده الكلية. أما عصيد، فيُعيد تموقع نفسه داخل خطاب علماني استئصالي أحيانًا، لا يخلو من توتر في فهم البنيات الاجتماعية التي يتوجّه لها خطابه.

‏نقطة الافتراق الجوهرية بين الرجلين تكمن في تصورهما للهوية: لحلو يرى أن هوية المجتمع المغربي لا يمكن أن تُختزل في البُعد الأمازيغي أو الحداثي، بل هي مركّب حضاري فيه الإسلامي والعربي والأمازيغي والأندلسي، وينبغي التعامل معها بوصفها كلاً متكاملاً لا مشروع تفكيك. بينما يرى عصيد أن إعادة بناء الهوية يمرّ عبر القطع مع الهيمنة الدينية وتفكيك رواسب “الاستبداد الفكري” الذي كرّسه الفقهاء عبر العصور، وهو هنا يتماهى مع ما سمّاه عبد الله العروي بـ”الحل العلماني الجذري”.

‏غير أن المناظرة رغم سخونتها، كشفت أيضًا عن هشاشة الحقل الثقافي المغربي، الذي لا يزال يفتقد إلى تقاليد عريقة في المناظرة العلمية المبنية على الإنصات والتعمّق. إذ سرعان ما انزلقت بعض المداخلات نحو الشخصنة، أو أسلوب “التغليط” بدل التفنيد، وهو ما يجعل الحاجة ملحّة اليوم إلى ترسيخ أدبيات النقاش العمومي الفلسفي، بوصفه ممارسة للحرية أكثر من كونه صراعًا من أجل الإقناع.

‏في النهاية، لا يمكن الحكم على المناظرة بمنطق “الغالب والمغلوب”، لأن كل طرف عبّر عن رؤية للعالم تتأسس على مرجعية معرفية مخصوصة. والرهان ليس في الحسم بينهما، بل في القدرة على بناء فضاء فكري يتسع لاختلاف الرؤى، ويُربّي على النقد بدل الإقصاء، وعلى الاجتهاد بدل الاتباع. إنها دعوة إلى فكر متأنّ، يُعيد مساءلة كبرى الثنائيات: الدين والعقل، الأصالة والحداثة، الهوية والتعدد، لا من أجل الحسم، بل من أجل توسيع أفق الفهم.

‏إذا كانت هذه المناظرة قد خلّفت صدىً واسعًا، فلأنها لامست الجرح المفتوح في الذات المغربية المعاصرة: سؤال من نكون؟ وكيف نكون؟ وكيف نصنع حريتنا دون أن ننفصل عن عمقنا؟ إنها أسئلة لا تجيب عنها مناظرة، لكنها تُنضج بالاشتباك الفكري الجاد. وفي زمن الفوضى الفكرية، يبقى النقاش العقلاني، رغم عثراته، أكثر ما نحتاجه.

‏ومن المساحات التي أغفلتها المناظرة رغم مركزيتها، مسألة العلاقة بين السلطة والمعرفة، وما إذا كانت العلمانية أو المرجعية الدينية مجرد “مفاهيم محايدة”، أم أنها محمولة على تاريخ من السلطة الرمزية. فحين يهاجم عصيد المرجعيات الدينية بوصفها أدوات للتحكم الاجتماعي، يتغافل، ولو جزئيًا، عن كون العلمانية نفسها قد تشكلت في سياقات عنف رمزي وقانوني ضد الدين، خاصة في التجارب الأوروبية التي صادرت الدين من المجال العام باسم “تحرير الإنسان”. بمعنى آخر، لم تكن العلمانية “تحررًا صرفًا”، بل كانت بدورها أداة إعادة تنظيم المجال السياسي لصالح الدولة الحديثة، أي أنها بدّلت نمط الهيمنة دون أن تلغيه.

‏هذه الإشكالية تطرح سؤالًا فلسفيًا عميقًا: هل نستطيع تبني مفاهيم الحداثة كما هي دون تفكيك سياقاتها؟ وهل يمكن إسقاط العلمانية كنموذج كوني على مجتمعات لم تمرّ بالتجربة نفسها التي أنتجتها؟ هنا يظهر التباين بين أطروحة عصيد، التي تتعامل مع المفاهيم الحديثة بوصفها مكتسبات كونية، وبين حذر لحلو، الذي يُلمّح إلى أن المفاهيم لا تُنتج في فراغ، وأن القطيعة مع التراث دون فهمه تُفضي إلى “تغريب فكري”.

‏في ضوء الفلسفة التأويلية، من هيدغر إلى غادامير، يمكن القول إن كل فهم هو تأويل، وكل تأويل مشروط بانتماء تاريخي وثقافي. وعليه، فإن موقف لحلو – الذي يُرافع من داخل التراث ويعيد ترتيب دلالاته – ينسجم مع رؤية تأويلية تعتبر أن النصوص لا تُفهم إلا في أفق التقاليد التي أنتجتها. أما موقف عصيد، فيكاد يقترب من النمط الوضعي في التعامل مع النصوص؛ أي بوصفها معطى خارجيًا يُقاس على معيار علمي ثابت، وهي رؤية تتجاهل في كثير من الأحيان الطابع الحيّ للنصوص الدينية.

‏ثمّة بعد أنثروبولوجي أيضًا لم يُسلَّط عليه الضوء بما يكفي: هل التحوّل نحو العلمانية أو العقلانية الصلبة يُواكب التحوّل في البنى الاجتماعية؟ أم أن الطروحات العقلانية تظل نخبويّة تصطدم بجدران الثقافة الشعبية والدين المعاش؟ لقد أظهر لحلو وعيًا بهذه الإشكالية عندما لم يكتفِ بتفنيد أطروحات عصيد، بل انتقد أيضًا ما أسماه “الانفصال بين المثقف والمجتمع”، وهي فكرة تجد امتدادًا لها في نقد طه عبد الرحمن للعلمانية من زاوية افتقارها للروح، وفي نقد الجابري للعقل المستقيل، وحتى في أطروحة عبد الله العروي حول الطابع الإيديولوجي للحداثة في السياق المغربي.

‏إن من بين النقاط الحرجة التي كشفت عنها المناظرة، هي حدود الخطاب النخبوي حين ينعزل عن البنيات الاجتماعية العميقة، إذ لم يكن الخلاف بين الطرفين فقط حول ماذا نريد أن نكون، بل حول من يمتلك سلطة التأويل: هل هي النخبة المثقفة (التي يمثلها عصيد)، أم النخبة المتدينة المجددة (التي يمثلها لحلو)، أم المجتمع نفسه؟ هذه الأسئلة لا يمكن أن تُفصل عن الصراع الرمزي حول من يحتكر شرعية الحديث باسم “العقل”، أو “الدين”، أو “الشعب”.

‏الرهان الأكبر، إذًا، ليس انتصار أحد الخطابين على الآخر، بل قدرة المجتمع المغربي على توليد خطاب ثالث، لا يُلغي الدين ولا يُستلب للغرب، بل يصوغ مشروع حداثة أصيلة، تنطلق من تراثها لتُنتج عقلانيتها الخاصة. خطاب لا يقع في الفصام بين ما نعتقد وما نمارس، بين ما نقرأ وما نحيا. وهذا لن يتأتى بمناظرات المناسبات، بل بتراكم نقدي طويل النفس، وبحوار حقيقي بين الفلسفة والتصوف، بين الفقه والأنثروبولوجيا، بين الدين بوصفه تجربة، والعقل بوصفه إمكانًا.

‏لعلّ هذه المناظرة، رغم توتراتها، تفتح نافذة نحو هذا الأفق: أفق الاعتراف باختلاف المرجعيات دون نفي، وبتعدد طرائق الفهم دون خصومة. وهي دعوة أيضًا إلى المراجعة الصريحة: هل نملك في المغرب مشروعًا فكريًا متماسكًا يواجه أسئلة العصر؟ أم ما نزال نرتجل بين مثقف يساري عالق في خطاب التنوير الأوروبي، ومثقف ديني غارق في أزمنة الفقهاء؟

‏الجواب، إن وُجد، لا يمنح نفسه بسهولة، لكنه يبدأ من هذه الاشتباكات بالضبط. حيث لا يكون الانتصار في كسب الجدل، بل في رفع مستوى السؤال.

‏أما عن قضية عمل المرأة ليست مجرد إشكال فرعي في النقاشات الاجتماعية والدينية، بل تمثل اختبارًا عميقًا لمدى قدرة المجتمعات الإسلامية على التفاعل مع تحولات العصر من جهة، وعلى تأويل النصوص الدينية ضمن أفق مقاصدي وإنساني من جهة ثانية. وهي أيضًا مرآة تعكس توتر العلاقة بين المرجعيات المتعددة: الدينية، الثقافية، الاقتصادية، والحقوقية.

‏في المناظرة المذكورة، أبدى الدكتور محمد طلال لحلو موقفًا متحفظًا من “عمل المرأة” خارج البيت، لا بوصفه ممنوعًا مبدئيًا، بل لأنه – حسب تصوره – يتعارض أحيانًا مع “وظائفها الأصلية” التي حددها الشرع، أو يؤدي إلى انزلاقات سلوكية أو مجتمعية تهدد “تماسك الأسرة”. هذا الطرح لا يمكن إنكاره في تمثيله لتوجه فقهي سائد، لكنه يحتاج إلى مراجعة نقدية، ليس فقط من زاوية المقاربات الغربية أو الحداثية، بل أيضًا من داخل المنظومة الإسلامية ذاتها.

‏ما يعاب على هذا النوع من المواقف أنه يؤطر المرأة ضمن تصوّر نمطي مغلق، يرى أن دورها الأصيل بيولوجي أو تربوي فقط، وأن مشاركتها في المجال العام مسموح بها بشروط، لا بوصفها حقًا إنسانيًا أو واجبًا مجتمعيًا. وهذا يفضي إلى تقليص ذاتها إلى أداة لخدمة الأسرة أو المجتمع الذكوري، لا كفاعل مستقل له طموحه ومسؤوليته.

‏أما من زاوية المقاصد الشرعية، فإن عمل المرأة – إذا كان ضمن ضوابط الكرامة والعدل – يمثل تعبيرًا عن حق أصيل في الاستخلاف. فالقرآن الكريم لم يحدد وظيفة المرأة في حدود البيت، بل قدم نماذج نسائية فاعلة: بلقيس التي قادت مملكة بحكمة، امرأة عمران التي نذرت ابنها للعلم والعبادة، زوجات الأنبياء اللائي شاركن في التوجيه والدعوة. كما أن التاريخ الإسلامي المبكر – خلافًا لخطاب بعض الفقهاء المتأخرين – شهد نساءً عالمات، تاجرات، مقاتلات، وشاعرات.

‏ما يُفترض أن يُثار اليوم ليس سؤال “هل يجوز عمل المرأة؟” بل “ما الشروط المجتمعية والمؤسسية التي تجعل عمل المرأة عادلًا، كريمًا، وغير مُستغلّ؟” لأن الكثير من النساء – في مجتمعاتنا – يُجبرن على العمل تحت ضغط الحاجة الاقتصادية، دون حماية قانونية أو اجتماعية. فالمعركة ليست فقط حول “الحق في العمل”، بل حول “الحق في العمل الآمن والعادل والمثمر”.

‏ثم إن التعامل مع خروج المرأة إلى سوق العمل على أنه تهديد للهوية أو تفكك الأسرة، فيه نوع من الاختزال المخل؛ فالمجتمعات الحديثة تعيش تحولات في بنية العلاقات والأدوار، ومن الخطأ مقاومة ذلك بالعودة إلى تصورات مثالية عن “الأسرة النموذجية” التي لم توجد في الحقيقة بهذا النقاء.

‏كما أن ربط خروج المرأة بالتحلل الأخلاقي أو الانفلات السلوكي ليس مقاربة علمية ولا شرعية، بل هو حكم قيمي قائم على المبالغة والتعميم. الانحراف – إن وُجد – لا يخص النساء فقط، ولا يُختزل في مشاركتهن في المجال العام، بل هو نتاج اختلالات في التربية، العدالة، التعليم، والثقافة العامة.

‏إن الدفاع عن كرامة المرأة لا يكون بحبسها في فضاء مغلق، بل بفتح آفاقها للمساهمة الخلاقة، وتمكينها من الشروط التي تجعلها شريكة حقيقية في بناء المجتمع. الإسلام لا يعارض ذلك في جوهره، بل يدعمه حين يُفهم بروح المقاصد، لا بمنطق الحرفية أو النزعة الذكورية المقنعة بالفقه.

‏من هذا المنطلق، فإن موقف الدكتور لحلو، رغم استناده إلى منطق “الحماية الأخلاقية” للمرأة والمجتمع، لا يكفي لتبرير التحفّظ على عمل النساء. بل الأجدر أن نتجاوز هذا النقاش التقليدي نحو مساءلة الأطر القانونية، الاقتصادية، والثقافية التي تُنتج التهميش والتبخيس، سواء داخل البيت أو خارجه.

‏المجتمع السليم لا يقوم على معادلة ذكورية-أنثوية، بل على تكامل الأدوار واختيارات حرة ومسؤولة. والمرأة، في هذا السياق، ليست موضوعًا للحماية فقط، بل ذاتًا مفكرة ومنتجة، لها الحق في أن تختار مسارها، سواء في بيتها أو في سوق العمل، دون وصاية، ولا استغلال، ولا تسليع.

‏ما الذي يُعاب عنهما؟

‏بالمناظرة التي جمعت بين الدكتور محمد طلال لحلو والباحث أحمد عصيد، بدا النقاش ظاهريًا سجالًا حول الحداثة والدين والعلمانية، لكنه في العمق كشف عن حدود منهجية وثقافية لكل طرف، بل وربما عن مأزق أوسع يتعلق بمستوى النقاش العمومي في العالم العربي. ما يعنينا هنا ليس تقييم الأداء الظرفي، بل الغوص في بنية الحوار ذاته، ونقد مناهجه، والكشف عن الثغرات الموضوعية والمفاهيمية التي غابت عن النقاش، رغم أنها جوهرية في أي تناول فلسفي جاد لقضايا الهوية والمعنى والسلطة.

‏بالنسبة للدكتور محمد طلال لحلو، فقد أبان عن براعة في الجدال ومهارة في التفكيك، إلا أن خطابه ظل مشدودًا إلى منطق النفي دون بناء بديل إيجابي متماسك. انصبّ تركيزه على تفنيد طروحات عصيد، دون أن يقدّم تصورًا متكاملًا للهوية الدينية التي يدافع عنها، ولا تأويلًا عميقًا للتراث يستوعب التحولات. ما قد يُعاب عليه أيضًا هو أنه لم يوظّف أدوات الفلسفة المعاصرة بشكل فعّال: لا إبيستيمولوجيا، ولا تأويل، ولا علم اجتماع للدين، مما جعل حديثه حول الهوية أقرب إلى الخطاب الأخلاقي التقريري منه إلى التحليل الفلسفي المتأني. كما أن تفاعله مع التحولات الاجتماعية بقي محدودًا؛ إذ لم يُعالج كيف تنعكس القيم الدينية أو التصورات الفقهية في تفاصيل الحياة اليومية للمغاربة المعاصرين.

‏أحمد عصيد من جهته قدم خطابًا عقلانيًا متماسكًا من حيث البناء المنطقي، لكن من زاوية تتسم أحيانًا بالنزعة الاستعلائية. بدا كما لو كان ينطلق من تصور فوقي للحداثة والعقل، الأمر الذي قد يؤدي إلى قطيعة مع الجمهور الواسع المحافظ، بدل خلق جسور من الفهم المشترك. كما أن مقاربته للدين بقيت محصورة في كونه مؤسسة قمعية أو عائقًا ثقافيًا، دون أن يلتفت إلى ما تحتويه التجربة الدينية من إمكانات روحية وتحررية. لم يُدرج في خطابه أي وعي بتعقيد الظاهرة الدينية كما تناولها الفكر الأنثروبولوجي أو التأويلي، وكأن الدين لا يمكن أن يكون سوى قيد، لا تجربة وجودية. كما أن غياب أي نقد ذاتي لمفهوم العلمانية التي يدافع عنها جعله يمرّر هذا المفهوم كأنه محايد وكلي، بينما هو في الواقع نتاج لسياقات سلطوية أوروبية معقدة.

‏ومن حيث المضامين، غابت عن المناظرة أسئلة مركزية كان من الضروري التطرق إليها حتى يكون النقاش ذا أفق فلسفي شامل.

‏واحدة من هذه الثغرات تتعلق بعلاقة الدين بالدولة في السياق المغربي، خاصة في ظل نظام إمارة المؤمنين الذي يشكّل خصوصية سياسية ودينية. لم يناقش أي من الطرفين كيف يؤثر هذا النموذج في تدبير الحريات الفردية، أو في تحديد من يملك سلطة التأويل، وما الحدود بين الديني والمدني في الواقع المغربي.

‏كما ظل الحديث عن الحرية الفردية عامًا، دون التطرق إلى قضايا مفصلية مثل الحريات الجنسية، المساواة في الإرث، الإجهاض، العلاقات خارج الزواج… وكلها قضايا تتصدر النقاش العام وتلامس التوتر بين الدين والقانون وحقوق الإنسان.

‏كذلك غاب البعد الروحي للدين عن المناظرة بشكل لافت. لم يتناول أي من المتناظرين الأبعاد الجمالية والوجدانية في الإسلام، من تصوف وزهد وتجربة دينية باطنية، وهي أبعاد شكّلت العمق الروحي للشخصية المغربية عبر قرون، ولا يمكن اختزالها في الفقه أو في الخطاب المحافظ.

‏ومن الثغرات الكبرى التي لم تُطرح، مسألة اللغة والهوية المركبة في المغرب. الهوية ليست معطى أحاديًا يمكن احتكاره من طرف الخطاب الديني أو العلماني، بل هي تركيب معقد من روافد متعددة: أمازيغية، عربية، أندلسية، إسلامية، إفريقية. وهذا الغنى لم يُستثمر في النقاش، بل بقي كل طرف منغلقًا على بُعد واحد من الهوية.

‏ثم هناك غياب صارخ للربط بين الدين والعلم الحديث. لم يُطرح كيف يمكن للدين أن يتفاعل مع النظريات العلمية، أو كيف يمكن للعقلانية أن تستوعب حدود المعرفة. لم يناقش أي من الطرفين ما إذا كانت العقلانية العلمية كافية لتأسيس المعنى، أو ما إذا كانت هناك أسئلة وجودية لا يجيب عنها العلم، وتبقى الدينيات أحد أفقها الرمزي.

‏المناظرة، رغم سخونتها، كشفت محدودية كل نموذج على حدة: طلال لحلو تموضع داخل الدفاع الفقهي الهوياتي، دون الانفتاح على الإمكانات النقدية داخل الفلسفة الإسلامية والحديثة؛ وأحمد عصيد ظل متمسكًا بحداثة كونية دون مساءلتها، مما جعله يبدو كمن يريد فرض نموذج على مجتمع غير مؤهل بنيويًا لتلقيه بهذه الصورة الفوقية.

‏لقد كان بالإمكان للمناظرة أن تُفتح على أفق أكثر عمقًا لو أنها انتقلت من منطق الصدام إلى منطق “التفكير المشترك”، أي أن يسعى كل طرف لا إلى هزم الآخر، بل إلى مساءلة حدوده المعرفية. في غياب هذا الأفق، يظل الحوار محصورًا في دائرة تكرار الاستقطاب: بين عقل يُريد القطع مع الدين، ودين يُقاوم النقد باسم الأصالة.

‏وإذا كان لهذه المناظرة أن تترك أثرًا إيجابيًا، فربما يتمثل في تعرية هشاشة الخطابات المغلقة، والدعوة إلى بلورة خطاب ثالث، هجين ومتعدّد، يدمج بين مقاصد الشريعة وفلسفة الحرية، بين الوعي التاريخي والحدس الروحي، بين العقلانية النقدية والمعنى الوجودي. وهو أفق لا يُبنى بالصدام، بل بجرأة السؤال وتواضع الإجابة.

‏يستفاد من هذا كله:
‏في ختام هذا التحليل المتعدد الأبعاد للمناظرة التي جمعت بين الدكتور محمد طلال لحلو والباحث أحمد عصيد، يتبين أن النقاش لم يكن مجرد تلاسن لفظي بين شخصين يمثلان رؤيتين مختلفتين، بل كان مرآة عاكسة لصراع أعمق يدور في قلب المجتمع المغربي والعربي عمومًا، حول سؤال الهوية، وموقع الدين في الفضاء العام، وحدود العقل، ومشروعية الحداثة. لقد كشفت المناظرة عن وجود فجوة إبستيمولوجية بين خطابين يتحدثان بلغتين معرفيتين مختلفتين: أحدهما ينتمي إلى المجال التداولي الإسلامي، يرى في الدين جوهر الذات ومعيار النهضة، والآخر ينتمي إلى العقلانية الحديثة، ويرى أن التحرر يبدأ من تحييد الدين و”عقلنة” المجتمع.

‏ورغم أن المناظرة أفرزت لحظات من الحِجاج القوي والنقاش الحاد، إلا أنها لم ترقَ إلى المستوى الذي يُنتظر من حوار فلسفي عميق؛ إذ ظل كل طرف مشدودًا إلى منطلقاته الأيديولوجية، دون أن يُبدي مرونة معرفية أو رغبة في الإنصات الحقيقي للآخر. لحلو أجاد في كشف التناقضات الكامنة في الخطاب العلماني، لكنه لم يُنتج خطابًا بنيويًا بديلاً، وغلب على مداخلاته الطابع الدفاعي المتمركز حول الذات الدينية. أما عصيد، فقدم أطروحة عقلانية واضحة، لكنه سقط في فخ التبسيط الاختزالي للدين، وتعامل مع مفاهيم كالعلمانية والحرية وكأنها جاهزة وكونية، متغافلًا عن تعقيد التاريخ والسياقات.

‏وعلى مستوى المضامين، فإن المناظرة، رغم أهميتها الرمزية، أغفلت قضايا جوهرية من شأنها أن تعمّق النقاش وتجعله أكثر التصاقًا بواقع الإنسان المغربي: لم تُطرح علاقة الدين بالعلم، ولا مفهوم الروحانية كرافعة للتحرر الذاتي، ولا أبعاد الهوية المتعددة، ولا إشكالات الدولة الحديثة في علاقتها بالدين، ولا كيفيات بناء الحداثة في سياق غير غربي. وهي كلها أسئلة تستوجب مقاربات تتجاوز الثنائية الجامدة بين التراث والحداثة، أو بين الإيمان والعقل.

‏خلاصة القول، إن مناظرة لحلو وعصيد تندرج ضمن سلسلة من المواجهات الفكرية التي تشهدها الساحة المغربية والعربية، وتكشف عن الحاجة الماسة إلى تجديد عميق في أدبيات الحوار وطرائق التفكير. لسنا بحاجة إلى “مناظرات استعراضية” بقدر ما نحتاج إلى حوار معرفي بنّاء يتأسس على التواضع الفكري، وتجاوز منطق الهيمنة أو نفي الآخر. إن الرهان الحقيقي لا يتمثل في “الانتصار” في المناظرة، بل في القدرة على إنتاج فكر نقدي مستقل، يستقي من تراثه دون أن ينحبس فيه، ويستنير بالحداثة دون أن يستلب لها.

‏إن تأسيس حداثة مغربية، أو عقلانية مغاربية، لا يمر عبر استيراد النماذج، ولا عبر التحصّن في أسوار الماضي، بل عبر إنتاج خطاب ثالث، تندمج فيه الأصالة بالتأويل، والعقل بالوجدان، والعلم بالمعنى. مناظرة لحلو وعصيد هي مجرد خطوة أولى، محفوفة بالتوترات، لكنها ضرورية إذا أردنا أن نفتح أفقًا جديدًا للفكر، يتجاوز الاستقطاب، ويؤسس لحوار فلسفي حقيقي يعيد للثقافة المغربية روحها النقدية، وكرامتها الإنسانية.