د. صلاح الدين المراكشي
تُعتبر مشاركة الأئمة والدعاة على وسائل الإعلام المكتوبة أو المرئية واجبًا دينيًا ووطنِيًا لمن وفقه الله لذلك، وليست مجرد ترف فكري أو خروج عن الوقار.
فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم : “بلغوا عني ولو آية” (رواه البخاري ومسلم)، وهو توجيه يؤكد على أهمية نشر العلم ولو بالقليل، واستثمار كل الوسائل المتاحة في زمننا الحالي لذلك.
ومن هذا المنطلق، يُعد حضور الأئمة والدعاة في الإعلام المرئي والمكتوب مشاركة محمودة، وجهدًا بالكلمة، وامتدادًا طبيعيًا لرسالتهم في البلاغ والبيان. فالكلمة الصادقة لعالم رباني قد تصلح ما تعجز عنه عشرات الحملات والمبادرات والإعلانات.
إن هذا الحضور الإعلامي المرئي أو المكتوب لا يناقض دور مؤسسات الفتوى الرسمية، بل هو مكمل لها، يستمد منها العلم والفتاوى، ويهيئ النفوس والعقول لتقبلها وفهم مقاصدها بشكل أعمق.
فمثلًا، في أوروبا، عندما يصدر المجلس العلمي الأوروبي فتوى حول مسألة معينة — كما في جائحة كورونا — يقوم الأئمة عبر المساجد أو من خلال المقالات، ومقاطع الفيديو القصيرة بشرح تلك الفتوى بلغة مبسطة.
والنتيجة : فهم عميق للفتوى وتطبيق عملي لها في الحياة اليومية، بما يجعل الدين قريبًا من واقع الناس، مع الحفاظ على مكانة المؤسسة الرسمية كمرجع موثوق دون أي شعور بالمنافسة.
ولئن كانت بلادنا – ولله الحمد – تحظى باحترام مؤسسة الفتوى الأوحد، وتتمثل في المجلس العلمي الأعلى تحت رئاسة مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، فإن بعض البلدان الغربية التي تضم جاليات مسلمة كبيرة تعرف تعددًا في آراء الفتوى نتيجة تعدد المؤسسات، مما يوقع العامة في حيرة بين الأخذ بهذه الفتوى لمؤسسة ! أو لتلك !
وهنا، يبرز دور الأئمة المرشدين الذين يمتلكون – بفضل الله – فهمًا عميقًا للفقه والواقع المعاصر، في جمع الكلمة وتوحيد الصف.
فهؤلاء الأئمة والمرشدون بهذه الربوع قادرون على تقديم التوجيه الصحيح، مستنيرين بالعلم الشرعي وفهمهم لخصوصيات الواقع، ويدركون أحيانًا أمورًا دقيقة وواقعية تخص ذلك البلد بعينه دون غيرهم.
ومن هذا المنطلق ايضا، فإن القول باحترام التخصص المؤسسي ينبغي أن يُفهَم انه لا يعني إسكات العلماء ودور الأئمة المرشدين في البيان ! لأن المجال الوعظي رحب، ويتسع للمواعظ، والرؤى الفقهية، والمناقشات العلمية، طالما كانت ملتزمة بالأدب العلمي والاحترام المؤسسي.
وما زلت أذكر في هذا المقام مقولة لطيفة للفقيه المفتي بقناة السادسة المغربية، العلامة العوني الزاوية رحمه الله، خلال صيف 2018م، حين كنا في مجلس جمع ثلة من العلماء، بينهم رؤساء المجالس العلمية المحلية والأئمة المرشدون، وبحضور نخبة من أشهر قرّاء المملكة، وذلك في موسم قرآني بجهة : ” دكالة عبدة ” ، وبعد أن أنهى كلمته القصيرة، قال -رحمه الله- بطرافته المعهودة وابتسامته الهادئة: “هذا الجمع كالسوق، كلا باغي يبيع شوية”، في إشارة إلى أن الكلمة ليست حكرًا على أحد، وأن لكل عالم الحق في التعبير عن علمه وفهمه. وقد صدقت كلمته، إذ تتابعت بعده مداخلات العلماء في تناغمٍ جميل يعكس روح التكامل والتعاون التي تميّز مجالس العلم الحقّة.
كما ليس من الإنصاف هنا أن يُفهم سكوت العالم عن الفتوى بأنه قصور، فقد يكون ورعًا، أو احترامًا لمقام الإفتاء، خصوصًا في المسائل العامة أو القضايا التي تمس مصالح الأمة.
ولقد برز -على مر العصور- علماء ربانيون جمعوا بين ميادين الفتوى، والوعظ، والإرشاد، فأفتوا حين اقتضى المقام، وأرشدوا حين دعت الحاجة، ووعظوا حين خشيت القلوب القسوة. فهؤلاء جسّدوا المعنى الحقيقي للعلم الشرعي المتكامل، وفهموا أن البيان للناس واجب، وأن الاجتهاد في النوازل فريضة إذا لم يقم بها من يكفي.
وهكذا تظل الأمة بخير، ما دام علماؤها يتكاملون لا يتنازعون، يتناصحون ولا يجادلون، ويجعلون من العلم رسالة لا سلطة.
والله الموفق.