بقلم: زكرياء بلحرش، باحث في الدراسات الدولية
بعد أن اندحرت فرنسا على مستوى القارة الإفريقية خلال هذه المرحلة بسبب تزايد العداء الشعبي لها ضمن أوساط الشعوب الإفريقية نتيجة الأخطاء المدمرة للساسة الفرنسيين المتمثل في الاستنزاف الإقتصادي بتواطئ مع الأنظمة الفاسدة في الدول الإفريقية وحماية هؤلاء من مواجهة دعاوى الإصلاح، أو من خلال منهج فرنسي آخر يعتمد على تدمير بلدان آمنة بدعوى تغيير الأنظمة لم تعد تريد الخضوع للابتزاز الفرنسي كما حدث في ليبيا.
في هذا السياق، تواصل نفس الأوساط السياسية الحالية في فرنسا سياسة الابتزاز الأمر الذي يكرس في مقابل ذلك الضعف الفرنسي والدور الدولي الذي أصبحت عليه فرنسا خلال العقد الأخير سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري وبالتالي لم يعد يصمد أمام المنافسة الدولية، حيث أن التوجه الحالي للأوساط الفرنسية تؤكد بلا شك أن فرنسا تنزلق من مراتب الدول الكبرى إلى مصاف الدول المتوسطة.
ولو تم سحب الفيتو الأممي منها لأصبحت أقل وأهون من ذلك، بل الأدهى من ذلك وجود تيار فرنسي يقوم بكل ما في وسعه من جهود من أجل إغراق فرنسا في خصومات مع دول حلفاء لها بسبب سياسة التدخل في شؤون تلك الدول كسبيل وحيد لضمان نفوذ فرنسا في تلك الدول وإبعاد المحاور الجديدة عنها لأن ذلك هو السبيل الوحيد لفرنسا للحفاظ على مصالحها في تلك الدول ما دامت لم تعد قادرة على المنافسة الدولية.
وارتباطا بهذا تحاول فرنسا اليوم القيام بنفس منهجية الابتزاز والتضييق على المملكة المغربية، حيث كلما واصل المغرب اختراقاته على المستوى الدولي بفضل التغيير الكبير على مستوى سياسته الخارجية، بفضل القيادة الرشيدة والحكيمة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، كلما أظهرت فرنسا عداء متزايدا تجاه المغرب ومصالحه من خلال الضغط السياسي المباشر أو من خلال استعمال المنابر الإعلامية المأجورة هدفها النيل من المغرب ومرتكزاته بحجة الدفاع عن الحقوق والحريات.
هذا المعطى ظهر جليا خلال الآونة الأخيرة ليس على المستوى الإعلامي فقط بل أيضا في الشأن الديني، حيث تحاول فرنسا استعمال ورقة الضغط على المغرب وكبح دوره على مستوى المشهد الديني بفرنسا.
وبالعودة إلى سياق الأحداث نجد أن الحكومة الفرنسية عملت على وضع ترسانة قانونية وتشكيل بنية مؤسساتية، بغية محاربة التطرف العنيف داخل البلاد، من خلال مشروع قانون “تعزيز قيم الجمهورية”، واعتبرته الحكومة الفرنسية مسعى رسميا لمحاربة ما اصطلح عليه “الإنعزالية الإسلاموية”، ما يؤكد معه أن فرنسا حريصة على اجتثاث التطرف الديني العنيف من منابعه، عبر رؤية استراتيجية تستهدف إعادة إدماج المسلمين الفرنسيين ضمن قيم الجمهورية وفق ما يمكن أن نصطلح عليه “بالإسلام الفرنسي”.
وقد أغفلت فرنسا كإطار مرجعي لهذا الإصلاح تجربة المملكة المغربية في تدبير الشأن الديني المعتدل السمح الذي يمنح فرنسا استقرارا وانسجاما اجتماعيا، حيث إنه عوض الاستفادة من هذه التجربة التي لها أبعاد روحية تسعى لتحقيق التعايش والاندماج الديني، عملت فرنسا على التضييق في تدبير المشهد الديني على المملكة المغربية من أجل ترسيخ مبادىء الإسلام السمحة في سياق تشاركي مع مسلمي فرنسا ومع المؤسسات الفرنسية.
ونتيجة لهذا تكون فرنسا قد دقت مسامير نعش السلم الاجتماعي من خلال هذه المناورات التعيسة والتي ستقود هذا السلم إلى مثواه الاخير.
من ناحية أخرى، إن كان لهذا التوجه ظاهريا بعد إصلاحي، غايته الإصلاح الجذري والشامل للمؤسسات الدينية بفرنسا، فإن باطنه يحمل في طياته أساليب امتلاك فرنسا ورقة ضغط جديدة في الجانب الديني للحفاظ على مصالحها دوليا بغطاء إشعاع البعد الروحي والحث على قيم التسامح والتعايش مع الآخر، وظهر هذا الأمر من خلال الابتزاز الذي قامت به المؤسسات الفرنسية لبعض الفاعلين وصناع القرار المغاربة في مجال الشأن الديني في فرنسا.
وإذا افترضنا بأن مهمة الإصلاح الديني وتعزيز الانفتاح الثقافي عبر ترسيخ قيم الجمهورية، هي بادرة إيجابية تتجه ضمن مسار سليم، فهل يمكن لهذا المسار وحده أن يحقق أثرا عميقا على مستوى الواقع، بمعنى هل يمكن أن يقضي تماما على الانعزالية الإسلاموية وبذلك على ظاهرة التطرف في فرنسا؟
هذا المسار لوحده بكل تأكيد غير كاف، لأن هذه الانعزالية ليست دينية وثقافية فقط وإنما اقتصادية وسياسية كذلك، بحيث انه لتحقيق اندماج ديني وثقافي، لا بد من استدماج اقتصادي للمهاجرين، وهو ذو أثر أقوى من الانعزالية الدينية بحد ذاتها.
فرنسا ينبغي عليها أولا محاربة التمييز والعنصرية، وإنعدام الثقة في إتاحة الفرص لتحقيق الذات، كونها ممارسات تسهم في الانعزالية، وهي وقائع ناتجة عن إذكاء خطاب الإسلاموفوبيا، بحيث ان المدخل الديني التراثي لا يمكن لوحده أن يكون مدخلا لمحاربة التطرف العنيف، دون المرور بمداخل اقتصادية وأخرى تحد من خطابات التمييز والكراهية، من أجل تحقيق استدماج حقيقي وملموس على أرض الواقع، ضمن بيئة موفرة لفرص تحقيق الذات وإثباتها دون الحاجة للمرور من مداخل هوياتية قد تصرف ضمن قنوات متطرفة.
في الواقع، إن سعي فرنسا لاستدماج المسلمين من خلال تعزيز قيم الجمهورية، بأن تكون مداخل لاستدماج متعددة، لا يسهم بشكل جذري في تقوية الاستدماج بل يزيد من إذكاء نيران الخلاف وتعزيز أطروحات المتطرفين، الذين يقتاتون أكثر على هذا النوع من الخطابات من أجل تجييش المشاعر وسهولة الاستقطاب، فالاستدماج الديني ينبغي أن يوازيه استدماج اقتصادي وسياسي.
وفق هذه المعايير الذي تبناها مشروع هذا القانون نرى بأن التوجه الجديد المرتبط بالإصلاح الديني بفرنسا، ليس غايته تحقيق إصلاح ديني مؤسساتي فحسب، بل استعماله كورقة ضغط للحفاظ على مصالح فرنسا الخارجية، من خلال أسلوب التضييق أو الابتزاز وفق طرق مختلفة، وهي الحالة التي ظهرت تجاه المملكة المغربية وكيف تحاول فرنسا التضييق وتقليص دور المغرب في تدبير ملفات الشأن الديني بفرنسا.
وارتباطا بهذا نتساءل عن دواعي الحملة الفرنسية في التضييق على المغرب ودوره في المشهد الديني في فرنسا؟ ونتساءل عن سر الحملات الإعلامية الأخيرة ضد المملكة المغربية ؟
نقول للتيار الفرنسي المعادي للمملكة المغربية أن يعي بأن المغرب لا تخيفه أبواق مرتزقة ولن تخضعه للابتزاز، فالمغرب سيواصل طريقه بالتعاون مع شركائه الحقيقيين بما فيهم فرنسا في إطار سياسة التوازن وتقاسم الربح والخسارة.
كما أن سياسة المملكة المغربية الشريفة هادفة إلى التركيز على ما هو أهم وعدم التعاطي والتركيز مع الحملات الإعلامية التي لا فائدة منها، ولطالما أظهرت الأحداث والنتائج واقعيا صدق سياسة المغرب وتألقه الدولي واندحار الأبواق الإعلامية في مهب الرياح.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18439