2 سبتمبر 2025 / 12:08

المسيحية عبر العالم: تاريخ الانقسام ووحدة التنوع

يسار عارف
تُعتبر المسيحية أكبر ديانة في العالم من حيث عدد الأتباع، إذ يناهز عدد المؤمنين بها أكثر من مليارين موزعين على مختلف القارات. غير أن هذا الامتداد الواسع ارتبط عبر التاريخ بتنوع كبير في البُنى الكنسية والعقائدية والطقسية، ما أفرز ثلاث عائلات كبرى هي الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية، إلى جانب تفرعات أخرى محلية وثقافية.

هذا التنوع لا يُقرأ بوصفه انقساماً فحسب، بل يُنظر إليه أيضاً كنتاج لمسارات لاهوتية وسياسية وثقافية متشابكة صنعت ملامح المسيحية المعاصرة.

الكنيسة الكاثوليكية، التي تتخذ من الفاتيكان مقراً لها، تُعد أكبر الطوائف المسيحية، ويقودها البابا باعتباره خليفة القديس بطرس.

وتقوم عقيدتها على سلطة البابا والأسرار السبعة والطقوس الغنية التي تطورت عبر القرون، فيما تضم في طياتها كنائس شرقية كاثوليكية مثل المارونية والكلدانية التي حافظت على طقوسها الخاصة مع بقائها مرتبطة بروما.

وقد امتدت الكاثوليكية منذ العصور الوسطى في أوروبا الغربية، ثم في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والفلبين، ما جعلها اليوم تتجاوز المليار مؤمن.

أما الكنائس الأرثوذكسية فتقوم على مبدأ المجمعية الذي يتيح مشاركة البطاركة والأساقفة في القيادة، وترفض فكرة السلطة البابوية المركزية.

وتنقسم إلى الأرثوذكسية الشرقية، مثل الروسية واليونانية والصربية، التي تتميز بليتورجيتها البيزنطية وروحانيتها العميقة، وإلى الأرثوذكسية المشرقية أو القديمة، مثل القبطية في مصر والأرمنية والسريانية والإثيوبية، التي انفصلت عن الكنائس الأخرى منذ مجمع خلقدونية سنة 451م بسبب خلافات حول طبيعة المسيح.

ويتركز حضور الأرثوذكسية اليوم في شرق أوروبا وروسيا والشرق الأوسط، حيث ارتبطت بالثقافة البيزنطية والعربية في آن واحد.

أما البروتستانتية فقد نشأت في القرن السادس عشر مع حركة الإصلاح التي قادها مارتن لوثر في ألمانيا وجان كالفن في سويسرا، وكانت رداً على سلطة البابا وممارسات الكنيسة الكاثوليكية.

وقد تبنت مبدأ الاعتماد على الكتاب المقدس وحده مرجعاً أعلى، وأسست بذلك تيارات كبرى مثل اللوثرية في ألمانيا، والكالفينية في سويسرا، والأنجليكانية في إنجلترا التي جمعت بين عناصر كاثوليكية وبروتستانتية.

كما ظهرت حركات أخرى مثل المعمدانية والميثودية، ثم في العصر الحديث التيارات الإنجيلية والخماسينية التي أولت أهمية خاصة للتجربة الروحية الفردية والتبشير، وانتشرت بقوة في الولايات المتحدة وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

ومع هذا التوسع الجغرافي ظهرت في أفريقيا وأمريكا اللاتينية كنائس محلية مستقلة تمزج بين التعاليم المسيحية والتقاليد الثقافية للشعوب، ما منحها طابعاً مميزاً يعكس تفاعل المسيحية مع البيئات المختلفة.

وقد اعتُبرت هذه الكنائس علامة على استقلالية دينية وثقافية بعد عقود طويلة من الاستعمار.

ورغم الانقسامات التاريخية التي أفرزتها المجامع والاختلافات اللاهوتية، برزت في القرن العشرين حركات مسكونية تسعى إلى مد جسور الحوار بين الكنائس وتقريب المسافات بينها، مثل مجلس الكنائس العالمي الذي يضم طيفاً واسعاً من الأرثوذكس والبروتستانت، إضافة إلى المبادرات الثنائية مع الكنيسة الكاثوليكية.

وقد بات هذا التوجه يعكس رغبة مشتركة في تأكيد وحدة الإيمان المسيحي مع الحفاظ على التعددية الطقسية والروحية.

إن خريطة الكنائس المسيحية اليوم تكشف عن مشهد غني يجمع بين الامتداد الكاثوليكي العالمي، والعمق الروحي للأرثوذكسية، والحيوية المتجددة للبروتستانتية.

ورغم ما تخلل التاريخ من صراعات وخلافات، فإن هذا التنوع يشكل في النهاية جزءاً من التراث الروحي والحضاري الإنساني، ويمنح المسيحية طابعاً عالمياً قادراً على التكيف مع الأزمنة والثقافات المختلفة.