ذ. محمد جناي
إن من الفِطَر المركوزة في بني البشر تطلعهم إلى معرفة المجهول ، وتشوٌُقهم إلى معرفة المستقبل، و إلى إدراك ما سيصير إليه حالهم، فليس من البشر أحد إلا وهو يتطلع ويشتاق إلى معرفة ماذا سيكون ، وهذا أمر مركب في النفوس لا ينكره أحد، وهذا الميل الطبيعي أدى بالإنسان إلى محاولة معرفة ما سيحصل له في المستقبل، وحاول ذلك بوسائل متنوعة متعددة، باذلا جهده في الحصول على مصالحه ، والتحرز من الشرور التي قد تعرض له
وقد تطور ذلك التطلع للمستقبل بأخذ منحى علمي له ، إذ قدم بعض الفلاسفة تصورات مستقبلية في بعض كتاباتهم ؛ مثل فرانسيس بيكون (1626 م) في كتابه (أطلنطا الجديدة) حيث يطرح رؤية مستقبل العالم من خلال تصوره لمجتمع جديد يعتمد على العلم، وقدم فيه إشارات عن مخترعات علمية جاءت بعد ذلك بزمن طويل، وكذلك قدم توماس مالتوس (1843 م) دراسة بعنوان (نمو السكان) ، عن رؤيته المستقبلية لأحوال الطبقة العاملة في بريطانيا وتزايدهم.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي ونتيجة لسرعة التغير في هذه الحياة المعاصرة، واشتداد التنافس بين المجتمعات؛ ظهرت بدايات لدراسة المستقبل على أسس خاصة ، وكانت تهدف للسيطرة على الصور الممكنة للمستقبل، عن طريق توجيهها، باتخاذ الأساليب الملائمة لتحفيز الاحتمالات المرغوبة ، ومنع أو عرقلة الاحتمالات غير المرغوب فيها، ومن أوائل هذه الكتابات كتابات هيرمان كاهون (عام 2000 م) وجورج راسل بعنوان ( ماذا يكون الإنسان بعد ذلك ؟) ، وجورج سول بعنوان ( صورة الغد)، وهي وغيرها وضعت الأرضية التمهيدية لهذه الدراسات على أساس الطابع العلمي.
وبمرور الوقت تزايد الاهتمام بهذه الدراسات فتحولت من مجرد اجتهادات فكرية فردية إلى جهود علمية منظمة، حتى أنشئت من أجلها معاهد ومؤسسات علمية ووضعت فيها عشرات الدراسات والمقالات والمؤلفات ، وبرز فيها عدد من المتخصصين، وقد تأخر العالم الإسلامي في هذا المجال فلم يعرف فيه هذا النوع من الدراسات إلا قبل ثلاثين عاما تقريبا.
فقد عرفت الدراسات المستقبلية بأنها محاولة علمية تتكامل فيها الدراسات، لمعرفة جوانب صورة الحاضر وتحليلها والتعرف على مجرى الحركة التاريخية من خلال دراسة الماضي وملاحظة سنن الكون ، والانطلاق من ذلك كله إلى استشراف المستقبل، وصولا إلى طرح رؤية له ، تتضمن توقعات يحتمل حدوثها وبدائل وخيارات وأحلاما يجري التطلع لتحقيقها.
حيث باتت التطورات المتسارعة، التي تشهدها المنطقة والعالم من حولنا، وما تفرضه من تحديات مختلفة، اقتصادية وأمنية وعسكرية واجتماعية وثقافية، تتطلب استقراء تداعياتها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة في دول المنطقة؛ من أجل التوصل إلى رؤى استشرافية تساعد صانعي القرار على كيفية التعامل البناء معها، وخاصة أننا نعيش في عصر الأزمات والكوارث؛ وهو مايستدعي بالضرورة الاهتمام بالدراسات المستقبلية؛ من أجل تفعيل الاستراتيجيات الوقائية لمواجهة أي تحديات أو أزمات محتملة في المستقبل.
فالاستشراف ليس مجرد رسم تخيلات مستقبلية يضيف بها الإنسان إلى معارفه ويرضي بها النزعة البشرية التواقة إلى كشف ستر الغيب، وهو لا يقف عند حد إعمال الفكر والخيال واستخدام الحساب والقياس لبرامج المستقبل وآفاقه كافة، بل إن الاستشراف يتجاوز ذلك إلى تناول مشاهد المستقبل وتوقعاته المطروحة في أذهاننا، وإلى إعادة قراءة الواقع بكل جوانبه، الحضارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، بالقدر الذي يخدم إمكانية التعرف على ما يقدر أنه وضع مرغوب، وعلى آليات الوصول إلى ذلك.
الدراسات المستقبلية تقوم فكرتها على عدد من المسلمات والمبادئ والفرضيات الأساسية ، التي تنطلق منها وتتشكل من خلالها نظريات هذه الدراسات، والتي يمكن بفهمها معرفة مدى منطقية هذه الدراسات ومعقوليتها وأهم هذه المبادئ والمسلمات:
أولا : أهمية الزمن الحاسمة
ويتضح ذلك إذا تذكرنا أن مشكلات الحاضر لم تظهر فجأة ، بل هي تجمع وتراكم لمشكلات سنوات كثيرة ماضية، والمشكلات العويصة،والأزمات الكبيرة هي المشكلة الصغيرة التي أهملناها سابقا والتي كان يمكن التعامل معها بشكل أيسر وأسهل، وفي المقابل يمكن لتغيير بسيط يتم اليوم أن ينتج تحسينات رئيسة في السنوات القادمة ، والإشكال أن كثيرا من الناس لا يتنبه للمشكلة إلا حينما تتأزم وتتفاقم، وهذا ما يجعل للزمن أهمية كبيرة ؛ لأن الزمن هو الذي يجعل الأشياء سهلة الإنجاز أو مستحيله.
ثانيا: وحدة الكون وترابطه
من أساس التفكير المستقبلي أن الكون قطعة واحدة مترابطة، وبذلك لا يمكن الفهم الكامل لأي وضع أو موضوع منفرد بدون أن يؤخذ في الحسبان مكانه في الكل، وتأثره وتأثيره في غيره، ونتائج تفاعل التأثيرات والمؤثرات على الوضع الكلي وما يؤدي إليه، فالمستقبل عدد من الاحتمالات التي تتفاوت فيما بينهما بقدر التفاوت في مدخلاتها وتفاعل هذه المدخلات داخل كل خط أو احتمال.
ثالثا: أهمية الأفكار
فتصورات المستقبل هي المخططات والمسودات التي نستخدمها في بناء حياتنا، فالبنٌاء إذا أقنع الناس أنه سيبني فعلا بناية ، فإنه سيحصل على الأموال من الممولين، وستشاد البناية فعلا، فصورة المستقبل التي يحملها الناس في عقولهم تلعب دورا حاسما في تقرير المستقبل فعلا، وكما يمكن إشادة بناء إذا اعتقد الناس أنه سيشاد، فكذلك يمكن إقامة عالم مرغوب فيه إذا أمكن تصوره بشكل صحيح ، وكذلك فإن عقيدة الإنسان وفكره تصنع حاضره وتحدد نوعية مستقبله.
رابعا : درجة نجاح التنبؤ يعتمد على وفرة المعلومات ودقة ملاحظة التغيرات
فرصد التغير بأشكاله كافة ضروري ؛ لأن النجاح في إدراك المستقبل مرهون بالقدرة على إدراك عناصر التغير، وعلاقتها ببعضها بعضا، وبيان ذلك أن المستقبل بمعنى الفترة الزمنية التي لم تأت ؛ لا وجود له ؛ لأنه إذا وجد صار حاضرا، ولم يعد مستقبلا، إنما المستقبل الذي يدرس هو ما سيكون عليه موضوع ما ، أو وضع ما في فترة قادمة، وهذا الوضع أو الموضوع إنما يتكون من وضعه اليوم، وبذلك فأفكارنا عن المستقبل تنبثق من مفاهيمنا عما كان عليه العالم في الماضي وكيف رأيناه يتغير، ولذا تتفاوت درجة القدرة على التنبؤ بالمستقبل بين المجتمعات ، والمجتمعات المتقدمة بحكم ما توفر لها من معلومات ومعطيات عن نفسها ؛أقدر من المجتمعات النامية على رؤية مستقبلها.
فوفرة البيانات ودرجة مصداقيتها ودقتها تساعد على ترشيد التفكير المستقبلي ، وجعله أكثر صدقا.
خامسا: إمكانية الخطأ فيها لا يمنع الاستفادة منها
فالتنبؤات بأحوال الحياة الإنسانية عرضة جدا للخطأ؛ ولذا كثيرا ما يثبت خطأ التنبؤ أو الدراسة، ولكنها مع ذلك أفضل من عدم وجود أي دراسة أو تنبؤ، والسبب في احتمالية الخطأ ووروده إضافة إلى كونه جهدا بشريا قاصرا؛ أننا لا يمكن أن ندرك جميع أحوال الحياة الإنسانية، أضف إلى ذلك أن معرفتنا بالعالم نستخلصها من تجربتنا ومفاهيمنا ومشاعرنا، فالإنسان يدرك أن الشمس ستشرق صباح اليوم التالي من خلال تجربته المتكررة، وهذه التجارب والملاحظات عرضة للخطأ، وزيادة على ذلك فإننا نعتمد في معرفة الماضي على روايات الآخرين التي قد لا تكون دقيقة.
ولكن هذا الخطأ في التنبؤ والدراسة لا يمنع الاستفادة منها، ومثال ذلك الأرصاد الجوية التي يرد فيها الخطأ بدون شك، ولكن يعير الناس اهتمامهم بها لأهميتها.
وختاما :
تحظى الدراسات المستقبلية بأهمية كبيرة في عالمنا المعاصر ؛ فقد أصبحت من الضروريات التي لا غنى عنها الدول والمؤسسات على حد سواء ؛فالتطور المتسارع وغير المسبوق في مختلف المجالات يحتم على الدول والشعوب العمل باستمرار على استشراف المستقبل ، ووضع الخطط اللازمة لمواكبة تلك التطورات، كما أن الدول التي تسعى إلى تعزيز مكانتها الاقتصادية، والارتقاء بمستوى شعوبها، وتحقيق أعلى معايير ودرجات الرفاهية لها ، يجب أن تنظر بعين الحاضر إلى المستقبل ؛وذلك بالطبع بناء على دراسات عقلانية وموضوعية.
ويعد تحليل التطورات المستقبلية باتباع الطرق العلمية مدخلا إلى تطوير التخطيط الاستراتيجي، ويساعد على ترشيد عمليات صنع القرار ؛حيث يقدم قراءة واقعية لما يمكن أن يحدث في المستقبل، ويوفر سيناريوهات متعددة، ومن ثم مجموعة واسعة من البدائل والخيارات الممكنة التي تساعد صناع القرار على مواجهة التحديات ، وفي الوقت نفسه تجنب الأزمات قبل وقوعها، أو على الأقل التخفيف من حدتها وآثارها.
ــــــــــــــــ
هوامش
(1): من معالم المنهجية. الإسلامية للدراسات المستقبلية ، تأليف الدكتور هاني بن عبد الله بن محمد الجبير، كتاب مجلة البيان 108 ، سلسلة إصدارات مركز البحوث والدراسات 1429ه.
(2): كتاب الدراسات المستقبلية ، من إصدار مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الطبعة الأولى 2019 ، تأليف مجموعة من المؤلفين.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=16089